أرشيف المقالات

بذل الجنان في احتساب سبعين نية لصوم رمضان (ج2)

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
(بذل الجنان)
في احتساب سبعين نية لصوم رمضان: ج2
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير النبيين؛ أما بعد:
فهذا هو الجزء الثاني من كتاب (بذل الجنان في احتساب سبعين نية لصوم رمضان)، أسأل الله أن يجعلها نافعة رافعة مقبولة، وهي كالآتي:
8- اختص الله الصائمين بباب في الجنة وحدهم:
لقد جعل الله جزاءَ العطش والتعب في نهار صيامك أنه سيدخلك من باب خاصٍّ بالصائمين، أحد أبواب الجنة الثمانية، إنه باب (الرَّيَّان)، ذلكم الباب الذي اشتُقَّ اسمه من (الرِّيِّ)، الذي هو خلاف العطش؛ فعن سهل رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إن في الجنة بابًا يُقال له: الرَّيَّان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، يُقال: أين الصائمون؟ فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أُغلِق فلم يدخل منه أحد"[1]، وبهذا خصَّ الله الصائمين بباب مستقلٍّ بهم في جناته؛ فنسأل الله أن يجعلنا ممن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا ليدخلنا من باب الريان.


9- صيام رمضان فرصة لتلبية نداء الملائكة بالتوبة:
إن مِنْ مِنَنِ الله على عباده أن ينادي منادٍ من ملائكة الله، ليفتح باب التوبة لقلوب عباده بأن يرجعوا في هذا الشهر تائبين مستغفرين، محتسبين صيامَهم الخالص من الغِيبة والنميمة، وكل ما ينقص أجرهم؛ فعن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا كانت أولُ ليلةٍ من رمضانَ...
ونادى منادٍ: يا باغيَ الخير أقبِلْ، ويا باغي الشَّرِّ أقصرْ))[2]، وبهذا، يكون رمضان فرصة حقيقة للعودة والأوبة والرُّجعى إلى الخالق سبحانه، فمع أن العبد يعصي ربه طوال العام، لكن العبد إن رجع وتاب في رمضان غُفِرَ له، إنه شهر كيوسف عليه السلام بين إخوته، ألقَوه في البئر، لكنه قال لهم في نهاية المطاف: ﴿ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ [يوسف: 92]، فرمضان فرصة لغفران الذنوب والمحافظة على الطاعات، والنداء في حقيقته على الناس أنه ما يبعثه الله من همة وعزيمة واستعداد وتهيئة لقلوب العباد، فتجد الصائم يحافظ على الصلوات الخمس ووِرْدِ القرآن، وأذكار اليوم والليلة، والصدقات، والقيام، وتفطير الصائمين، وإطعام الطعام وغيرها، فهنيئًا لكل من لبَّى نداء ربِّه فأقلع عن الشرِّ، وفَعَلَ الخير، ويتحقق نداء المنادي في رمضان، فتجد من يُفطر الصائمين على الطرقات وعلى النواصي شابًّا لطالما كان وكان في تقصيره في حق الله، لكن الله وفَّقه بأن كان ممن كُتِبَ لهم التوبة والرجوع في رمضان، فحقَّق نداء المنادي بتوفيق الله له وهدايته؛ فرمضان فرصة لإصلاح القلوب، أسأل الله أن يجعلنا ممن لبَّى نداء المنادي فوفَّقنا ربنا للخيرات والغفران.


10- لا ظمأ لصائم: ((ومن شرِب لم يظمأ)):
فضل ربنا عظيم على عباده حينما يتقربون إليه بإجاعة أنفسهم وتعطيشها في سبيله سبحانه في صيامهم محتسبين، فرغم أنهم يعطَشون ساعاتٍ من نهار، فإن فضل ربنا عميم عظيم، فسيكافئهم بألَّا يعطشوا في الجنة أبدًا، حينما يُدخِلهم من باب الصائمين؛ فعن سهل بن سعد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((للصائمين بابٌ في الجنة يُقال له: الرَّيَّان...
من دخل فيه شرِب، ومن شرِب لم يظمأ أبدًا))[3]، فهنيئًا لمن احتسب جوعه وعطشه وهو صائم محتسب متيقِّن بوعد الله له في جناته، نسأل الله أن يجعلني والقارئَ الكريمَ منهم، وأهلينا وذرارينا وأحبِّتَنا في جناتٍ ونَهَرٍ.


11- الصائم السائح من خير الناس وعلامة على إيمانه:
لقد مدح الله المؤمنين الصائمين بصفة (السِّياحة) في القرآن في سورة التوبة؛ بقوله: ﴿ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ...
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [التوبة: 112]، كما مدح الله المؤمنات بصفة (السائحات): ﴿ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ...
سَائِحَاتٍ ﴾ [التحريم: 5]، ففي الآيتين ذكر (السياحة)، و"السائحون هم الصائمون، وقد شبَّه الله الصائم بالسائح؛ لإمساك الصائم في صومه عن المطعَم والمشرَب والنكاح"[4]، وقد مدح الله الصائمين في آية التوبة مع من في زمرتهم؛ إذ جعل الله السائح/ الصائم في زمرة أفضل العباد من التائبين والعابدين والحامدين، كما أنه سبحانه ختم الآية بالشهادة لهم بالإيمان؛ فالصائم حينما يحتسب صيامه فهو من خير الناس تقربًا إلى خالقه، وصيامه علامة على أنه من المؤمنين بشهادة الله له.

12- يبعد الله الصائم عن النار مسيرة سبعين خريفًا:
يا له من موقف مفزع! حينما تُسعَّر النار يوم القيامة وتأتي لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف مَلَكٍ من الملائكة يجرُّونها، فتُزمجر وتغضب، ووقتها لا ينفع نَفْسًا إلا ما قدمت، وساعتها يأتي الصيام ليدافع عن صاحبه؛ فكل يوم صامه يبعد صاحبه عن النار سبعين سنة، وقد عبَّر النبي بالوجه من البدن دون غيره؛ لأن جلد الوجه رقيق كما هو معروف؛ فالنار تشويه أشد من غيره، ولسعه وألمه أشد، فالصوم يبعد وجهك عن النار؛ كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من صام يومًا في سبيل الله، بعَّد الله وجهَه عن النَّار سبعين خريفًا))[5]، في سبيل الله أي: "مخلصًا لله تعالى فيه، بأن يبعد الصائم مسافة سير سبعين سنة"[6]، وقد عبَّر بفصل الخريف أحد فصول السنة، ليدل على عدد أيام السنة كلها، فعددُ أيام السنة من الخريف إلى الخريف يُعَدُّ عامًا كاملًا، فكم أحتاج أنا وأنت أخي الكريم من صيام ليبعد الله وجوهنا عن النار؟ نحتاج كثيرًا وكثيرًا، لكن لا تحسب أن الأمر يتوقف على صيامك وحدك، بل كل من تذكِّره بفضل الصيام واحتسابه فهو في ميزان حسناتك، فثقِّل موازينك بتذكير الناس في وسائل التواصل الاجتماعي، وذكِّري زميلاتكِ أيتها الأخت الكريمة بتلك الفضائل؛ حتى يجيء في ميزاننا آلاف الأيام التي صُمْناها وصامها غيرنا بسبب تذكيرنا إياه بالصيام؛ ففي الحديث: ((من دلَّ على خيرٍ، فله مثل أجر فاعله))[7].


13- الصيام يبعدك عن النار خندقًا:
يخاف الواحد منا ويهاب من عدوٍّ يلاحقه، فيَوَدُّ أن لو تحصن بحصن أو اختبأ في مكان لا يصل إليه عدوه، وهكذا الصيام حصنٌ منيع ومُبْعِد لك عن نار الله سبحانه، فإنه يمُنُّ علينا بأن يبعدنا عن النار مئات السنوات بتحصننا بالصيام واحتساب نياتنا؛ فعن أبي أمامة الباهلي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من صام يومًا في سبيل الله، جعل الله بينه وبين النار خندقًا كما بين السماء والأرض))[8]، وهذه المسافة التي بين السماء والأرض؛ أي: مسافة خمسمائة سنة؛ قال الطيبي رحمه الله: "شبَّه الصوم بالحصن، وجعل له خندقًا حاجزًا بينه وبين النار التي شُبِّهت بالعدو، ثم شبه الخندقَ في بُعْدِ غَوره – قعره - بما بين السماء والأرض"[9]، فنسأل الله أن يحصن بالصيام فروجنا وألسنتنا، وقلوبنا وجوارحنا في الدنيا، وأن يبعدنا عن النار في الآخرة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.




[1]صحيح البخاري: 3/ 25.



[2]صحيح: سنن ابن ماجه: 2/ 559.



[3]صحيح: سنن النسائي، حققه: عبدالفتاح أبو غدة: 4/ 168.



[4]غريب القرآن: ابن قتيبة، حققه: أحمد صقر، دار الكتب العلمية، 1398 ه/ 1978 م، ص: 193.



[5]صحيح البخاري: 4/ 26.



[6]السابق: تعليق مصطفى البغا.



[7]صحيح: الأدب المفرد: 94.



[8]صحيح: سنن الترمذي: 4/ 167.



[9]مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: علي بن (سلطان) محمد الملا الهروي القاري ت: 1014ه): دار الفكر، بيروت لبنان، الطبعة الأولى، 1422ه - 2002م: 4/ 1425.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١