أرشيف المقالات

حق التأليف

مدة قراءة المادة : 15 دقائق .
حق التأليف


الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد؛ أما بعد:
فإن التأليف داخل في المنافع، والمنافع داخلة في مصطلح المال في رأي جمهور الفقهاء -خلافًا للحنفية - وتعريفاتهم للمال متقاربة[1]، والمختار منها في تعريف المال هو: "ما يباح نفعه مطلقًا، واقتناؤه بلا حاجة"[2]، والمنافع "يصح تمليكها في حال الحياة، وبعد الموت، وتضمن باليد والإتلاف، ويكون عوضها عينًا ودَينًا"[3].
 
والتأليف والاختراع أو الابتكار لها في العُرْفِ قيمة مالية معتبَرة لتموُّل الناس لها، "والمالية تثبت بتمول الناس كافة أو بعضهم"[4]، يقول الشافعي: "ولا يقع اسم مال إلا على ما له قيمة يُباع بها"[5]، ومفاده أن العرف هو المرجع لمالية الأشياء[6].
 
وقد جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم: 43 (5/ 5) بشأن الحقوق المعنوية:
"أولًا: الاسم التجاري، والعنوان التجاري، والعلامة التجارية، والتأليف والاختراع أو الابتكار هي حقوق خاصة لأصحابها أصبح لها في العرف المعاصر قيمة مالية معتبرة لتمول الناس لها، وهذه الحقوق يُعتَدُّ بها شرعًا؛ فلا يجوز الاعتداء عليها...
 
ثالثًا: حقوق التأليف والاختراع أو الابتكار مصونة شرعًا، ولأصحابها حق التصرف فيها، ولا يجوز الاعتداء عليها"[7].
 
وقد تكون كل هذه الأمور من الاسم التجاري وما بعدها تعارف على ماليتها في العصر الحديث، لكن التعارف على مالية التأليف كانت من قديم، فمن المتقدمين من "جعل التأليف حانوته ومنه قوته"[8]، والعلماء يبيعون مؤلفاتهم من غير نكيرٍ في عامة ديار الإسلام وعلى تطاول الأزمان[9]، وقد يُهْدِي المتقدم كتابه للسلطان فينال منه الجوائز والأموال.
 
والمتقدمون يعدون التأليف حقًّا لصاحبه لا يجوز الاعتداء عليه إلا بإذنه؛ قال المروذي: "قلت لأبي عبدالله: رجل سقطت منه ورقة فيها أحاديث فوائد فأخذتها، ترى أن أنسخها وأسمعها؟ قال: لا إلا بإذن صاحبها"[10]، وعدوا أخذَه دون علمه سرقةً؛ فقد ذكر ابن القيم من أنواع السُّرَّاق: "السراق بأقلامهم"[11]، ووجَّهوا سهام نقدهم لهم، ووصفوا عددًا من الرواة بأنهم يسرقون الحديث، وجعلوا ذلك قدحًا تُرَدُّ به رواياتهم[12]، وكل هذه أدلة على أن التأليف عندهم حق لصاحبه، وله المعاوضة عليه؛ لـ"أن ما جاز الانتفاع به جاز شراؤه وبيعه، إلا ما خص بدليل"[13]؛ قال ابن تيمية: "حقوق الآدميين تقبل من المعاوضة والبدل ما لا يقبلها حقوق الله تعالى، ولا تمنع المعاوضة في حق الآدمي، إلا أن يكون في ذلك ظلم لغيره، أو يكون في ذلك حق لله، أو يكون من حقوق الله"[14].
 
فرع: "المراد بالتأليف في هذا المقام، ما ينطوي على عمل إبداعي أيًّا كانت درجته من الأهمية، فأما التأليف الذي يُطلَق في بعض الأحيان - تبعًا - على عملية نقل مجردة، أو تجميع عارٍ عن أي تركيب إبداعي يبرز فائدة جديدة لم تكن معروفة ولا واضحة، فهو وإن اندرج تبعًا تحت اسم التأليف، لا يمكن أن يدخل في معنى الإبداع أو الابتكار"[15].
 
وقد ذكر ابن خلدون مقاصد التأليف؛ وهي:
1- استنباط العلم بموضوعه، وتقسيم أبوابه وفصوله، وتتبع مسائله، أو استنباط مسائل ومباحث.
 
2- إبانة مستغلق على الأفهام.
3- إصلاح غلط أو خطأ.
4- أن يجد نقصًا فيتممه.
 
5- أن تكون مسائل العلم قد وقعت غير مرتبة في أبوابها ولا منتظمة، فيرتِّبها ويهذِّبها.
6- أن تكون مسائل العلم مفرَّقة في أبوابها من علوم أخرى فيجمع مسائلها.
 
7- أن يلخص مطوَّلًا، بالاختصار والإيجاز وحذف المتكرر، إن وقع، مع الحذر من حذف الضروري لئلا يُخِلَّ بمقصد المؤلف الأول[16].
 
ثم قال: "فهذه جماع المقاصد التي ينبغي اعتمادها بالتأليف ومراعاتها، وما سوى ذلك، ففعل غير محتاج إليه، وخطأ عن الجادة التي يتعين سلوكها في نظر العقلاء؛ مثل: انتحال ما تقدم لغيره من التآليف أن ينسُبَه إلى نفسه ببعض تلبيس، من تبديل الألفاظ، وتقديم المتأخر وعكسه، أو يحذف ما يحتاج إليه في الفن، أو يأتي بما لا يحتاج إليه، أو يبدل الصواب بالخطأ، أو يأتي بما لا فائدة فيه، فهذا شأن الجهل والقُحَّة"[17].
 
والملاحظ أن كثيرًا من المؤلفات - بخاصة في هذا العصر الذي كثرت فيها البرامج التي تجمع فيها العديد من الكتب ويسهل منها النقل - ليس فيها مقصد من هذه المقاصد، وهي عالة على مؤلفات غيرهم، وليس فيها أي جِدَّة أو ابتكار، ولا جهد يذكر؛ لذلك لا يحق لأصحابها أن يحتكروا حقوقها.
 
فرع: حق التأليف يقتصر على المتاجرة والتربُّح والتوزيع الذي يضر ببيع المؤلف، فليس لأحد أن يتاجر بجهد غيره، أو يوزِّعه دون إذنه، وأما الاستعمال الشخصي والبذل دون عِوَضٍ، فليس لأحد المنع منه؛ وقد سُئل ابن عثيمين عن عبارة "حقوق الطبع محفوظة"، فأجاب :"الظاهر لي أنه إذا كان النسخ يعني على وجه خاص شخصي أنه لا بأس، وأما إذا كان للاتجار...
فإنه لا يجوز؛ لِما في ذلك من الاعتداء على حق أخيه، أما طالب يريد أن ينسخ من طالب فلا بأس"[18]، وقال: "الذي أرى أن الإنسان إذا نسخها لنفسه فقط فلا بأس، وأما إذا نسخها للتجارة فهذا لا يجوز؛ لأن فيه ضررًا على الآخرين، يشبه البيع على بيع المسلم؛ لأنهم إذا صاروا يبيعونه بمائة ونسخته أنت وبعته بخمسين، هذا بيع على بيع أخيك"[19]، وسُئل عن التوزيع دون اتِّجار فأجاب بقوله: "الظاهر لا يجوز أيضًا؛ لأن التوزيع هذا يؤثر على تجارة الموزع الأول"[20].
 
فرع: إذا كسب المؤلف ما يوازي جهده، فليس له الحق أن يحتكر ما ينفع الناس، بخاصة إذا كان للناس حاجة له؛ قال ابن عثيمين: "إذا علمنا أن الـمصدر الأول محتكر؛ بمعنى أنه قد كسب أكثر مما أنفق، فحينئذٍ ليس له حق أن يحتفظ بحقوق الطبع، ولكن إذا علمنا أن الرجل لو أنه فُتِح الباب، وطُبِعت هذه النسخ يتضرر، فشَرَط ألَّا يطبعها، فلا بأس"[21]، ويقول الشيخ عبدالكريم الخضير: "العلم كذلك مشاع للجميع، لكن يبقى أنه إذا تعب عليه ...
فإنه لا مانع من أن يحتفظ بحقوقه، وإذا احتفظ بحقوقه، فإنه لا يجوز أن يتعدى عليه أحد، يبقى أنه إذا أخذ حقوقه، واستوفى حقوقه منه بقدر ما تعب عليه، يرجع إلى أصله وأنه مشاع"[22].
 
فرع: إذا زاد المؤلف السعر على سعر السوق بسعر مبالغ فيه، وكان للناس حاجة إلى مؤلفه واحتكره، فلغيره أن يطبعه ويبيعه بسعر السوق؛ وقد سُئل ابن عثيمين عن قولهم: "حقوق الطبع محفوظة"، فقال: "ما فيها شيء؛ لأنه قد تعب عليه بالطبع والتصفيف ونحو ذلك، إلا أن يضار بأن كان يربح 25% مثلًا، كما يربح السوق فزاده مثلًا إلى 100%، فلا نطيعه في ذلك، ولنا الحق حينئذٍ أن نطبع ونبيع بسعر السوق، ولا نستأذنه"[23].
 
فرع: إن أذِن المؤلف بنتاجه، فلا يحق لأحدٍ أن يحتكر حقوقه، ويتربح عليها، وإن قام بطبعها، فليس له المتاجرة فيها بأخذ أكثر من تكلفة الطباعة، وهو آثم إن تاجر فيها أو منع حقوقها؛ لأنه منع الناس من الانتفاع بعلم سمح صاحبه بنشره، وقد ظلم صاحب الحق بحبس علمه من الانتشار، وظلم الناس من الانتفاع بهذا العلم.
 
فرع: إذا علم المشتري أن هذا المؤلف منسوخ للمتاجرة دون إذن المؤلف، فإنه لا يجوز له أن يشتريه؛ لِما فيه من المعاونة على الإثم والعدوان على حق المؤلف، وإذا لم يعلم فلا شيء عليه[24].
 
فرع: ينبغي لطالب العلم الشرعي إن لم تَدْعُه الحاجة الماسة لأخذ العوض أن يبذل علمه للنشر والانتفاع؛ فهذا يعود عليه بالنفع الكبير، والأجر العظيم، ولعل الله يخلف له خيرًا مما ترك من العوض، وفيه مصالح منها: الانتشار والرواج، وإغناء المكتبة الإسلامية، ونشر العلم الشرعي؛ يقول الشيخ بكر أبو زيد: "الأَولَى للعالم المسلم إذا لم تَدْعُه حاجة ألَّا يأخذ عوضًا على مؤلفاته في أمور الشرع، وإن دَعَتْهُ حاجة أخذ بقدرها، ومن أغناه الله، فالأولَى له التعفف في ذلك"[25].
 
وطالب العلم مَدِين لأهل العلم قبله، فعلمه ليس إلا حلقة في سلسلة تسبقها حلقات، فهو إذا كان قد أعان مَن جاء بعده، فقد استعان بمن سبقه، ويظهر ذلك جليًّا في البحوث الشرعية، فإن جُلَّ مادة هذه البحوث مأخوذة من التراث، من كتاب الله، ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن أقوال الصحابة وفقهاء هذه الأمة، وهذا التراث ليس ملكًا للباحث حتى يدَّعِيَ أن ذلك من حقوق الملكية[26].
 
وقد كان من سُنَّة علماء الشريعة المعاصرين الكبار أنهم ينشرون العلم، ويأذنون بطباعة كتبهم لمن أراد الانتفاع بها، فابن عثيمين أذِن بطبعها لمن أراد أن يطبعها بشرط العناية بالتصحيح، وألَّا يحتفظ بحقوق الطبع لنفسه ولا لغيره[27]، وكذا الشنقيطي صاحب الأضواء؛ فقد ذكر عنه الشيخ بكر أبو زيد أنه كان يزجر من أخذ المال على كتبه، وقال: "قلت له: لو طبع أضواء البيان طبعة تجارية، لكان أكثر لانتشاره، فقال: لا، أتاجر في البيان لكتاب الله تعالى؟! وما أظن أحدًا يجترئ على كتابي فيبيعه فأدعو عليه إلا أن تصيبه الدعوة"[28].
 
وثقافة حفظ الحقوق واحتكار المؤلفات دخيلة على ثقافتنا الإسلامية، فقد كان علماء الشريعة يبذلون العلم، ويحتسبون الأجر بنشره، بل إن منهم من يفرح بنشر علمه، ولو لم يُنسَب له؛ قال الربيع: "سمعت الشافعي، ودخلت عليه وهو مريض، فذكر ما وضع من كتبه، فقال: لوددت أن الخلق تعلمه، ولم يُنسَب إليَّ منه شيء أبدًا"[29].
 
هذا ما تيسر كتابته في هذا الموضوع، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

[1] انظر: الفواكه الدواني، للنفراوي 2/ 281، أسنى المطالب، للأنصاري 2/ 301، منتهى الإرادات، لابن النجار 1/ 244.

[2] منتهى الإرادات، لابن النجار 1/ 244.

[3] المغني، لابن قدامة 5/ 322.

[4] حاشية ابن عابدين 4/ 501.

[5] الأم، للشافعي 5/ 171.

[6] انظر: المعاملات المالية المعاصرة، لعثمان شبير، ص63.

[7] قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي، ص149-150.

[8] لسان الميزان، لابن حجر 6/ 263.

[9] انظر: فقه النوازل، لبكر أبو زيد 2/ 135-138.

[10] الآداب الشرعية، لابن مفلح 2/ 168.

[11] إعلام الموقعين، لابن القيم 3/ 258.

[12] انظر: سير أعلام النبلاء، للذهبي 1/ 386، 9/ 431، 10/ 530، 12/ 9، 147، المجروحين، لابن حبان 2/ 46، تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي 7/ 345، 8/ 161، ميزان الاعتدال، للذهبي 4/ 138.

[13] الاستذكار، لابن عبدالبر 1/ 164.

[14] مجموع الفتاوى، لابن تيمية 31/ 232.

[15] مجلة مجمع الفقه الإسلامي 5/ 1957.

[16] انظر: تاريخ ابن خلدون 1/ 731-732.

[17] تاريخ ابن خلدون 1/ 732-733.

[18] التعليق على الكافي، لابن عثيمين 3/ 373، (المكتبة الشاملة).

[19] لقاءات الباب المفتوح، للعثيمين 8/ 235، اللقاء الثامن والسبعون بعد المائة.

[20] التعليق على الكافي، لابن عثيمين 3/ 373.

[21] التعليق على الكافي، لابن عثيمين 4/ 245.

[22] الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ، جواب سؤال: ما حكم تنزيل الكتب الإلكترونية من الإنترنت للانتفاع بها في البحث والعزو إليها؟ الرابط: https://shkhudheir.com/fatawa/1828398390

[23] الكنز الثمين في سؤالات ابن عثيمين، ص184.

[24] لقاءات الباب المفتوح، للعثيمين 8/ 235-236، اللقاء الثامن والسبعون بعد المائة.

[25] فقه النوازل، لبكر أبو زيد 2/ 183.

[26] انظر: المعاملات المالية، للدبيان 1/ 189.

[27] انظر: شرح العقيدة الواسطية، للعثيمين 1/ 4، بحوث وفتاوى في المسح على الخفين، للعثيمين، ص22.

[28] فقه النوازل، لبكر أبو زيد 2/ 183.

[29] آداب الشافعي ومناقبه، لابن أبي حاتم، ص68.

شارك الخبر

المرئيات-١