منزلة الإجماع من التشريع
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
منزلة الإجماع من التشريعشارك في التأليف: الدكتور سامي صالح الوكيل.
الإجماع هو المصدر الثالث للتشريع، ويعرِّف علماء الأصول الإجماع بأنه "اتفاق جميع المجتهدين من الأمة في عصر من العصور بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم على حكم شرعي"[1].
والإجماع المعتبر عند جمهور الفقهاء، والذي يعد مصدرًا مستقلاًّ بذاته، هو إجماع الصحابة؛ وذلك لما ثبت بالكتاب من ثناء الله تعالى عليهم، قال عز وجل: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ﴾ [التوبة: 100]، وقوله تعالى ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ﴾ [الفتح: 29]، والصحابة امتازوا عن غيرهم بمشاهدة نزول التشريع، وسماع الوحي، والمعرفة التامة بما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم من أحوالٍ، وما صدر عنه من أحكام، مع ما توفَّر لهم من السلامة التامة في الحس اللغوي؛ ولذا يستحيل عقلاً اتفاقهم جميعًا على منكر من غير أن يقوم أحدٌ منهم بالتنبيه عليه، كما يستحيل عقلاً أن يجتمعوا على حكم أو يقطعوا به على سبيل الجزم من غير أن يكون لهم مستند في ذلك من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك فإجماع الصحابة يكشفُ عن وجود دليل من الوحي ثبت لديهم، كما يستحيل إجماع الصحابة على خطأ شرعًا؛ إذ لو جاز الخطأ في إجماعهم، لجاز الخطأ في الدين؛ لأنهم هم الذين نقلوا إلينا الدين بإجماعهم، وعنهم أخذنا دينَنا، وقام الدليل القاطع بقوله تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9] على حفظ الشريعة، وحفظُها يستلزم بالضرورة حفظَ إجماع الذين نقلوها إلى مَن بعدِهم مُنَزَّهة عن الخطأ والانحراف؛ ولذا فإن إجماع الصحابة دليل شرعي لا شك فيه.
أما إجماع غير الصحابة وعلماء العصور التالية، فإن الذي نختاره أنه لا يعدُّ مستقلاًّ بذاته، بل هو تابعٌ لمن قبلَهم من جيل الصحابة؛ حيث إنه لم يثبُتْ بدليلٍ قطعي لأهل أي عصر سوى الصحابة الثناءُ من الله تعالى ورسولِه صلى الله عليه وسلم كما لم يتحقَّق للعصور التالية ما تحقَّق لجيل الصحابة من مشاهدةِ التشريع، فضلاً عن تعذُّر تحقق إجماع جميع المجتهدين في العصور التالية لجيل الصحابة، وعليه؛ فلا إجماع للمجتهدين مستقلاًّ بذاته سوى إجماع الصحابة.
وقد شابه العديد من القوانين الوضعية ما تقرَّر في الإسلام من كون اتفاق المجتهدين على الحكم وإجماعهم يعد مصدرًا تشريعيًّا، ومع كون هذه التشريعات الوضعية لم تَرْقَ إلى الحد الذي جاء به الإسلام بشأن الإجماع، إلا أنها في مجملها جعلت الاتفاق: "أساس جميع القوانين تشريعًا وتطبيقًا،...
القوانين لا تصدر إلا بموافقة أغلبية الهيئات التشريعية، وأن النظريات القانونية التي يجمع عليها معظم الفقهاء لها قوَّة مُلزِمة وإن لم يصدر بها تشريع، وأن القوانين الوضعية تجعل الحكم عند تعدُّد القضاة واختلافهم يخضع لرأي الأغلبية، وعند اختلاف دوائر المحاكم العليا في تقرير المبادئ القانونية أو تفسير النصوص، يكون الحكم لأغلبية قضاة الدوائر مجتمعين، وهذا من غير شك لا يقارب الإجماع الأصولي، ومع ذلك اعتبروه ملزمًا"[2].
وقد فصَّل علماء الشرع في أحكام الإجماع الأصولي من حيث كونه صريحًا أو سكوتيًّا أو ضمنيًّا؛ كإقرار الجميع وموافقتِهم أحدَهم على ما يُظهِره، والمتتبعُ للفقهاء في كل عصرٍ يجدُ أنهم احتجُّوا بالقول الذي يظهَر من الصحابة إذا لم يُعلَم مخالفٌ له، وهو المعروف بالإجماع السكوتي؛ وذلك لأن "المعلوم من عادات الصحابة أنهم ما كانوا يسكتون عن قول الحق، وما كانوا يخشون لومة لائم، وما كانوا يخافون الجهر برأيهم"[3].
كما بيَّن علماء الأصول أن إجماع الصحابة مع استنادِه إلى الوحي من كتاب وسنة، إلا أنه مع هذا يعتبر مصدرًا مستقلاًّ بذاته؛ لأن احتياجه للمستند من كتابٍ وسنةٍ إنما يكون ابتداءً لتكوين الإجماع لا غير، ثم بعد ظهور الإجماع وتحقُّقه يمكن الاستنباط منه للمجتهد من غير احتياج أو ملاحظة المستند.
وإجماع الصحابة - سواء كان صريحًا أو سكوتيًّا - مصدرٌ غزير للأحكام الدستورية الشرعية؛ كأحكام البيعة والخلافة، ومصدر واسع للأحكام التنظيمية الشرعية في الدولة؛ نحو صلاحيات الحكام والولاة وعلاقات الرعية بهم؛ حيث إن الصحابة رضي الله عنهم في عهد الخلافة الراشدة كانوا: "قلة في العدد مجتمعين في المدينة معروفين مشتهرين، فكان من اليسر الوقوف على آرائهم، لا تعترض إجماعَهم عقباتٌ ولا صعوبات، خاصة أن عمر رضي الله عنه كان يُحرِّم على كبار الصحابة وأهل الرأي منهم مغادرة المدينة إلى البلاد المفتوحة...
(نظرًا أيضًا لما) اشتهر به الخلفاء الراشدون من عدم الاستبداد بالفتوى، والأخذ بالاستشارة، وعرض المسائل على الناس حين لا يجدون حكمًا لها في الكتاب أو السنة، فإن استقرَّ رأي الجماعة على حكمٍ، عملوا به..."[4].
ومع ثبوت حجيَّة الإجماع للأحكام الشرعية لدى كافة علماء الشريعة سلفًا وخلفًا، إلا أن بعض الكتَّاب المعاصرين خالف في ذلك، وادَّعى أن ما ثبت في جيل الصحابة من أحكام بالإجماع أمرٌ خاص بعصرهم، وأن الإجماع لذلك "لا يمكن أن يكون له مكان في العصر الحديث"[5]، وأن الإجماع "لا يعد في هذا العصر أداة تطور...
إنما يعد أداة جمود"[6]، وأنه "لا يجوز أن يعدَّ الإجماع تشريعًا عامًّا"[7]، وهذا الخطأ يعود إما إلى سوء الفهم الناجم عن الخلط بين ما يعدُّ أسلوبًا إجرائيًّا غير ملزم ثبَت عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وفي إجماع الصحابة، وبين الأحكام الصادرة عن هذين المصدرين والملزمة للأمة من بعدهم كتشريع، أو لأن الكثير من المعاصرين جعَلوا ما تُقرِّره النظم الدستورية الغربية الأساسَ في الحكم على ما جاء به الشرع بدلاً من أن يكون الشرع حَكَمًا على القوانين الوضعية؛ ولذلك عندما ظهر لهم أن العديد من الأحكام القانونية والدستورية الشرعية الثابتة عن طريق السنة والإجماع تُناقِضُ النظمَ الغربية المعاصرة، صار من غير المستساغ لديهم قَبولُها؛ مما أدى إلى قولهم بإلغاء حجية الإجماع أو السنة كمصادر تشريعية للأحكام الدستورية أو القانونية للدولة؛ وذلك هربًا من الالتزام بقبول هذه الأحكام الشرعية.
[1] د.
بدران، مرجع سابق، ص 112.
[2] الشيخ محمد مصطفى شلبي، المدخل في التعريف بالفقه الإسلامي، القاهرة، الناشر غير معروف، 1959، ص 178.
[3] د.
بدران، مرجع سابق، ص 122.
[4] المرجع السابق، ص 131.
[5] د.
متولي، مبادئ نظام الحكم في الإسلام، مرجع سابق، ص 51.
[6] المرجع السابق، ص 59.
[7] المرجع السابق، ص 61.