أرشيف المقالات

باب النجاسات

مدة قراءة المادة : 22 دقائق .
بَابُ النجاسات
 
باب النجاسات هو من أبواب كتاب الطهارة في الفقه، وفي هذه الرسالة سَنُبَيِّن ونشرح هذا الباب وكُل ما يتعلق به، نسأل الله تعالى التوفيق والسداد، والإخلاص والقَبول.
 
تعريف النجاسة:
النجاسة لغةً: هي كُلُّ مُستقذر.
النجاسة شرعاً: هي كُلُّ شيءٍ يستقذِرُهُ أهل الطبائع السليمة، وقَد أُمِرَ المُسلم أن يغسل ما أصابهُ منها.
 
الأشياء التي قام الدليلُ على نجاستها (نجاسة عينية):
1) البولُ:
هو سائل تفرزْه الكُلْيتان، فيجْتمع في المثانَةِ حتى تدفعه [المعاني الجامع].
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (بينما نحن في المسجدِ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابيٌّ.
فقام يبولُ في المسجدِ.
فقال أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: مَهْ مَهْ.
قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم " لا تُزْرِمُوه.
دَعُوهُ " فتركوه حتى بال.
ثم إن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له: " إن هذه المساجدَ لا تَصْلُحُ لشيءٍ من هذا البولِ ولا القَذَرِ.
إنما هي لِذِكرِ اللهِ عز وجل، والصلاةِ، وقِراءةِ القرآنِ "، أو كما قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
قال فأمر رجلًا من القومِ، فجاء بدَلْوٍ من ماءٍ، فشَنَّهُ عليه) رواهُ مُسلم.
 
2) الغائط:
الغائط في اللغة هو المكان المنخفض من الأرض، واستعير هذا اللفظ للخارج من الإنسان مجازاً ترفعاً عن ذكر القبيح، والمراد به ما يخرج من الدبر على وجه الخصوص.
عن أُم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا ذهبَ أحدُكمْ إلى الغائطِ فليذهبْ معَهُ بثلاثةِ أحجارٍ يستطيبُ بهنَّ فإنَّها تُجزئُ عنهُ " رواهُ أبو داود وصححه الألباني.
 
♦ أمَّا بول وروث ما يؤكل لحمه: فهو طاهر.
عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (سُئِلَ - رسول الله - عنِ الصَّلاةِ في مرابضِ الغنمِ، فقالَ: " صلُّوا فيها فإنَّها برَكَةٌ ") رواهُ أبو داود وصححه الألباني.
 
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (قَدِمَ أناسٌ من عُكْلٍ أو عُرَيْنَةَ، فاجْتَوَوْا المدينةَ، فأمرهم النبيِّ صلى الله عليه وسلم بلِقاحٍ - جمع لِقحة وهي الناقة -، وأن يشرَبوا من أبْوالِها وألْبانِها) رواهُ البخاري.
 
قال سيد سابق بعد الإستدلال بهذا الحديث على طهارة بول وروث ما يؤكل لحمه: (قال ابن المنذر: ومن زعم أن هذا خاص بأولئك الاقوام لم يصب، إذ الخصائص لا تثبت إلا بدليل قال: وفي ترك أهل العلم بيع بعار الغنم في أسواقهم، واستعمال أبوال الإبل في أدويتهم قديما وحديثا من غير نكير، دليل على طهارتها) [فقه السنة: 1 /27].
 
3) المذي:
هو ماءٌ أبيض رقيق لزج يَخرُجُ عند بداية الشهوة بدون دفق ولا يعقبه فتور ورُبما لا يُحِسُ بخروجه.
عن عليٌ رضي الله عنه قال: (كنتُ رجلًا مَذَّاءً، وكنتُ أستَحْيِي أَنْ أسأَلَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لمكانِ ابْنَتِه، فأَمَرْتُ المِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ فسألَه، فقال: " يَغْسِلُ ذَكَرَه، ويتوضَّأُ ") رواهُ مُسلم.
 
4) الودي:
هو ماء أبيض ثخين لزج يخرج بعد البول غالباً وربما يخرج قبله، ولا علاقة له بالشهوة، ولا يلزم منه إلا ما يلزم من البول.
عَنْ زُرْعَةَ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، يَقُولُ: " الْمَنِيُّ وَالْوَدْيُ وَالْمَذْيُ، أَمَّا الْمَنِيُّ: فَهُوَ الَّذِي مِنْهُ الْغُسْلُ، وَأَمَّا الْوَدْيُ وَالْمَذْيُ، فَقَالَ: اغْسِلْ ذَكَرَكَ أَوْ مَذَاكِيرَكَ وَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلاةِ " رواه البيهقي بسندٍ صحيح.
 
♦ أمّا المَني: وهو ماء أبيض ثخين لزج يتدفق في خروجه دفعة بعد دفعة ويخرج بشهوة ويتبعه فتور.
وهو طاهر.
 
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، عَنِ الْمَنِيِّ يُصِيبُ الثَّوْبَ، فَقَالَ: " إِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْبُصَاقِ وَالْمُخَاطِ، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَمْسَحَهُ بِخِرْقَةٍ، أَوْ إِذْخِرٍ " رواهُ البيهقي بسندٍ صحِيح.
 
قال ابن عثيمين رحمه الله: (أن هذا الماء أصل عباد الله المخلصين من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وتأبى حكمة الله تعالى أن يكون أصل هؤلاء البررة نجسًا) [الشرح الممتع: 1 /388].
 
5) القيء:
هو الْخَارِجُ مِنَ الطَّعَامِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهِ فِي الْمَعِدَةِ.
فمذهب عامة العلماء من السلف والخلف أنه نجس، وهو قول المذاهب الأربعة، والظاهرية، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وغيرهم.
ينظر: [بدائع الصنائع: 1 /60]، [مغني المحتاج: 1 /79]، [شرح منتهى الإرادات: 1 /102].
وحجتهم في ذلك: القياس على الغائط؛ لأن القيء قد استحال في المعدة إلى نتن وفساد، فكلاهما طعام أو شراب خرج من الجوف.
 
6) الدم:
هو السائلُ الحيوي الذي يسرى في الجهاز الدوري للإنسان والحيوان [المعاني الجامع].
♦ والدم منه ما هو نجس ومنه ما هو طاهر، حسب التفصيل التالي:
أ-الدم المسفوح من الحيوان الذي يؤكل لحمه: هو الدم الذي يخرج من الذبيحة عند الذبح، فيهراق ويسيل بكثرة ويتدفق.
حُكمُه: نجس.
قال الله تعالى: ﴿ قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [الأنعام: 145].
 
♦ أما الدم الذي يخالط اللحم، أو يبقى في العروق بعد الذبح فلا يسمى دماً مسفوحاً، وهو طاهر.
إلا الدم الباقي محل الذبح (عند الرقبة) فهو دمٌ مسفوح وهو نجس لأنه من بقية الجاري.
 
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (بينما رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يصلي عند البيتِ، وأبو جهلٍ وأصحابٌ له جلوسٌ، وقد نُحِرَتْ جزورٌ بالأمسِ.
فقال أبو جهلٍ: أيكم يقوم إلى سَلا جزورِ بني فلانٍ فيأخذه، فيضعه في كَتِفَي محمدٍ إذا سجد؟ فانبعث أشقى القومِ فأخذه.
فلما سجد النبيُّ صلى الله عليه وسلم وضعَه بين كتفَيه.
قال: فاستضحكوا.
وجعل بعضُهم يميلُ على بعضٍ.
وأنا قائمٌ أنظر.
لو كانت لي منَعَةٌ طرحتُه عن ظهرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
والنبيُّ صلى الله عليه وسلم ساجدٌ، ما يرفع رأسَه.
حتى انطلق إنسانٌ فأخبر فاطمةَ.
فجاءت، وهي جُويريةٌ، فطرحتْه عنه.
ثم أقبلت عليهم تشتُمُهم.
فلما قضى النبيُّ صلى الله عليه وسلم صلاتَه رفع صوتَه ثم دعا عليهم.
وكان إذا دعا، دعا ثلاثًا.
وإذا سأل، سأل ثلاثًا.
ثم قال " اللهمَّ عليك بقريشٍ " ثلاثَ مراتٍ.
فلما سمعوا صوتَه ذهب عنهم الضحكُ.
وخافوا دعوتَه.
ثم قال " اللهمَّ عليك بأبي جهلِ بنِ هشامٍ، وعتبةَ بنِ ربيعةَ، وشيبةَ بنِ ربيعةَ، والوليدِ بنِ عقبةَ، وأميةَ بنِ خلفٍ، وعقبةَ بنِ أبي مُعَيطٍ " (وذكر السابعَ ولم أحفظْه) فوالذي بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحقِّ! لقد رأيتُ الذين سمَّى صَرْعى يومَ بدرٍ.
ثم سُحِبوا إلى القَليبِ، قليبِ بدرٍ) رواهُ مُسلم.
 
فلو كان هذا الدم نجساً لخرج الرسول صلى الله عليه وسلم من صلاته.
 
قال ابن عثيمين رحمه الله: (الدم الذي يبقى في المذكاة بعد تذكيتها، كالدم الذي يكون في العروق، والقلب، والطحال، والكبد، فهذا طاهر سواء كان قليلاً، أم كثيراً) [الشرح الممتع: 1 /440].
 
وسُئلَ ابن باز رحمه الله: هل تصح الصلاة بالثياب الملطخة بدم الهدي؟ ومن صلى وبها دم فماذا عليه؟ وما الذي يؤثر دم الذبيحة أم الدم الذي في اللحم؟
فأجاب: (الثياب يجب غسلها أو إبدالها لا يصلي فيها وهى ملطخة بالدم، إما أن يغسلها وإما أن يبدلها، يغسلها ويؤخر الصلاة حتى يغسلها، وإذا كان عالما بالدم عامدا فيعيد، أما إن كان ناسياً أو جاهلا فما عليه إعادة، أما إذا كان عامداً ذاكراً وتساهل فعليه أن يعيدها، والمقصود الدم المسفوح الذي يخرج من الذبيحة، أما دم اللحوم فلا يضر، دم اللحوم الذي يبقى في الأعضاء والعروق هذا معفو عنه، والمقصود الدم الذي يخرج عند ذبح الذبيحة) [مجموع الفتاوى: 29 /219].
 
ب- دم الحيض: هو الدم الخارج من أقصى رَحِم المرأة بعد بلوغها، في وقت مخصوص، حال صحتها.
حكمه: نجس.
عن أسماء رضي الله عنها قالت: " جاءت امرأةٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
فقالت: إحدانا يصيبُ ثوبَها من دَمِ الحَيْضَةِ.
كيف تصنعُ به؟ قال تَحُتُّه.
ثم تَقْرُصُه بالماءِ.
ثم تنضحُه.
ثم تصلي فيه " رواهُ مُسلم.
ويقاس على دم الحيض؛ دم النفاس، ودم الإستحاضة، والدم الخارج من السبيلين.
 
ج- دم الآدمي غير الخارج من السبيلين:
حُكمُهُ:طاهِر.
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (خرَجنا معَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعني في غزوةِ ذاتِ الرِّقاعِ - فأَصابَ رجلٌ امرأةَ رجلٍ منَ المشرِكينَ، فحلَفَ أن لا أنتَهيَ حتَّى أُهَريقَ دمًا في أَصحابِ محمَّدٍ، فَخرجَ يتبعُ أثرَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فنزَلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم منزلًا، فقالَ: مَن رجُلٌ يَكْلؤُنا؟ فانتَدبَ رجلٌ منَ المُهاجرينَ ورجُلٌ منَ الأنصارِ، فقالَ: كونا بفَمِ الشِّعبِ، قالَ: فَلمَّا خرجَ الرَّجُلانِ إلى فَمِ الشِّعبِ اضطجعَ المُهاجريُّ، وقامَ الأنصاريُّ يصلِّي، وأتى الرَّجلُ فلمَّا رأى شخصَهُ عرفَ أنَّهُ ربيئةٌ للقومِ، فرماهُ بسَهْمٍ فوضعَهُ فيهِ فنزعَهُ، حتَّى رماهُ بثَلاثةِ أسهمٍ، ثمَّ رَكَعَ وسجدَ، ثمَّ انتبَهَ صاحبُهُ، فلمَّا عرفَ أنَّهُم قد نذَروا بِهِ هربَ، ولمَّا رأى المُهاجِريُّ ما بالأنصاريِّ منَ الدَّمِ، قالَ: سُبحانَ اللَّهِ ألا أنبَهْتَني أوَّلَ ما رمى، قالَ: كنتَ في سورةٍ أقرَؤُها فلَم أحبَّ أن أقطعَها) رواهُ أبو داود وحسَّنهُ الألباني.
 
وقال الحسن البصري رحمَهُ اللهُ: (ما زال المسلمونَ يُصَلُّونَ في جِرَاحاتِهِم) صححهُ الألباني.
 
7) الخمرُ:
قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوْهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُوْنَ ﴾ [المائدة: 90].
 
8) الميتة:
هي ما مات من غير تذكيه (أي من غير ذبح شرعي).
قال الله تعالى: ﴿ قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [الأنعام: 145]
 
ويلحق بالميتة ما قُطع من الحيوان وهو حَي فيكون له حكم الميتة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما قُطعَ من البَهيمةِ وهي حيَّةٌ فهي مَيتةٌ " رواهُ أبو داود وصححه الألباني.
ويستثنى من الميتة السمك والجراد فإنهما طاهرتان.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أحلَّت لَكُم ميتتانِ ودَمانِ، فأمَّا الميتَتانِ، فالحوتُ والجرادُ، وأمَّا الدَّمانِ، فالكبِدُ والطِّحالُ " رواهُ ابن ماجة وصححه الألباني.
 
9) لحم الخنزير:
﴿ قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [الأنعام: 145].
 
10) لُعابُ الكلبِ:
عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " طَهورُ إناءِ أحدِكم، إذا ولَغ فيه الكلبُ، أن يغسِلَه سبعَ مرَّاتٍ.
أُولاهنَّ بالتُّرابِ " رواه مسلم.
 
الطهارة من النّجاسة:
قبلَ أن نتكلم عن كيفية تطهير النجاسة لا بُدَّ أن نبين أنواع النجاسة؛ فالنجاسة نوعان:
النوع الأول: النجاسة العينية (الذاتية)، والمُراد بها: أن يكون الشيء نجساً بذاته، مثل: البول والغائط والدم والمسفوح والخنزير....إلخ، وهذا النوع لا يُمكن تطهيرُه؛ لإن عينهُ نجسة، فلا يؤثر فيها التطهير.
 
النوع الثاني: النجاسة الحُكمية، ويُراد بها: الشيء الطاهر المتنجس بوُرُودِ نجاسة عينية عليه، فإذا ورد أو طرأ على الشيء الطاهر شيءٌ من النجاسة العينية فيقال: إنَّ هذا الطاهر متنجّس أو نجس حُكماً، مثل: الثوب إذا أصابه البول، والسمن إذا وقع فيه ميتة، ونحو ذلك، وهذا النوع هو الذي يُبحَثُ في كيفية تطهيرِه، وهو الذي جاءت النصوص بالأمر بتطهيره.
 
كيفية تطهير النَّجاسة:
النجاسات ليست على درجة واحدة، بل تقسَّم إلى النجاسة المُغلَّظة والنجاسة المُخففة والنجاسة المتوسطة.
أ- النجاسة المُغلظة، مِثل لُعاب الكلب.
وكيفية تطهيره بغسل ما وقع عليه سبع مرات أولاهن بالتراب،: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " طَهورُ إناءِ أحدِكم، إذا ولَغ فيه الكلبُ، أن يغسِلَه سبعَ مرَّاتٍ.
أُولاهنَّ بالتُّرابِ " رواه مسلم.
وهذا الحُكم عام في الإناء وغيره، كالثياب، والجسد، والمكان.
 
ب- النجاسة المُخففة، مثل بول الغلام الذي لم يأكُل الطعام، ومثل المذي.
بول الغلام الذي لم يأكل الطعام كيفية تطهيره؛ بنضح ما وقع عليه بالماء بلا فرك ولا عصر.
عن أُم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت (أُتِيَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِصَبِيٍ، فبال على ثوبِه، فدعا بماءٍ فأتْبعَه إيَّاه) رواهُ البخاري
 
أما المذي فتطهير الفرج منه يكون بالاستنجاء منه بغسل الذكر، ثم الوضوء بعده عند إرادة الصلاة.
 
عن عليٌ رضي الله عنه قال: (كنتُ رجلًا مَذَّاءً، وكنتُ أستَحْيِي أَنْ أسأَلَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لمكانِ ابْنَتِه، فأَمَرْتُ المِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ فسألَه، فقال: " يَغْسِلُ ذَكَرَه، ويتوضَّأُ ") رواهُ مُسلم
 
وتطهير الثوب من المذي يكون برشه بالماء حتى يصيب محل النجاسة.
عن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال: (كنتُ ألقى منَ المَذيِ شدَّةً، وَكُنتُ أُكْثرُ منَ الاغتِسالِ، فسألتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن ذلِكَ، فقالَ: " إنَّما يجزيكَ من ذلِكَ الوضوءُ "، قلتُ: يا رسولَ اللهِ، فَكَيفَ بما يصيبُ ثوبي منهُ؟ قالَ: " يَكْفيكَ بأن تأخذَ كفًّا من ماءٍ، فتنضَحَ بِها من ثوبِكَ، حيثُ ترى أنَّهُ أصابَهُ ") رواهُ أبو داود وحسّنهُ الألباني.
 
ج- النجاسة المُتوسطة،هي بقية النجاسات.
مثل البول والغائط.
كيفية تطهيرها بغسلها حتى تزول عين النجاسة وأثرها.
 
وإن بقي لها أَثَرٌ بعد غسلها مراراً فلا بأس في ذلك؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أنَّ خولةَ بِنتَ يسارٍ أتتِ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم في حَجٍّ أو عُمرة فقالَت: يا رسولَ اللهِ، ليسَ لي إلَّا ثوبٌ واحدٌ، وأَنا أَحيضُ فيهِ، قالَ: فإذا طَهُرتِ فاغسِلي موضعَ الدَّمِ، ثمَّ صلِّي فيه، قالَت: يا رسولَ اللهِ، إن لم يَخرُجْ أثرُهُ، قالَ: يَكْفيكِ الماءُ، ولا يضرُّكِ أثرُهُ) رواهُ أحمد وصححه أحمد شاكر.
 
♦ تطهير جلود الحيوانات:
إن الجلد الحيواني له أربعة أحوال:
أولاً: أن يكون جلد حيوان مأكول اللحم، وقد ذُكّيَّ (ذبح) ذكاةً شرعية.
فهذه جلود طاهرة بإجماع أهل العلم، لأنها صارت طيبةً بالذكاة، كجلود الإبل، والبقر، والغنم، والظباء والأرانب وغيرها، سواء دبغت أم لم تدبغ.
قال ابن حزم رحمه الله: (وَاتَّفَقُوا أَن جلد مَا يُؤْكَل لَحْمه إذا ذُكّيَ: طَاهِرٌ، جَائِزٌ استعماله، وَبيعه) [مراتب الإجماع: 23].
وقال ابن جزيٍّ رحمه الله: (يجوز اتخاذ الأواني من جلد المُذكّى الجائز الأكل إجماعاً) [القوانين الفقهية: 26].
 
ثانياً:أن يكون جلد حيوان مأكول اللحم، ولكن الحيوان لم يذكَّى ذكاةً شرعية، بل إما أن يكون ميتة، وإما أن يكون قد ذبح ولكن بطريقة غير شرعية.
فهذا الجلد يكون نجساً، لأنه جزء من حيوان ميت والحيوان الميت نجس، ولا يطهر إلا بالدباغ، فإذا دُبغ صار طاهراً.
 
والدباغة هي: معالجة الجلود بمنظفات ومطهرات ليزول ما بها من نتن وفساد ورطوبة، وكان يستعملون لذلك القَرَظ (ورق شجر السَلَم)، والعَفْص، والشَّب (نبت طيب الرائحة)، وقشور الرمان..
 
وفي العصر الحديث يتم دباغة الجلود في المصانع الكبرى بواسطة بعض المواد الكيماوية التي تنقي الجلد وهي تؤدي الغاية نفسها...
فالدباغة تحصل بأي شيء يزيل النتن والخبث عن الجلد.
 
وجميع الجلود المستخدمة اليوم في الحقائب والملبوسات والأحذية ونحو ذلك، قد تم دباغها وتنظيفها من الرطوبة والدماء.
 
عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: تُصُدِّقَ على مولاةٍ لميمونةَ بشاةٍ، فماتت، فمرَّ بها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقال: " هلَّا أخذْتُم إهابَها، فدبغتموه، فانتفعتم به؟ " فقالوا: إنها مِيِّتَةٌ.
فقال: " إنما حُرِّمَ أكلُها ") رواهُ مُسلم.
 
وعَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، أَنَّ أَبَا الْخَيْرِ حَدَّثَهُ، قَالَ: (رَأَيْتُ عَلَى ابْنِ وَعْلَةَ السَّبَئِيُّ، فَرْوًا فَمَسِسْتُهُ، فَقَالَ: مَا لَكَ تَمَسُّهُ؟ قَدْ سَأَلْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ، قُلْتُ: إِنَّا نَكُونُ بِالْمَغْرِبِ، وَمَعَنَا الْبَرْبَرُ، وَالْمَجُوسُ، نُؤْتَى بِالْكَبْشِ، قَدْ ذَبَحُوهُ وَنَحْنُ لَا نَأْكُلُ ذَبَائِحَهُمْ، وَيَأْتُونَا بِالسِّقَاءِ، يَجْعَلُونَ فِيهِ الْوَدَكَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَدْ سَأَلْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: " دِبَاغُهُ طَهُورُهُ ") رواهُ مُسلم.
فهذا يدل على أن جلد ميتة الحيوان الذي يؤكل لحمه، يطهر بالدباغ.
 
ثالثاً: أن يكون جلد حيوان غير مأكول اللحم من غير السباع، مثل جلود الثعابين، والفيلة، والحمير، والقرود، والخنازير، ونحو ذلك.
فهذه الجلود وما أشبهها: نجسة، سواء ذبحت، أو ماتت، أو قُتلت، لأنها وإن ذُبحت لا تحل، ولا تكون طيبة.
وبالدباغة تُطهر هذه الجلود، إلا جلد الخنزير.
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إِذَا دُبِغَ الْإِهَابُ فَقَدْ طَهُرَ ") رواه مسلم.
 
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيُّما إهابٍ دُبغ فقد طهُر " رواه الترمذي وابن حبان وصححه أحمد شاكر والألباني.
 
والإهاب: هو الجلد قبل أن يُدبغ، وهي صيغة عموم تشمل جميع أنواع الجلود.
واستثني من ذلك جلد الخنزير؛ لأنه نجس في حال الحياة، فإذا كانت الحياة - وهي أقوى من الدباغة في التطهير - لم تطهره، فمن باب أولى الدباغة.
 
قال ابن عبد البر رحمه الله: أن قوله صلى الله عليه وسلم: (كل إهاب دُبغ فقد طَهُرَ) قد دخل فيه كل جلد، إلا أن جمهور السلف أجمعوا على أنَّ جلد الخنزير لا يدخل في ذلك [التمهيد: 4 /178].
 
رابعاً: أن يكون من جلود السِّباع، مثل جلد الأسد، والنمر، والفهد، والذئب، والدب، وابن آوى، والثعلب.
 
هذه الجلود تطهر بالدباغ مثل جلود باقي الحيوانات غير مأكولة اللحم، ولكن هذه الجلود لا يجوز استعمالها؛ لما ورد من النصوص الصحيحة في النهي عن استعمالها.
 
عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ عَنْ أَبِيهِ: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ أَنْ تُفْتَرَشَ) رواه الترمذي وصححه النووي والألباني.
 
وعن الْمِقْدَام بْن مَعْدِي كَرِبَ: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ لُبْسِ جُلُودِ السِّبَاعِ وَالرُّكُوبِ عَلَيْهَا) رواه أبو داود وصححه الألباني.
فهذه الأحاديث تدل على أن جلود السباع لا يجوز الانتفاع بها مطلقاً.
 
والعلة في النهي عن استعمال هذه الجلود: لما فيها من الكبر والخيلاء، ولأن فيها تشبهاً بالجبابرة، ولأنها زي أهل الترف والإسراف.
وعلى هذا، فلا يجوز استعمالها ولو طَهُرت بالدباغة.
 
♦ تطهير السمن والزيت:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (سُئِلَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن الفأرةِ تَقَعُ في السمنِ فقال: " إنْ كان جامدًا فألقوها وما حولَها وإنْ كان مائعًا فلا تقربُوه ") رواهُ أحمد وصححه أحمد شاكر.
وهذا في حال إذا مات الفأر داخل السمن، فهو ميتة نجسة.
وأما إن خرج حيّاً فإن السمن لا ينجس؛ لأن الفأر حال حياته طاهر.
فإذا وقعت نجاسة على السمن الجامد؛ تطرح النجاسة وما حولها من السمن الجامد.
وإذا وقعت نجاسة على السمن المائع أو الزيت؛ ينجس جميع المائع.
وهذا بخلاف الماء؛ فالماء لا ينجس إلا إذا تغيَّر لونه أو طعمه أو رائحته.
 
نسأل الله العليم أن يرزقنا العلم والفهم، ونسأله تعالى أن يستعملنا لنصرة دينه؛ إنه هو الكريم.

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير