اعتبار جدة ميقاتا مكانيا (1)
مدة
قراءة المادة :
10 دقائق
.
اعتبار جدة ميقاتاً مكانياً (1)التكييف الفقهي للمسألة:
القائلون بأن جدة ليست ميقاتاً مكانياً، احتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على المواقيت؛ ولا اجتهاد مع النص، وأنه لا يوجد مشقة معتبرة في الإحرام بالطائرة، وأن راكب الطائرة يعتبر محاذٍ للميقات.
أما القائلون بأن جدة ميقاتاً مكانياً، فقد احتجوا بأن المواقيت المحددة من الشارع مجرد علامات لتنبيه القاصدين للنسك وليس متعبداً الإحرام مها، وأن الإحرام في الطائرة فيه مشقة والمشقة تجلب التيسير، وأن المحاذاة غير معتبرة في الطائرة.
وقد وجدت في المسألة خمسة أقوال:
المطلب الثاني: القول الأول وأدلته.
القول الأول: لا تعتبر جدّة ميقاتاً مكانياً ولا يجوز الإحرام منها إلاّ لأهلها، ومن أنشأ النية فيها، وهو قول الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله، وقرار هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، وبه قالت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء[1].
وهو قرار المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في سنة 1402هـ، ونص القرار (رقم القرار: 2 رقم الدورة: 5 حكم الإحرام من جدة للواردين إليها من غيرها:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين وسيد المرسلين، نبينا محمد.
أما بعد:
فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي قد ناقش في جلسته الثالثة صباح يوم الخميس الموافق 10/4/1402هـ.
والمصادف 4/2/1982م موضوع (حكم الإحرام من جدة، وما يتعرض له الكثير من الوافدين إلى مكة المكرمة للحج والعمرة عن طريق الجو والبحر)، لجهلهم عن محاذاة المواقيت التي وقتها النبي صلى الله عليه وسلم وأوجب الإحرام منها على أهلها، ومن مر عليها من غيرهم، ممن يريد الحج أو العمرة.
وبعد التدارس واستعراض النصوص الشرعية الواردة في ذلك قرر المجلس ما يلي:
أولاً: أن المواقيت التي وقتها النبي صلى الله عليه وسلم وأوجب الإحرام منها على أهلها، وعلى من مر عليها من غيرهم، ممن يريد الحج والعمرة هي: ذو الحليفة لأهل المدينة ومن مر عليها من غيرهم، وتسمى حالياً (أبيار علي).
والجحفة وهي لأهل الشام ومصر والمغرب، ومن مر عليها من غيرهم، وتسمى حالياً (رابغ).
وقرن المنازل، وهي لأهل نجد ومن مر عليها من غيرهم، وتسمى حالياً (وادي محرم) وتسمى أيضاً (السيل).
وذات عرق، لأهل العراق، وخراسان، ومن مر عليها من غيرهم، وتسمى (الضريبة).
ويلملم، لأهل اليمن ومن مر عليها من غيرهم.
وقرر: أن الواجب عليهم أن يحرموا إذا حاذوا أقرب ميقات إليهم من هذه المواقيت الخمسة جواً أو بحراً، فإن اشتبه عليهم ذلك ولم يجدوا معهم من يرشدهم إلى المحاذاة، وجب عليهم أن يحتاطوا وأن يحرموا قبل ذلك بوقت يعتقدون أو يغلب على ظنهم أنهم أحرموا قبل المحاذاة؛ لأن الإحرام قبل الميقات جائز مع الكراهة ومنعقد، ومع التحري والاحتياط، خوفاً من تجاوز الميقات بغير إحرام تزول الكراهة؛ لأنه لا كراهة في أداء الواجب، وقد نص أهل العلم في جميع المذاهب الأربعة على ما ذكرنا، واحتجوا على ذلك بالأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في توقيت المواقيت للحجاج والعمار.
واحتجوا أيضاً بما ثبت عن أمير المؤمنين عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، لما قال له أهل العراق: إن قرناً جَورٌ عن طريقنا؟ قال لهم - رضي الله عنه: انظروا حذوَها من طريقكم.
قالوا: ولأن الله سبحانه أوجب على عباده أن يتقوه ما استطاعوا، وهذا هو المستطاع في حق من لم يمر على نفس الميقات، إذا عُلم هذا فليس للحجاج والعمار الوافدين من طريق الجور والبحر ولا غيرهم أن يؤخروا الإحرام إلى وصولهم إلى جدة، لأن جدة ليست من المواقيت إلى وقتها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا من لم يحمل معه ملابس الإحرام، فإنه ليس له أن يؤخر إحرامه إلى جدة، بل الواجب عليه أن يحرم في السراويل إذا كان ليس معه إزار، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «من لم يجد نعلين فليلبس الخفين، ومن لم يجد إزاراً فليلبس السراويل».
وعليه كشف رأسه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عما يلبس المحرم قال: «يلبس القميص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف إلا لمن لم يجد النعلين».
الحديث متفق عليه.
فلا يجوز أن يكون على رأس المحرم عمامة ولا قلنسوة ولا غيرهما مما يلبس على الرأس.
وإذا كان لديه عمامة ساترة يمكنه أن يجعلها إزاراً اتزر بها، ولم يجز له لبس السراويل، فإذا وصل إلى جدة وجب عليه أن يخلع السراويل ويستبدلها بإزار إذا قدر على ذلك، فإن لم يكن عليه سراويل، وليس لديه عمامة تصلح أن تكون إزاراً حين محاذاته للميقات في الطائرة أو الباخرة أو السفينة، جاز له أن يحرم في قميصه الذي عليه مع كشف رأسه، فإذا وصل إلى جدة اشترى إزاراً وخلع القميص، وعليه عن لبسه القميص كفارة، وهي إطعام ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من تمر أو أرز أو غيرهما من قوت البلد، أو صيام ثلاثة أيام، أو ذبح شاة، هو مخير بين هذه الثلاثة، كما خير النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن عجرة لما أذن له في حلق رأسه وهو محرم للمرض الذي أصابه.
ثانياً: يكلف المجلس الأمانة العامة للرابطة بالكتابة إلى شركات الطيران والبواخر لتنبيه الركاب قبل القرب من الميقات، بأنهم سيمرون على الميقات قبل مسافة ممكنة.
ثالثاً: خالف عضو مجلس المجمع الفقهي الإسلامي معالي الشيخ مصطفى أحمد الزرقاء في ذلك، كما خالف فضيلة الشيخ أبو بكر محمود جومي عضو المجلس بالنسبة للقادمين من سواكن إلى جدة فقط.
وعلى هذا جرى التوقيع.
والله ولي التوفيق.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم).
انتهى.
واستدل القائلون بذلك بأدلة منها:
الدليل الأول: ما رواه ابن عباس رضي الله عنه قال: «وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الشام الجحفة...
فهن لهن ولمن أتي عليهن من غير أهلين لمن كان يريد الحج والعمرة فمن كان دونهن فمهله من أله وكذال حتى أهل مكة يهلون منها»[2].
وجه الدلالة:
وقّت معناه أنه لا يجوز تجاوز هذا المواضع لمن أراد الحج والعمرة إلا محرماً، وهو أمر متفق عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد عين ميقات كل طائفة فمن لم يهل من ميقاته لم يمتثل الأمر الشرعي، فلهذا لا يصح حجه[3].
ونوقش هذا الاستدلال:
بأن مرور الطائرة فوق سماء الميقات لا يصدق على أهلها أنهم أتوا الميقات المحدد لهم، لا لغة ولا عرفاً[4].
وأُجيب عن هذه المناقشة:
أن اللغة والعرف يقرّان أن من مرّ بطائرة أو سفينة فهو قد مرّ بالميقات، لأنه يخلو، إماً أن يسامته ويحاذيه من الأعلى، أو يمر فوقه؛ فيقال مرّت الطائرة على كذا، أو مرت السفينة على كذا، أو مرت بجوار كذا لأن كل إتيان بحسبه، وليس كله على نسق واحد[5].
الدليل الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»[6].
وجه الدلالة: أن من أحرم من جدة قد خالف الحديث فهو وقع فيما نهى عنه من مجاوزة المواقيت، ولم يأت بما استطاع ممّا أمر به فهو قادر على الإحرام من الطائرة لأنها حاذت الميقات ولا مشقة في ذلك[7].
[1] انظر مجلة البحوث الإسلامية عدد 6 (382)، وفتاوى اللجنة الدائمة جمع أحمد الدرويش (11/127)، وفتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم (5/214).
[2] أخرجه البخاري (2/555)، (1454) كتب الحج، باب مهل أهل الشام، ومسلم (2/839)، (1182) كتاب الحج، باب مواقيت الحج والعمرة.
[3] النوازل في الحج للشعلان (118).
[4] رسالة جواز الإحرام من جدة لركاب الطائرات لابن محمود (9).
[5] انظر فتاوى الشيخ عبدالعزيز بن باز (17/24).
[6] أخرجه البخاري 6/2658 (6858) كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله، ومسلم 2/975 (337) كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر.
[7] النوازل في الحج للشلعان (120).