أرشيف المقالات

آداب التلقي والإجازات

مدة قراءة المادة : 27 دقائق .
آداب التلقي والإجازات
 
قبلَ سردِ آدابِ التلقّي والإجازاتِ عمومًا لا بدّ مِن التأكيدِ على أنّ هذه الآدابَ ليستْ آدابًا ومندوباتٍ وسُننًا يُفَضَّلُ الالتزامُ بها والعملُ بتعاليمها، بل هي آدابٌ يَجبُ العملُ بها، فإنْ تَرَكَ طالبُ الحديث ولو أدبًا واحدًا فإنه قد ارتكَبَ جُرمًا شَنِيعًا وخَلَلًا عظيمًا بميزان العِلمِ والعلماء، وهذه بعضُ الأدلةِ على هذه الفكرةِ الهامة:
• طالبُ الحديثِ داعيةٌ إلى الله عمومًا وإلى عِلمِ الحديث خصوصًا: فإذا كان صاحبَ خُلقٍ وأدبٍ استجابَ الناسُ لدعوته[1] وقَبِلُوا عِلمَه، وإنْ كان غيرَ ملتزمٍ بالآدابِ فتكفينا هذه الآيةُ لنعلمَ مدى تنفيرِ الناس مِن دين الله ومِن العِلم إنْ كنّا غيرَ مؤدَّبي الباطنِ، فما بالنُا بالظاهر؟! قال الله عزّ وجلّ: ﴿ ولو كنتَ فظًّا غليظَ القلب لانفضّوا مِن حولك ﴾ [آل عمران، 159].
 
• نَصَّ العلماءُ على وجوبِ التزامِ طالبِ العِلمِ بآدابِ طَلَبِ العِلم: قال الحافظُ الخطيبُ البغدادي: "الواجبُ أنْ يكون طَلَبَةُ الحديث أكملَ الناسِ أدبًا، وأشدَّ الخَلق تواضعًا، وأعظمَهم نزاهةً وتديُّنًا...
قال الإمامُ محمد بن عيسى الزجاج: مَن طلبَ هذا الحديثَ فقد طلبَ أعلى أمورِ الدنيا، فيجبُ أن يكون خيرَ الناس"[2].
 
• بل فَضَّل العلماءُ الأدبَ على العلِم نفسِه: قال الحافظُ الخطيبُ البغدادي: "قال إبراهيم بن حَبِيب بن الشهيد: قال لي أبي: يا بُنَي! ايْتِ الفقهاءَ والعلماء، وتَعلَّم منهم، وخُذْ مِن أدبهم وأخلاقهم وهَدْيهم؛ فإنّ ذاك أحبُّ إليّ لكَ مِن كثيرٍ مِن الحديث...
قال مَخْلَد بن الحسين: نحن إلى كثيرٍ مِن الأدب أَحوَجُ منا إلى كثيرٍ مِن الحديث"[3].
 
ففي هذا المبحث سأسردُ آدابَ طالبِ الحديث والإجازاتِ وآدابَ المحدِّث، وسأكتفي بالآدابِ الهامّة في عصرِنا وخاصةً المتعلقة بشكلٍ مباشرٍ أو غيرِ مباشر بتعاملنا مع وسائلِ الاتصال الحديثة، فلن أذكرَ آدابَ استعارةِ الكتب، ولا آدابَ التعاملِ مع الكاغَدِ والكتابِ المطبوع، ولا آدابَ المشي في الطريق، ولا كيفيةَ الوقوف على باب المحدِّث، ولا المشيَ على بساطِ الشيخ حافيًا مع البدءِ بخلعِ اليسرى، ونحوها[4]، وإنْ كانتْ تعطينا فكرةً عن مدى اهتمام العلماء ببيان أدقِّ تفاصيلِ آدابِ طَلَبِ العِلمِ وطالبِ العلم، وبيانِ تفاصيلِ الحالات، وعدمِ الاكتفاءِ بالكلام العامِّ.
 
وما سأنقله في هذا المبحث مأخوذٌ مِن كتابِ الإمامِ الحافظِ المؤرخِ أبي بكر الخطيب البغدادي المتوفَّى 463هـ (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع)؛ لأنه أَعظَمُ وأَجمَعُ وأَقدَمُ كتابٍ في بابه[5]، وسأكتفي بوضع رقم الجزء والصفحة في نهاية القول بين قوسين [ ] تقليلًا مِن الحواشي.
 
• تصحيح النية: يجبُ على طالبِ الحديث أن يُخْلِصَ نيتَه في طلبه، ويكونَ قَصدُه بذلك وجهَ الله سبحانه وتعالى، قال إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السَّبِيعي لِثُلَّة مِن طلاب الحديث: "مَن طَلَب َهذا العِلم لله تعالى شَرُفَ وسَعِدَ في الدنيا والآخرة، ومَن لم يَطلبه لله خَسِرَ الدنيا والآخرة" [1/ 83].
 
• الحذر من التباهي بالعلم: فليحذر طالبُ العلم مِن أن يكون قصدُه اتّخاذَ الأتباع، وعَقدَ المجالس، والمفاخَرةَ بالعلم؛ فإن الآفة الداخلة على طلابِ العلم أكثرُها من هذا الوجه، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا تَعَلَّمُوا العِلمَ لِتُباهُوا به العلماءَ، ولا تُماروا به السُّفهاءَ، ولا تَـخَيَّــرُوا به المجالسَ، فمَن فَعَلَ ذلك فالنارَ النارَ" [6].
 
• العَمَلُ بالعِلم: قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: "يا حَمَلَةَ العلم! اعملوا به، فإنما العالِمُ مَن عَمِل بما عَلِم، ووافقَ عَمَلُه عِلمَه" [1/ 133].
وقال أبو رجاء مطر بن طهمان الوراق السلمي: "إنما يَنفعُ الله بالعِلم مَن عَلِمَه ثم عَمِلَ به، ولا يَنفعُ به مَن عَلِمَه ثم تَرَكَه"[1/ 133].
 
• كفاية النفس والأهل من الكسب الحلال قبل طلب العِلم: كان أميرُ المؤمنين شيخُ عصره سيِّدُ الحفاظ الإمامُ الفقيهُ[7] سفيان الثوري يقول للذي يأتيه لطلبِ العِلم: "هل لك وَجْهُ معيشة؟" فإنْ أَخبَرَه أنه في كِفايةٍ أَمَرَه بطلبِ العِلم، وإنْ لم يكن في كفايةٍ أَمَرَه بطلب المعاش.
[1/ 144].
 
• حفظ القرآن أوّلًا: قال الوليد بن مسلم: "كنا إذا جالسنا الأوزاعي -فرأى فينا حَدَثًا- قال: يا غلام! قرأتَ القرآن؟ فإنْ قال: نعم.
امتحنَه، وإنْ قال: لا.
قال له: اذهبْ تعلَّمْ القرآن قبلَ أن تطلب العلم" [1/ 160].
 
• الاهتمام بالملبس والهيئة: قال إبراهيم: " كانوا إذا أَتَوا الرجل ليأخذوا عنه نظروا إلى سَمْته، وإلى صلاته، وإلى حاله، ثم يأخذون عنه" [1/ 193].
 
• الوَقار والهيبة والسَّكينة: قال مالك: "إنّ حقًّا على مَن طلب العلم أن يكون له وَقارٌ وسكينة" [1/ 232].
 
• قلّة الضحك والمزاح: قال الخطيب البغدادي: "يجب على طالب العلم أن يتجنّب اللعب والعبث والتبذّل في المجالس بالسخف والضحك والقهقهة وكثرة التنادر وإدمان المزاح والإكثار منه، وإنّما يُستجازُ من المزاح يسيرُه ونادره وطريفه، الذي لا يُخرِجُ عن حد الأدب وطريقة العلم، فأما متصله وفاحشه وسخيفه وما أوغر منه الصدرو وجلب الشرّ فإنه مذموم، وكثرةُ المزاح والضحك تَضَعُ مِن القَدْر وتُزيلُ المروءة" [1/ 232].
 
• حفظ اللسان عمّا لا يليق بطالب العلم: قال الحسن البصري: "كان الرجلُ يَطلبُ العلم، فلا يلبثُ أن يُرى ذلك في تَخَشُّعه، وهديه، ولسانه، وبصره، ويده" [1/ 216].
 
• كثرة العبادة: قال سفيان بن عُيينة: "كان الشابُّ إذا وقع في الحديث احتسبه أهلُه".
قال أبو بكر: يعني أنه كان يجتهد في العبادة اجتهادًا يقتطعه عن أهله، فيحتسبونه عند ذلك.
[1/ 217].
 
• كثرة الصيام: قال وكيع: "كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به، وكنا نستعين على طلبه بالصوم"[8].
 
• قيام الليل: قال عاصم بن عصام البَيهقي[9]: "بتُّ ليلةً عند أحمد ابن حنبل، فجاء بالماء، فوضعه، فلمّا أصبح نظر إلى الماء فإذا هو كما كان، فقال: سبحان الله! رجلٌ يطلب العلم لا يكون له وِردٌ من الليل!" [1/ 217].
 
• حضور مجلس الحديث مبكرًا: إنْ كان مجلس الإملاء في غير وقت الفجر فإنّ مَن يحضُرُ إلى مجلس الإملاء قبلَ بَدْئِه بزمنٍ يَستَفيدُ وينتفعُ بالمنافع العِلميّة والبركة أكثر ممن يَحضُرُ عندَ البَدْءِ، فضلًا عن التأخّر.
 
• البُكُور إلى مجالس الحديث: وإذا كان مجلس الإملاء في وقت الفجر فهذا أعظم بركة، والمطلوب فيه البُكُور، قال أحمد ابن حنبل: "كنت ربّما أردتُ البكور إلى الحديث، فتأخذ أمي ثيابي وتقول: حتى يُؤَذِّن الناسُ وحتى تُصبِحوا.
وكنتُ ربّما بكَّرتُ إلى مجلس أبي بكر بن عيّاش وغيره" [1/ 224].
 
• أدب الاستئذان على المحدِّث: قال الخطيب: "إذا وَجد الطالبُ الراويَ نائمًا فلا ينبغي له أن يستأذن عليه، بل يجلس وينتظر استيقاظه، أو ينصرف إن شاء" [1/ 235].
قال ابن عباس رضي الله عنه: "وجدت عامة علم رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذا الحي من الأنصار، إنْ كنت لآتي الرجل منهم، فيقال: هو نائم، فلو شئت أن يوقظ لي لأوقظ، فأجلس على بابه تسفي الريح على وجهي التراب حتى يستيقظ متى استيقظ، فأسأله عما أريد، ثم أنصرف"[10].
 
• لفظ الاستئذان: سئل أبو هريرة رضي الله عنه: أَيُؤذَنُ للرجل يطلب الدخول ولم يقل (السلام عليكم) فقال: "لا، حتى يأتي بالمفتاح: السلام"[11].
 
• التعريف بالنفس: قال جابر بن عبدالله رضي الله عنهم: "استأذنتُ على النبي صلى الله عليه وسلم في دَينٍ كان على أبي، فقال: مَن هذا؟ فقلتُ: أنا.
فقال: أنا، أنا.
كأنه كَرِه ذلك"[12].
 
• طِيبُ النَّفْس إنْ لم يأذن المحدِّث: يستأذن الطالب على شيخه ثلاث مرات، فإنْ أَذِن له، وإلاّ رَجَعَ طيبةً نفسُه، وهنا يجب التأكيد على طيب النفس مع علمك بأن الشيخ موجود، ولا يَحتاجُ أن يعتذر منك أو أن يُبيّن لك سبب عدم إذنه لك، قال الله عز وجل: ﴿ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [النور، 28]، واستأذن أبو موسى على عمر بن الخطاب ثلاثًا، فلم يُؤذَن له، فانصرف، فأرسل إليه عمر، فدعاه، فقال: ما شأنُك رجعتَ؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَن استأذن ثلاثًا فلم يؤذَن له فلْيرجع"[13].
 
• تقديم الأكابر: كان الحسنُ بن صالح الهمداني الثوري وأخوه عليٌّ توأمين، فخَرَجَ الحسنُ من بطن أمّه قبلَ علي، ثم صارا عالِمَينِ ثقتَينِ صالحين مُستويَينِ في الفضل، فلم يَجتمعا في مجلسٍ إلاّ قَدَّمَ عليٌّ أخاه حسنًا عليه في المجلس وفي الكلام[14].
 
• تعظيم المحدِّث وتبجيله: قال الإمام البخاري: "ما رأيت أحدًا أَوقَرَ للمحدِّثين من يحيى بن معين"[1/ 273].
وقال أبو عبد الله يحيى بن عبد الملك الموصلي[15]: "رأيتُ مالك بن أنس غيرَ مرّة، وكان بأصحابه من الإعظام له، والتوقير له، وإذا رَفَع أحدٌ صوتَه صاحوا به، وكان إلى الأُدْمَة ما هو"[1/ 272].
وقال الخطيب البغدادي: "وإذا خاطب الطالبُ المحدِّثَ عظَّمه في خطابه" [1/ 273].
 
• هيبة الطالب للمحدِّث: قال إسحاق الشَّهِيدي[16]: "كنت أرى يحيى القطان يصلي العصر، ثم يستند إلى أصل منارة المسجد، فيقف بين يديه علي بن المديني والشاذكوني وعمرو بن علي وأحمد ابن حنبل وغيرهم يسألونه عن الحديث وهم قيامٌ على أرجلهم إلى أن تحين صلاة المغرب، لا يقول لواحد منهم: اجلس.
ولا يجلسون هيبةً له وإعظامًا" [1/ 277].
 
• الاعتراف بحقِّ المحدِّث: قال شعبة: "إذا سمعتُ مِن الرجل الحديثَ كنتُ له عبدًا ما حَيِيَ، فكلما لقيتُه سألته عنه" [1/ 288].
أي: كلّما رأى أحدًا يعرف هذا الرجلَ الذي حدَّثه الحديثَ يسأله عنه ويذكر فضله عليه.
 
• توقير مجلس الحديث: كان الطلاب يجلسون في مجالس الحديث مُوَقِّرين لها مُعَظِّمين لحُرمتها، حتى بلغ التعظيم في بعض مجالس العلماء أن يكونوا كأنهم في صلاة؛ فلا يتكلم أحد، ولا يتبسّم أحد، ولا يُبرَى فيها قلم، ومِن هذه المجالس مجلس عبد الرحمن بن مهدي ومحمد بن عبد الله بن نمير الهمداني الكوفي ووكيع بن الجراح.
[1/ 291 بتصرّف].
 
• حُسْن الإصغاء: قال الخطيب البغدادي: "أول ما يلزم الطالب عند السماع أن يَصمت ويُصغي إلى استماع ما يرويه المحدِّث" [1/ 292].
 
• خفض الصوت وقتَ سماع الحديث: قال حَمّاد بن زيد[17]: "كنا عند أيوب، فسمع لَغطًا، فقال: ما هذا اللغط؟ أمَا بَلَغهم أن رفع الصوت عند الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كرفع الصوت عليه في حياته؟!" [1/ 295].
 
• اللطف عند سؤال الشيخ: قال الخطيب البغدادي: "وإنْ لم يبلغه صوت الراوي لِبعده عنه سأله أن يرفع صوته سؤالًا لطيفًا لا سمجًا ولا عنيفًا" [1/ 296].
 
• عدم تكرار الاستفهام لغير ضرورة: قال وكيع بن الجراح: "مَن فَهِمَ ثم استفهم فإنما يقول: اعرفوني، إني أُجيد أخذ الحديث" [1/ 297].
 
• عدم نقل خلاف قول الشيخ الفقهي أمامَه: قال الخطيب البغدادي: "ولا يَحكي عن غيره خلافَ روايته، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ولا تَقولَنّ: قال فلانٌ.
خلافًا لقوله" [1/ 300].
 
• التركيز على الشيخ في الدرس: قال مِسعَر: "كنتُ في حلقة، فجعلتُ أَلتفتُ إلى حلقة أخرى، فقال لي رجلٌ منهم: ما فاتك من العلم أكثر" [1/ 301].
 
• إخفاء المعرفة بما يقوله الشيخ: قال معاذ بن سعيد: "كنا عند عطاء بن أبي رباح، فتحدّث رجل بحديث، فاعترض له آخر في حديثه، فقال عطاء: سبحان الله! ما هذه الأخلاق؟! ما هذه الأحلام؟! إني لأسمع الحديث مِن الرجل وأنا أعلم منه، فأريهم من نفسي أني لا أحسن منه شيئًا، ولقد سمعته قبل أن يولد" [1/ 303].
 
• استشارة المشايخ في الأمور العلمية والخاصة: قال د.
محمد عَجَاج الخطيب: "وهذه عادة أكثر طلاب الحديث في استشارة شيوخهم في رحلاتهم وخاصّة أمورهم" [المقدمة ص32].
 
• عَقْدُ مجالس الإملاء للعامة: بدأتْ تزدهر مجالس الإملاء لطلاب العلم ولله الحمد، ولكن يجب أن لا نغفل عن عقد هذه المجالس للعامة أيضًا، وفي تاريخنا نجد أن بعض المجالس كان يحضرها عشرات الآلاف من الناس، ثم لم يخرج منهم إلاّ بضعةُ علماء، قال إسرائيل[18]: "كَثُرَ مَن يطلب الحديث في زمن الأعمش، فقيل له: يا أبا محمد! ما تَرَى ما أكثرهم؟! قال: لا تنظروا إلى كثرتهم، ثُلثُهم يموتون، وثلثهم يلحقون الأعمال، وثلثهم: مِن كلِّ مائةٍ يُفلِحُ واحد" [1/ 170].
وعلينا أن ننشر العلم حتى لو زَهِد به الناس وتَوَجّهوا للملهيات، أخرج الخطيب البغدادي [1/ 306-307] أن عطاء الخراساني كان إذا لم يجد أحدًا يحدِّثه أَتَى المساكين فحدَّثَهم، وأنّ إسماعيل بن رجاء كان يجمع الصِّبيان فيحدِّثهم، وأنَ وكيعًا كان يذهب إلى العمّال وقتَ فراغهم ليُحدِّثهم متواضعًا، وأنه كان يقول: "هؤلاء قومٌ لهم معاشٌ لا يقدرون يأتوني".
وأنّ أبا عبد الله محمد بن فراس العَطّار قال: "كان الوليد بن عتبة الأشجعي يقرأ علينا في مسجد باب الجابية[19] مصنَّفاتِ الوليد بن مسلم، فكان رجلٌ يجيء وقد فاته ثلثُ المجلس، ربعُ المجلس، أو أقلُّ، أو أكثرُ، فكان الشيخ يعيده عليه، فلمّا كثر ذلك على الوليد بن عتبة منه قال له: يا هذا! أيُّ شيءٍ يلبث بك؟ الله محمود[20]، لئن لم تَجِئ مع الناس من أوّل المجلس لا أعدتُ عليك شيئًا.
قال: يا أبا العباس! أنا رجلٌ مُعيلٌ، ولي دكانٌ في (بيت لِـهْــيَاْ)[21]، فإنْ لم أشترِ لها حُويجاتِها مِن غُدوةٍ، ثم أغلق، وأجيءُ أعدو، وإلاّ خشيتُ أن يفوتني معاشي.
فقال له الوليد: لا أراك ها هنا مرةً أخرى.
فكان الوليد بن عتبة يقرأ علينا المجلس، ويأخذ الكتاب، ويمرُّ إلى بيت لِـهْـيَـاْ حتى يقرأ عليه المجلس في دكانه".
 
ولا يَتَّسِعُ الـمَقامُ لذِكرِ سائرِ الآداب، على أنّها جميعَها بالغةُ الأهميّة، لذلك سأسردُ بعضًا ممّا بَقِيَ سردًا، فمِن الآدابِ أيضًا: (إذا روى المحدِّثُ حديثًا فعَرَضَ للطالب في خلالِه شيءٌ أراد السؤال عنه أنْ لا يسأله عنه في تلك الحال، بل يصبرُ حتى ينهيَ الراوي حديثه، ثم يسأل عمّا عرض له).
(لِيَتَجَنَّبْ الطالبُ سؤالَ المحدِّث إذا كان قلبُه مشغولًا).
(ولا ينبغي أن يسأله التحديثَ وهو قائمٌ ولا هو يمشي؛ لأنّ لكلّ مَقامٍ مَقالًا، وللحديثِ مواضعُه).
(ولْيُحسِنْ كيفيّةَ السؤال وتعيينَ المسؤول عنه).
(وإذا أجاب المحدِّثُ الطالبَ إلى مسألته وحدَّثه، فيجبُ أن يأخذ منه العفو ولا يُضْجِره؛ فالإضجارُ يُغَيِّرُ الأفهامَ ويُفسِدُ الأخلاقَ ويُحيلُ الطِّباع).
(الرِّفقُ بالمحدِّث واحتمالُه عندَ الغضب).
(ينبغي للطالب أن يَعرفَ عُيونَ عِلم الشيخ قبل أن يسألَه؛ كي يسألَه عنها ويَدَعَ الضعيفَ ونحوَه مِن عِلمه).(ينبغي كتابة العِلم وتقييدُه).
(لكيفية الحفظِ عن الشيخِ طُرُقٌ وأساليب).
(مذاكرةُ المحفوظات بين الطلبة).
(إعارة الكتب لِمَن يحافظُ عليها ويُعيدُها عاجلًا، وعدم البخل والامتناع، مع ضبطِ الإعادة وتقييدِها، ثم يَشكرُ المستعيرُ المعيرَ).
(يُحسنُ الخطَّ والكتابة بما يحافظ عليه ولو طال الزمن وضعف البصر).
(يلتزمُ بآداب الكتابة مِن مثل: التسمية والحمدلة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كاملةً وذكر أحبّ أسماء الشيخ وتاريخ الكتابة والبلاغات ونحوها).
(ضبط الشيخِ للطلاب، وضبطُ الطلاب لبعضهم، والمحافظةُ على هذا الضبط).(التزامُ قواعد الإملاء والكتابة وآدابها).
(تَقييد الأسماء والكلمات بالشَّكلِ والإعجام، والحذر مِن الأخطاء والتصحيف والإيهام).
(معارضةُ ما كتبه على سائر الطلاب).
(يجب بعد الفراغ مِن نسخِ الكتاب معارضتُه مع الأصل؛ فإنّ ذلك شرطٌ في صحة الرواية من الكتاب المسموع، وكلّما كثرتْ التعليقاتُ والتصويباتُ كان أوثقَ).
وأَكتَفي بهذا المقدار القليل مِن الآداب، فإنّ هذا المبحث يحتاجُ رسالةً كاملةً، والله أعلم.
 
وأختم هذا المبحث بكلامٍ جامعٍ بليغٍ لإمامِ الفصاحةِ والعلم، وكلّما أَعدتُ قراءته أَتأثّرُ وأَفهمُه أكثر، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "يا طالبَ العِلم! إنّ العِلم ذو فضائلَ كثيرةٍ: فرأسُه التواضع، وعينُه البراءة مِن الحسد، وأُذُنه الفهم، ولسانُه الصدق، وحفظه الفحص، وقلبُه حسن النية، وعقلُه معرفة الأشياء والأمور الواجبة، ويده الرحمة، ورِجله زيارة العلماء، وهمته السلامة، وحكمته الورع، ومستقرُّه النجاة، وقائده العافية، ومركبه الوفاء، وسلاحه لين الكلمة، وسيفه الرضى، وقوسه المداراة، وجيشه محاورة العلماء، وماله الأدب، وذخيرته اجتنابُ الذنوب، وزاده المعروف، وماؤه الموادعة، ودليله الهدى، ورفيقه صحبة الأخيار" [1/ 142].

[1] بل ربما أسلم بعض الناس بسبب التزامه بآداب العلماء، لي صديقٌ رآه أحدُ النصارى في أحد شوارع دمشق، فرأى أدباً وخلقاً في ملبسه ومشيته وتعامله مع الناس، فاتبعه إلى باب المسجد، وطلب منه أن يسلم على يديه.

[2] الخطيب البغدادي، الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، 1/ 119.

[3] الخطيب البغدادي، الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، 1/ 121-122.

[4] من المفيد التذكير بها ولو كانت خارجَ نطاق موضوع الرسالة، لذلك سأسردها هنا سرداً: تَعميم السلام على الجميع وعدم تخصيص الشيخ وإهمال الباقين، وجلوس الطالب حيث ينتهي به المجلس، والنهي عن تخطِّي الرقاب، وكراهة الجلوس في مكان رجل خَرَجَ وهو يريد العَود إلى مجلسه، وكراهة إقامة الرجل والجلوس مكانه، وكذلك الكراهة ولو قام الرجل من تلقاء نفسه، ومسْح الطالب يدَه بثوب غيره أو أثاثه، وكراهة الجلوس وسط الحلقة، وكراهة التقدّم من تلقاء نفسه إلى صدر الحلقة، وكراهة الجلوس بين اثنين من غير إذنهما، واستحباب قَبول الجلوس بين اثنين وَسَّعَاْ له بينهما من تلقاء نفسيهما، وكراهة الجلوس مُتَرَبِّعاً في مكان ضيق، وكراهة التناجي بين اثنين إذا كانوا ثلاثة، وجواز القيام عند دخول المحدث، والأخذ بركاب المحدث، وتقبيل يده ورأسه ويمينه، واستحباب السلام على أهل المجلس إذا أراد الانصراف قبلَهم، وغير هذا كثير، وللتوسّع انظر الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع كاملاً، ومَن عَمِل بهذه الآداب صارتْ له مَلَكَة لمعرفة سائرِ الآداب في جميع الأزمنة والأماكن وفي كافة الحالات، والله أعلم.

[5] قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في نزهة النظر ص32: "وقَلَّ فنٌّ مِن فنون الحديث إلاّ وقد صَنَّفَ فيه كتاباً مفرَداً، فكان كما قال الحافظُ ابن نقطة: كلُّ مَن أنصف عَلِمَ أن المحدِّثين بعد الخطيب عيالٌ على كتبه".

[6] ابن حبان، صحيح ابن حبان، 1/ 278، وقال محقّقُه بعدَ أنْ خرّج طرقه ورواياته: "فيَتقوَّى الحديثُ بهذه الشواهد، ويَصِحُّ".

[7] ذكرتُ هذه الصفات كي نعلم مكانة هذا العالِم الذي يَنهَى عن طلب العلم الغيرِ المفروضِ لمن لا يكفي نفسه وأهله، فهو أعلم منا بالعِلم وشروط طلبه، وثمة بعض طلاب العلم الذين ينتظرون صدقات الناس ولو على حساب كرامة العِلم.

[8] ابن عبد البر، جامع بيان العلم وفضله، ص709.


[9] هو عاصم بن عصام أبو عِصْمة القُشَيْريّ البَيْهقيّ، روى عن: يَعْلَى بن عُبَيْد، وزيد بْن الـحُبَاب، وجماعة، وروى عنه: مؤمّل الماسرْجِسيّ، وإبراهيم بْن محمد بْن سُفْيَان الفقيه، وغيرهما، قِيلَ: "كان مُجاب الدَّعوة".
توفي سنة 261هـ، انظر: الذهبي، محمد بن أحمد، تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، تحقيق: د.
عمر عبد السلام تدمري، الطبعة الثانية، (بيروت: دار الكتاب العربي، 1410هـ 1990م)، 20/ 114.

[10] قال محمد نعيم عرقسوسي ومأمون صاغرجي في تحقيقهما للجزء الثالث من سير أعلام النبلاء 3/ 344: "أخرجه البَلاذُري بسندٍ حسنٍ".

[11] البخاري، محمد بن إسماعيل، الأدب المفرد، تحقيق: سمير بن أمين الزهيري، الطبعة الأولى، (الرياض: مكتبة المعارف، 1419هـ 1998م)، باب الاستئذان غير السلام، 2/ 598، رقم الحديث 1067.

[12] صحيح البخاري، كتاب الاستئذان، باب إذا قال: مَن ذا؟ فقال: أنا، 8/ 55، رقم الحديث 6250، وصحيح مسلم، كتاب الآداب، باب كراهة قول المستأذن: أنا.
إذا قيل: مَن هذا؟ 3/ 1697، رقم الحديث 2155.

[13] صحيح البخاري، كتاب الاستئذان، باب التسليم والاستئذان ثلاثاً، 8/ 54، رقم الحديث 6245، وصحيح مسلم، كتاب الآداب، باب الاستئذان، 3/ 1696، رقم الحديث 2154.

[14] ثقة، فقيه، عابد، ولد سنة 100هـ وتوفي 169هـ، وكذلك أخوه عليٌّ، ولد بعد أخيه بدقيقةٍ، وتوفي 151هـ، انظر تهذيب التهذيب2/ 285 و 7/ 332.

[15] هو أبو زكريا يحيى بن عبدالملك بن حميد بن أبي غَنِيَّة الخُزاعي الكوفي، أصله من أصبهان، روى عن أبيه وإسماعيل بن أبي خالد والأعمش والثوري وغيرهم، وعنه أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وعلي بن المديني ويحيى بن معين وآخرون، قال أحمد ابن حنبل "كان شيخاً ثقة".
وقال النسائي: "ليس به بأس"، وذكره بن حبان في الثقات، أخرج له مسلم وقرنه البخاري بغيره، توفي سنة 187هـ، انظر تهذيب التهذيب 11/ 252.

[16] هو إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد الشهيدي، أبو يعقوب البصري، روى عن أبي بكر بن عياش وغيره، روى عنه أبو داود في المراسيل والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وجماعة، قال أحمد: "صدوق", وقال النسائي: "ثقة" وقال الدارقطني: "ثقة مأمون".
توفي سنة 257هـ، انظر تهذيب التهذيب 1/ 213.

[17] هو العلامة، الحافظ، الثبت، محدث الوقت، أبو إسماعيل حماد بن زيد بن درهم الأزدي، ولد سنة 98هـ، سمع من: أنس بن سيرين، وعمرو بن دينار، وثابت البناني، وأيوب السختياني، وغيرهم، وروى عنه أُمَمٌ، قال أحمد ابن حنبل: "حماد بن زيد مِن أئمة المسلمين"، توفي سنة 179هـ، انظر سير أعلام النبلاء 7/ 456.

[18] هو الحافظ، الإمام، الحجة، أبو يوسف إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق الهَمْداني، السَّبِيعِي، الكوفي، روى له الجماعة، ولد سنة 100هـ، قال يحيى بن معين: "ثقة"، توفي سنة 160هـ، انظر سير أعلام النبلاء 7/ 355.

[19] مسجد معروف في دمشق حتى يومنا بهذا الاسم.

[20] لم يهتدِ إلى توجيهها لا المحقِّق د.
محمد عجاج الخطيب في طبعته، ولا المحقِّق د.
محمود الطعّان في طبعته، ولعلّ المرادَ منها هكذا: واللهِ _يا محمودُ_ لئن ...إلخ، فسقطتْ واوُ القسم ولم يَذكرْ أداة النداء، والله أعلم.

[21] ضَبَطَها محقِّقا النسختينِ بكسر اللام شكلاً وكتابةً مستدِلَّينِ بضبطها في معجم البلدان، ونَقَلاْ أنّ المخطوطة ضَبَطَتها بالفتح شكلاً وكتابةً، فالله أعلم، وهي قرية من قرى الغوطة الشرقية قرب دمشق، دُثِرتْ.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢