تنظيم النسل (2)
مدة
قراءة المادة :
12 دقائق
.
تنظيم النسل (2)تحرير محل النزاع في حكم تنظيم النسل:
اتفق الفقهاء المعاصرون على مشروعية تنظيم النسل لمصلحة طبية ضرورية ترجع إلى المرأة التي يهلكها الحمل المتتابع؛ لعموم قوله تعالى:﴿ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ [البقرة: 195].
واتفقوا أيضا على تحريم تنظيم النسل، أو تحديده في ثلاث صور، هي:
1- إذا كان بصفة جماعية ملزمة من الدولة؛ لأنه يخالف الحريات والحقوق الإنسانية، ويفضي إلى قتل الأجنة في الأرحام إن حدث الحمل على غير قانون التنظيم.
2- إذا كان بوسيلة منهي عنها كالقتل، أو الإجهاض المحرم؛ لعموم قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ﴾ [الإسراء: 33]، ولأن الوسائل لها أحكام المقاصد.
3- إذا كان بقصد الخوف من عدم الرزق؛ لأنه يخالف العقيدة بقوله سبحانه ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ﴾ [هود: 6]، وقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ﴾ [الإسراء: 31].
وقد اختلف الفقهاء المعاصرون في تنظيم النسل إذا كان بصفة فردية باتفاق الزوجين، وبوسيلة مشروعة ليس فيها قتل، أو إجهاض محظور بناء على اختلاف الفقهاء القدامى في العزل[1].
وأكثر الفقهاء المعاصرين يقولون بجواز تنظيم النسل قياسا على العزل بثلاثة شروط:
الشرط الأول: أن يكون الباعث على تنظيم النسل مشروعا ككون المرأة لا تلد ولادة عادية، وتضطر معها إلى إجراء عملية جراحية لإخراج الولد، أو يقع ضرر على طفلها الذي ترضعه، ولا يكون الباعث خشية الفقر، والعوز.
الشرط الثاني: أن تكون الوسيلة مشروعة.
الشرط الثالث: أن تكون الوسيلة مؤقتة غير دائمة، وهو ما يُعرف بالتعقيم.
فقد جاء في قرار مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت 1409هـ، 1988م بشأن تنظيم النسل ما يلي[2]:
أولا: لا يجوز إصدار قانون عام يحد من حرية الزوجين في الإنجاب.
ثانيا: يحرم استئصال القدرة على الإنجاب في الرجل، أو المرأة وهو ما يعرف بالإعقام أو التعقيم, ما لم تَدعُ إلى ذلك الضرورة بمعاييرها الشرعية.
ثالثا: يجوز التحكم المؤقت في الإنجاب بقصد المباعدة بين فترات الحمل، أو إيقافه لمدة معينة من الزمان إذا دعت إليه حاجة معتبرة شرعا بحسب تقدير الزوجين عن تشاور بينهما وتراض بثلاثة شروط:
أحدها: أن لا يترتب على ذلك ضرر.
الثاني: أن تكون الوسيلة مشروعة.
الثالث: أن لا يكون فيها عدوان على حمل قائم.
وجاء قرار مجلس هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية في دورته الثامنة المنعقدة في النصف الأول من شهر ربيع الآخر عام 1396هـ بشأن موضوع منع الحمل وتحديد النسل وتنظيمه:
إن المجلس يقرر بأنه لا يجوز تحديد النسل مطلقا، ولا يجوز منع الحمل إذا كان القصد من ذلك خشية الإملاق؛ لأن الله تعالى هو الرزاق ذو القوة المتين، وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، أما إذا كان منع الحمل لضرورة محققة ككون المرأة لا تلد ولادة عادية وتضطر معها إلى إجراء عملية جراحية لإخراج الولد، أو كان تأخيره لفترة ما لمصلحة يراها الزوجان فإنه لا مانع حينئذ من منع الحمل أو تأخيره عملا بما جاء في الأحاديث الصحيحة، وما روي عن جمع من الصحابة رضي الله عنهم من جواز العزل، وتمشيا مع ما صرح به بعض الفقهاء من جواز شرب الدواء؛ لإلقاء النطفة قبل الأربعين، بل قد يتعين منع الحمل في حال ثبوت الضرورة المحققة[3].
هل یصح للدولة أن تصدر قانونا لتنظيم الأسرة أو النسل؟
لا يصح ذلك؛ لأن مسألة تنظيم الأسرة من المسائل الشخصية التي تتعلق بالزوجين وحدهما، وهي تختلف من أسرة إلى أسرة على حسب ظروفها وأحوالها، وما يتعلق بالزوجين لا تعالجه القوانين[4].
فصل: في ذكر بعض فتاوى دار الإفتاء المصرية:
قال الشيخ حسن مأمون «ت 1393هـ» رحمه الله: إن من أهم مقاصد الشريعة الإسلامية إيجاد النسل وبقاء النوع الإنساني وحفظه، ولذلك شُرع الزواج للتناسل، وتحصين الزوجين من الوقوع في الحرام، وحث الرسول صلى الله عليه وسلمعلى اختيار الزوجات المنجبات للأولاد، كما شرع ما يحفظ النسل من تحريم الزنا والإجهاض.
ومنعُ النسل أو تحديده من الأعمال التي تنافي مقاصد النكاح، ولهذا لا تبيحه الشريعة إلا عند الضرورة وعند وجود عذر يقتضيه كالخوف على حياة الأم ونحوه، وليس من الأعذار خوف الفقر وكثرة الأولاد أو تزايد السكان؛ لأن الله سبحانه وتعالى تكفل بالرزق لكل كائن حي حيث قال تعالى: ﴿ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ﴾ [الذاريات: 22، 23].
وقال سبحانه وتعالى: ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [هود: 6].
وقال تبارك وتعالى: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 31][5].
وقال الشيخ أحمد محمد عبد العال هريدي «ت 1404هـ» رحمه الله: قد يصدق تحديد النسل في تصور الكثيرين على إلزام الأمة كلها بأن تقف بالنسل عند حد معين لا يجوز للأسر ولا للأفراد أن تتجاوزه، أو تزيد عليه بمقتضى قانون عام يلزم الناس بذلك، وتحديد النسل بهذا المعنى يتنافى مع طبيعة الحياة المتجددة المتغيرة التي لا يمكن إخضاعها لنظام ثابت، أو السير بها في خط لا يتغير، ويتنافي أيضا مع حكمة الله تعالى في خلق هذا الوجود، وخلق الإنسان لعمارة الكون، واستغلال الأرض، وتسخير ما في الكون من مقومات الحياة وأسباب البقاء لازدهار الحياة واستمرار البقاء، ومن ثم كان تحديد النسل بالمعنى المذكور منافيا لأحكام الشريعة العامة، وغير متفق مع اتجاهاتها الأساسية في تكون المجتمع الإسلامي، وإقامة بنائه ونظامه.
ولقد رغبت الشريعة في تكثير النسل عن طريق الزواج، وعَدَّ الله سبحانه وتعالىالزواج والتناسل وكفالة الأرزاق من نعمه على عباده وامتن عليهم بها ﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ ﴾ [النحل: 72]؛ لأن كثرة النسل من أعظم أسباب قوة الأمة الإسلامية اجتماعيا واقتصاديا وحربيا، ومن أقوى دعائم عزتها ومنعتها.
أما تحديد النسل بمعنى تنظيمه وتقليله ومباعدة ما بين فترات الحمل لأسباب تقتضي ذلك وتبرره فقد عرضت الشريعة الإسلامية لحكمه في الأحاديث النبوية التي بينت حكم العزل، وهو نزع الرجل عن المرأة عند الجماع وإنزاله الماء خارج المحل وبعيدا عنه منعا للولد، وقد اختلف الفقهاء في حكم تنظيم النسل إجازة أو منعا تبعا لاختلافهم في حكم العزل إجازة أو منعا كذلك[6].
وقال جاد الحق على جاد الحق «ت 1416هـ» رحمه الله: المقصود بتنظيم النسل هو المباعدة بين فترات الحمل؛ محافظة على صحة الأم، وحفظا لها من أضرار كثرة الحمل أو الولادة المتتالية؛ لتفرغها لتربية من لديها من أولاد، أما إذا قُصد من منع الحمل وقف الصلاحية للإنجاب نهائيا، فإن ذلك أمر يتنافى مع دعوة الإسلام ومقاصده في المحافظة على نسل الإنسان إلى ما شاء الله، وقولُ الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ﴾ [الإسراء: 31]، لا يتنافى مع ما قال به جمهور فقهاء المسلمين من إباحة العزل عن الزوجة؛ قصدا لتأخير الحمل، أو وقفه مؤقتا؛ لعذر من الأعذار المقبولة شرعا؛ لأن هذه الآية جاءت في النهي عن قتل الأولاد، ومنع حدوث الحمل بمنع التلقيح الذي هو النواة الأولى في تكوين الجنين لا يعد قتلا؛ لأن الجنين لم يتكون بعد إذا ما تم العزل، ولم يلتق مني الزوج ببويضة الزوجة إذ لم يتخلقا، ولم يمرا بمراحل التخلق[7].
قال الدكتور محمد سيد طنطاوي «ت 1431هـ» رحمه الله: إن تحديد النسل بمعنی منعه منعا مطلقا ودائما حرام شرعا، ومثله التعقيم الذي هو القضاء على أسباب النسل نهائيا، وأما الإجهاض وهو قتل الجنين في بطن أمه أو إنزاله فقد أجمع الفقهاء أيضا على حرمته، وأنه لا يجوز إلا إذا حكم الطبيب الثقة بأن في بقاء هذا الجنين هلاكا للأم أو ضررا بليغا سيصيبها بسبب بقائه في بطنها[8].
وقال الشيخ أحمد الطيب:إذا كانت الوسائل المستخدمة والمطروحة لتحديد النسل يقصد منها قطع الإنجاب مطلقا، وتجعل أحد الزوجين أو كليهما غير صالح للإنجاب مستقبلا فهي محرمة شرعا، كالتعقيم للزوج، أو ربط المبايض للمرأة سواء كان ذلك بدواء أو جراحة إلا إذا كان الزوجان أو أحدهما مصابا بمرض موروث، أو ينتقل بالوراثة، أو قرر الطبيب الثقة أن الحمل يصيب المرأة بضرر محقق لو حملت، أما إذا كانت الوسائل المستخدمة يقصد منها تنظيم النسل حسب الأحوال والظروف، فإن التنظيم مباح شرعا، وكل وسائل تنظيم النسل حلال، ولا شيء فيها[9].
[1] ينظر: منظمة المؤتمر الإسلامي بجدة، مجلة مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة، العدد الخامس، المجلد الأول، ومجلة البحوث الإسلامية، العدد الخامس، الإصدار من المحرم إلى جمادى الآخرة لسنة 1400هـ، صـ (128).
[2] ينظر: منظمة المؤتمر الإسلامي بجدة، مجلة مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة، العدد الخامس، (1/ 748).
[3] ينظر: مجلة البحوث الإسلامية، العدد الخامس، الإصدار من المحرم إلى جمادى الآخرة، صـ (128).
[4] يُنْظَر: الفتاوى الإسلامية من دار الإفتاء المصرية، (14/ 208).
[5] يُنْظَر: الفتاوى الإسلامية من دار الإفتاء المصرية، (15/ 32-33).
[6] يُنْظَر: الفتاوى الإسلامية من دار الإفتاء المصرية، (10/ 47-49).
[7] يُنْظَر: الفتاوى الإسلامية من دار الإفتاء المصرية، (17/ 158).
[8] السابق، (14/ 202).
[9] يُنْظَر: الفتاوى الإسلامية من دار الإفتاء المصرية، (27/ 204-205).