مقتطفات من سيرة سعيد بن زيد رضي الله عنه
مدة
قراءة المادة :
10 دقائق
.
مقتطفات من سيرة سعيد بن زيد رضي الله عنهالحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
فهذه مقتطفات من سيرة علم من أعلام هذه الأمة وبطل من أبطالها، صحابي جليل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نقتبس من سيرته العطرة الدروس والعبر، هذا الصحابي شهد المشاهد كلها أُحدًا والخندق والحديبية، وضرب له النبي صلى الله عليه وسلم بسهمه يوم بدر لأنه كان غائبًا بالشام، فقد أرسله النبي صلى الله عليه وسلم في مهمة يأتي بها عن خبر القوم فلم يشهدها، وكان من السابقين إلى الإسلام، أسلم قبل دخول النبي دار الأرقم وشهد حصار دمشق وفتحها، فولَّاه عليها أبو عبيدة بن الجراح، فهو أول من عمل نيابة دمشق من هذه الأمة، قد شهد رضي الله عنه معركة اليرموك، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، فبشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة وهو على قيد الحياة.
إنه سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل بن عبدالعزى القرشي العدوي، كان طوالًا آدم[1] أشعر، وأمه فاطمة بنت بعجة بن مليح الخزاعية، وامرأته هي ابنة عمه أخت عمر بن الخطاب، وهو ممن ابتلي وعُذب في أول الإسلام، فروى البخاري في صحيحه من حديث قيس بن أبي حازم قال: سمعت سعيد بن زيد رضي الله عنه يقول للقوم: لو رأيتُني مُوثقي عمر على الإسلام، أنا وأخته وما أسلم، ولو أن أحدًا انقض لما صنعتم بعثمان، لكن محقوقًا أن ينقضَّ[2].
ووالده زيد بن عمرو العدوي ممن فرَّ إلى الله من عبادة الأصنام وساح في أرض الشام يتطلب الدين القيم، فرأى النصارى واليهود فكره دينهم، وقال: اللَّهم إني على دين إبراهيم، ولكن لم يظفر بشريعة إبراهيم عليه السلام كما ينبغي، ولا رأى من يوقفه عليها، رأى النبي صلى الله عليه وسلم ومات قبل بعثته.
روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله عنه: أَنَّ زَيْدَ ابْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ يَسْأَلُ عَنِ الدِّينِ، وَيَتْبَعُهُ، فَلَقِيَ عَالِمًا مِنَ اليَهُودِ فَسَأَلَهُ عَنْ دِينِهِمْ، فَقَالَ: إِنِّي لَعَلِّي أَنْ أَدِينَ دِينَكُمْ، فَأَخْبِرْنِي، فَقَالَ: لَا تَكُونُ عَلَى دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ، قَالَ زَيْدٌ: مَا أَفِرُّ إِلَّا مِنْ غَضَبِ اللَّهِ، وَلَاَ أَحْمِلُ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ شَيْئًا أَبَدًا، وَأَنَّى أَسْتَطِيعُهُ؟ فَهَلْ تَدُلُّنِي عَلَى غَيْرِهِ؟، قَالَ: مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا، قَالَ زَيْدٌ: وَمَا الحَنِيفُ؟ قَالَ: دِينُ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا، وَلَا نَصْرَانِيًّا، وَلَا يَعْبُدُ إِلَّا اللهَ، فَخَرَجَ زَيْدٌ فَلَقِيَ عَالِمًا مِنَ النَّصَارَى فَذَكَرَ مِثْلَهُ، فَقَالَ: لَنْ تَكُونَ عَلَى دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ لَعْنَةِ اللهِ، قَالَ: مَا أَفِرُّ إِلَّا مِنْ لَعْنَةِ اللهِ، وَلَا أَحْمِلُ مِنْ لَعْنَةِ اللهِ، وَلَا مِنْ غَضَبِهِ شَيْئًا أَبَدًا، وَأَني أَسْتَطِيعُ فَهَلْ تَدُلُّنِي عَلَى غَيْرِهِ؟ قَالَ: مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا، قَالَ: وَمَا الحَنِيفُ؟ قَالَ: دِينُ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا، وَلَا يَعْبُدُ إِلَّا اللهَ، فَلَمَّا رَأَى زَيْدٌ قَوْلَهُمْ فِي إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَرَجَ، فَلَمَّا بَرَزَ رَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْهَدُ أَنِّي عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ[3].
وروى البخاري في صحيحه من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه قالت: رَأَيْتُ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ قَائِمًا مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الكَعْبَةِ يَقُولُ: يَا مَعَاشِرَ قُرَيْشٍ، وَاللَّهِ مَا مِنْكُمْ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ غَيْرِي، وَكَانَ يُحْيِي المَوْءُودَةَ، يَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ ابْنَتَهُ، لاَ تَقْتُلْهَا، أَنَا أَكْفِيكَهَا مَؤُونَتَهَا، فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا تَرَعْرَعَتْ قَالَ لِأَبِيهَا: إِنْ شِئْتَ دَفَعْتُهَا إِلَيْكَ، وَإِنْ شِئْتَ كَفَيْتُكَ مَؤُونَتَهَا [4].
قال سعيد بن جبير: كان مقام أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد وسعيد وطلحة والزبير وعبدالرحمن بن عوف مع النبي صلى الله عليه وسلم، كانوا أمامه في القتال وخلفه في الصلاة، وكان عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه آمرًا بالمعروف وناهيًا عن المنكر، فروى الإمام أحمد في مسنده من حديث رياح بن الحارث: أن المغيرة بن شعبة كان في المسجد الأكبر، وعنده أهل الكوفة عن يمينه وعن يساره، فجاءه رجل يُدعى سعيد بن زيد، فحياه المغيرة وأجلسه عند رجليه على السرير، فجاء رجل من أهل الكوفة فاستقبل المغيرة فسب وسب، فقال: من يسب هذا يا مغيرة؟ قال: يسب علي بن أبي طالب، قال: يا مُغير بن شُعب يا مُغير بن شعب – ثلاثًا، ألا أسمع أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسبون عندك لا تنكر ولا تغير، فأنا أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما سمعت أُذناي ووعاه قلبي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني لم أكن أروي عنه كذبًا يسألني عنه إذا لقيته، أنه قال: «أَبُو بَكْرٍ فِي الْجَنَّةِ، وَعُمَرُ فِي الْجَنَّةِ، وَعَلِيٌّ فِي الْجَنَّةِ، وَعُثْمَانُ فِي الْجَنَّةِ، وَطَلْحَةُ فِي الْجَنَّةِ، وَالزُّبَيْرُ فِي الْجَنَّةِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ فِي الْجَنَّةِ، وَسَعْدُ بْنُ مَالِكٍ فِي الْجَنَّةِ، وَتَاسِعُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ»، لو شئت أن أُسميه لسميته، قال: فضج أهل المسجد يناشدونه: يا صاحب رسول الله، من التاسع؟ قال: ناشدتموني بالله، والله عظيم، أنا تاسع المؤمنين ورسول الله صلى الله عليه وسلم العاشر، ثم أتبع ذلك يمينًا قال: والله لمشهد شهده رجل يغبر فيه وجهه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من عمل أحدكم ولو عمر عُمُر نوح عليه السلام[5].
وكان رضي الله عنه مستجاب الدعوة، فروى البخاري ومسلم من حديث هشام بن عروة عن أبيه أن أروى بنت أويس ادعت على سعيد بن زيد أنه أخذ شيئًا من أرضها، فخاصمته إلى مروان بن الحكم، فقال سعيد: أنا كنت آخذ من أرضها شيئًا بعد الذي سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم! قال: وما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ ظُلْمًا، طُوِّقَهُ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ»، فقال له مروان: لا أسألك بينة بعد هذا، فقال: اللَّهم إن كانت كاذبة فعم بصرها، واقتلها في أرضها، قال: فما ماتت حتى ذهب بصرها، ثم بينا هي تمشي في أرضها إذ وقعت في حفرة فماتت[6].
قال الذهبي رحمه الله: «لم يكن سعيدٌ متأخرًا عن رتبة أهل الشورى في السابقة والجلالة، وإنما تركه عمر رضي الله عنه لئلا يبقى له فيه شائبة حظ؛ لأنه ختنه وابن عمه، ولو ذكره في أهل الشورى لقالوا: حابى ابن عمه، فأخرج منها ولده وعصبته، فكذلك فليكن العمل لله.
قالت عائشة بنت سعيد: مات أبي بالعقيق فغسله سعد بن أبي وقاص وكفَّنه وخرج معه، توفي رضي الله عنه سنة إحدى وخمسين وهو ابن بضع وسبعين سنة.
قال الذهبي رحمه الله: «فهذا ما تيسَّر من سيرة العشرة، وهم أفضل قريش وأفضل السابقين المهاجرين، وأفضل البدريين وأفضل أصحاب الشجرة، وسادة هذه الأمة في الدنيا والآخرة فأبعد الله الرافضة، ما أغواهم وأشد هواهم، كيف اعترفوا بفضل واحد منهم وبخسوا التسعة حقهم وافتروا عليهم بأنهم كتموا النص في علي أنه الخليفة، فوالله ما جرى من ذلك شيء، وأنهم زوروا الأمر عنه بزعمهم، وخالفوا نبيهم، وبادروا إلى بيعة رجل من بني تيم يتجر ويتكسب لا لرغبة في أمواله ولا لرهبة من عشيرته ورجاله، ويحك! أيفعل هذا من له مسكة عقل؟ ولو جاز هذا على واحد لما جاز على جماعة، ولو جاز وقوعه من جماعة لاستحال وقوعه، والحالة هذه من العرف من سادة المهاجرين والأنصار، وفرسان الأمة وأبطال الإسلام، لكن لا حيلة في برء الرفض، فإنه داء مزمن، والهدى نور يقذفه الله في قلب من يشاء، فلا قوة إلا بالله»[7]؛ اهـ.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] آدم: أي شديد السمرة.
[2] برقم (3867).
[3] برقم (3827) رواه البخاري معلقًا.
[4] برقم (3828).
[5] (3/173 – 175) برقم (1629)، وقال محققوه: إسناده صحيح.
وروي الحديث بلفظ فيه شيء من الاختلاف عن سابقه وبإضافة: أبو عبيدة بن الجراح في الجنة، وبدون ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة.
[6] صحيح البخاري برقم (3198)، وصحيح مسلم برقم (1610) واللفظ له.
[7] سير أعلام النبلاء للذهبي (1/ 124 – 143)، والإصابة في تمييز الصحابة (4/327 – 339).