أرشيف المقالات

توجيهات وتحقيقات في الأحاديث النبوية (19)

مدة قراءة المادة : 14 دقائق .
توجيهات وتحقيقات في الأحاديث النبوية (19)

عن سمُرة بن جُندُبٍ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((كلُّ غُلام مُرتهَن بعقيقته، تُذبَح عنه يوم السَّابع، ويُسمَّى، ويُحلَق رأسُه))[1].
 
توجيهات وتحقيقات الحديث:
((مرتَهَن)): من الرَّهن، وهو الحَبْس والمنع، وفي رواية: ((رهينة))[2]، فالرهينة هي الرَّهن، والهاء للمبالغة، كالشتيمة والشتم، ثمَّ استُعملا بمعنى المرهون.
 
((بعقيقته)): والعقيقة مشتقَّة من العقِّ، وهو القَطع، وأصلها: الشَّعر الذي يكون على رأس المولود حين يولد.
 
وسمِّيَت الشاة التي تُذبح عنه في ذلك الوقت عقيقة؛ لأنَّه يُحلق عنه ذلك الشَّعر عند الذبح، وهذا من تسمية الشيء باسم ما كان معه، أو من سبَّبه.
 
فالعقيقة إمَّا مشتقَّة من العقِّ والقطع؛ لأنه يشقُّ حَلْق الذَّبيحة، وهذا ما رجحه ابن عبدالبر، والهروي، وابن الأثير.
 
وإمَّا نسبة إلى الشَّعر الذي يَخرج على رأس المولود من بطن أمِّه.
 
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((كلُّ غُلام مُرتهَن بعقيقته)) معناه: أنَّ العقيقة لازِمة للشخص، لا بدَّ منها، فشبَّهه في لزومها له وعدم انفكاكه منها بالرَّهن في يد المرتهن.
 
لفظة ((كل)) إذا أُضيفَت إلى نكرة أفادَت العموم، فتشمل الذكَر والأنثى.
 
وقد يُقال: ولم شُرعَت العقيقة؟
والجواب: شُرعَت لحِكَم وأسباب، منها ما هو ظاهر جلِي، ومنها ما هو باطن خفِي، وليس جهلنا بحكمة الشيء دليلاً على أنَّه لا حكمة له، وإنَّما دليل على جهلنا وقلَّة علمنا، ومن حِكمها (الظاهرة):
1- أنَّ الإسلام يؤمن بالتآلُف الاجتماعي، وتأكيد العلاقات الأخويَّة بين المسلمين، وسلَك في ذلك طُرقًا؛ فشرع العطايا والهدايا، والهبات والأضاحي...، وهذه وسيلة لنشر المودَّة والمحبَّة بين الناس.
 
2- المعروف أنَّ هدف الزواج هو التناسل؛ حفاظًا على النوع البشريِّ، وامتنَّ الله علينا بالبنين والحفَدَة، وهذه نِعمة تستوجب الشكرَ؛ فشرعت العقيقة إظهارًا للبِشر والفرح والسرور، وإبرازًا للنعمة، ونشرًا للنَّسَب، وترسيخًا للإيمان.
 
3- العقيقة تعني شكرَ المنعم سبحانه وتعالى على ما وهب.
 
4- وفيها أيضًا الطلب لسلامة المولود.
وقد اتفقَت المذاهبُ الإسلامية على مشروعية العقيقة، ولكنَّهم اختلفوا في حكمها على أقوالٍ:
(1) القول الأول: وهو قول مالك والشافعي وأحمد، أنَّها سنَّة مستحبَّة استحبابًا مؤكَّدًا؛ لِما ورد في بعض الروايات: ((مَن وُلد له ولدٌ فأحبَّ أن ينسُك عنه، فلينسُك؛ عن الغُلام: شاتان مُكافئتان، وعن الجارية شاةٌ))[3]، وفي لفظٍ: ((من وُلد له ولدٌ فأحبَّ أن ينسُك عن ولده، فليفعل))[4].
 
ووجه ذلك: أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم علَّق العقيقة على الأحبِّية، والواجب لا يُعلَّق على شيء.
 
ومن هذا قول مالك: "إنَّها سنة واجبة، يجب العمل بها"، وهو لم يُرد الوجوبَ الذي يَأثم بتركه، وإنَّما أراد بالوجوب التأكيد على قاعدته في وجوب السنَّة.
 
وكذا لأنها إراقة دمٍ من غير جناية ولا نَذْر، كالأضحية، فلم يجب.
 
(2) ذهب أهلُ الظاهر إلى أنها واجبة، بدليل ورود الأمر بها، كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها أنَّها قالت: (أمر رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بالعقيقة؛ عن الغُلام: شاتان مُكافئتان، وعن الجارية: شاةٌ)، وفي رواية أخرى عنها رضي الله عنها: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((على الغُلام شاتان مُكافئتان، وعلى الجارية شاةٌ، لا يضُرُّكم ذُكرانًا كُنَّ أم إناثًا))[5].
 
وكذلك للتعبير بكلمة ((مرتهَن))؛ حيث شبَّهه في لزومها عليه وعدم انفكاكه منها بالرَّهن في يد المرتهن.
 
وكذا ما ورد من أنَّ الناس يعرضون على العقيقة كما يعرضون على الصلوات الخمس.
 
(3) ذهب الليث بن سعد إلى القول بوجوبها في السَّبع الأول؛ فإن فاتت لم تجب بعد السبع؛ (ولم يقُمْ على هذا دليل).
 
(4) ذهب الأحناف إلى القول ببدعيَّة العقيقة وإنكارها، واستدلُّوا لذلك بحديث: سُئل رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عن العقيقة؟ فقال: ((لا أُحبُّ العُقُوق))، وكأنَّه إنَّما كره الاسمَ[6]، وكذا بحديث: ((نسَخَ الأضحى كُلَّ ذبحٍ، وصومُ رمضان كُلَّ صومٍ، والغُسلُ من الجنابة كُلَّ غُسلٍ، والزكاةُ كُلَّ صدقةٍ))[7].
 
وقد أُجيب على الحديث الأول بأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم إنما كره الاسمَ فقط، وليس الذبح، وكان من عادته صلوات الله وسلامه عليه تغيير الاسم القبيح إلى الحسَن، على أنَّه ليس في الحديث نفسه تصريحٌ بأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نفسه قد كره الاسمَ، وإنما هذا من فَهْم الراوي ولم يجزم، أو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ذكر قوله: ((لا أُحبُّ العُقُوقَ)) عند ذكر العقيقة؛ لئلا يَسترسل السائل في استحسان كل ما اجتمع مع العقيقة في الاشتِقاق، فبيَّن له النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ بعض هذه المادة محبوب، وبعضها مكروه، وهذا من الاحتراس الحسَن، وإنما سكتَ عنه في وقتٍ آخر؛ لحصول الغرض بالبيان الذي ذكره في هذا الحديث، أو بحسب حال المخاطَبين في العلم وضده، فيبيِّن للجاهل، ويسكت للعالم، ولعله كان مع عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما "راوي الحديث" من احتاج إلى البيان لأجلِه؛ فإنَّ عبدالله صاحب علم وفِقه وفهم.
 
وأُجيب على الحديث الثاني الذي خرَّجه الدارقطني في سننه بأنَّه حديث ضعيف لا تقوم به الحجَّة؛ لأنَّ في سنده راويين متروكين.
 
(5) ذهب الحسن إلى أنَّ العقيقة مشروعة عن الغلام دون الجارية، مستدلاًّ بقوله صلى الله عليه وسلم: ((كلُّ غلامٍ مُرتهَن بعقيقته)).
 
ورُدَّ على الحسن بأنَّ كلمة (كل) أضيفت إلى نكِرَة، فشملَت الذَّكر والأنثى، وأطلقَت هنا من باب التغليب.
 
والذي يترجَّح لنا بعد عرض هذه الآراء: أنَّها سنة مؤكَّدة؛ جمعًا بين الأدلَّة دون العمل ببعضها وتَرْك البعض الآخر، فالجمع أفضل.
 
وقد يُقال: هل قوله صلى الله عليه وسلم: ((تُذبحُ عنه يوم السَّابع)) على سبيل الأفضلية أو التعيين؟
 
ظاهر الحديث أنَّ الذبيحة عن المولود تكون يوم سابعه، وقد ورد أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم عقَّ عن الحسن والحسين يوم السابع من ولادتهما، وقد اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوالٍ:
(1) أنَّ الذبيحة عن المولود يوم السابع من الولادة على سبيل الاستحباب، وبهذا قال الشافعية والحنابلة، وقد ورد في سنن البيهقي عن عبدالله بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((العقيقةُ تُذبح لسبعٍ ولأربع عشرة ولإحدى وعشرين))[8].
 
(2) أنها مؤقَّتة بيوم السابع، فلا تُذبح قبلَه ولا بعده، بل تفوت؛ وهذا قول مالك، وللمالكية آراء أخرى غير هذا الرأي.
 
(3) أنها لا تجزئ قبل السَّابع، ولا تفوت بفواته؛ فتذبح بعده متى أمكن، وهذا رأي ابن حزم؛ لأنَّها عنده فرض، ولا بدَّ من فعلها ولو قضاءً.
 
وقد اختلف العلماء هل يُحسب يوم الولادة منها أو لا؟ والأصحُّ والأظهر أنه يُحسب، وقال مالك: لا يُحسب، وعند الشافعية خلاف.
 
وقد يُقال: هل تسقط العقيقة بمرور الزمن؟
والجواب: أنه إذا لم يَقم وليُّ الأمر من أبٍ أو كفيل بالذبح عن المولود، فإن أخرها حتى بلَغ، سقط حكمُها في حقِّ غير المولود، والمرء بعد ذلك مخيَّر في العقيقة عن نفسه، وقد ورد بهذا حديثٌ ضعيف: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم عقَّ عن نفسه بعد النبوَّة؛ أخرجه البيهقي، وقال: حديث مُنكَر لا يثبت[9].
 
قوله صلى الله عليه وسلم: ((تُذبحُ)) فيه دلالة على جواز أن يعقَّ عن المولود شخصٌ أجنبي؛ وذلك لأنَّ الفعل مبني للمجهول.
 
ومما يؤيِّد ذلك: أنَّ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عقَّ عن الحسن والحسين في وجود الوالدين، ومالَ الشافعيةُ إلى القول بأنَّه إنما يَعق عن المولود مَن تلزمه نفقته من مال العاقِّ، لا من مال المولود[10].
 
في قوله صلى الله عليه وسلم: ((ويُسمَّى)) دلالة على تسمية المولود يوم السَّابع، وقد سمَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم الحسنَ والحسين رضي الله عنهما يوم السابع[11].
 
وجاء عند الترمذي عن عمرو بن شُعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه: "أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم أمر بتسميةِ المولُود يومَ سابعه، ووضع الأذى عنه، والعقِّ"[12].
 
ولهذا ذهب جمهورُ الفقهاء إلى أن تسمية المولود تكون يومَ سابعه، وذهب بعضُهم إلى جواز أن تكون التسمية قبل السابع أو بعده، ولكنَّ التأخير إلى السابع أحسن.
 
فعن أبي مُوسى رضي الله عنه، قال: (وُلد لي غُلامٌ، فأتيتُ به النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فسمَّاه إبراهيم، فحنَّكه بتمرةٍ، ودعا له بالبركة، ودفعه إليَّ)، وكان أكبرَ ولد أبي مُوسى[13].
 
وبوَّب البخاري في صحيحه "بابُ تسمية المولُود غداة يُولدُ، لمن لم يعُقَّ عنه، وتحنيكه"، وكأنه رحمه الله يريد التفرقة بين من لم يعق عنه، ومن يعق عنه.
 
فمن لم يُرَدْ أن يُعَقَّ عنه لا يؤخَّر تسميته إلى يوم السابع؛ كما حدث في واقعة أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، ومن أُريد أن يُعَقَّ عنه تؤخَّر تسميتُه إلى يوم العقيقة.
 
في قوله صلى الله عليه وسلم: ((ويُحلَقُ رأسُه)) دلالةٌ على مشروعية حَلْق رأس المولود، وقد وردت روايات في ذلك وبصيغٍ مختلفة.
 
وهل الذكر كالأنثى في هذا؟ الظاهر نعم، وحُكي عن الماوردي كراهة حَلْق رأس الجارية.
 
ويُحلَق جميع الرأس لا بعضه؛ لنهيه صلى الله عليه وسلم عن القزع؛ كما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
 
وقد وردت بعض الروايات التي تُشير إلى التصدُّق بزِنَة الشَّعر فضَّة، وأغلب هذه الروايات روايات ضعيفة، رواها الإمامُ مالك والبيهقي، وأكثر الطرق - رغم ضعفها - تُشير إلى التصدُّق بالفضَّة، وليس في شيء منها الذَّهب[14].
 
وقد ثبت حديثٌ موقوفٌ عن ابن عباس رضي الله عنهما، وفيه ذِكر الذهب، وحَكم عليه العلماء بأنَّ رجاله ثقات.



[1] رواه الترمذي (1522)، النسائي (4220)، أبو داود (2837)، ابن ماجه (3165)، وغيرهم.


[2] رواه أبو داود (2837).


[3] رواه أبو داود (2842)، النسائي (4212)، أحمد (6822).


[4] أخرجه مالك (2 / 500).


[5] رواه أبو يعلى في مسنده (4648)، وإسحاق بن راهويه (1290)، (1290).


[6] رواه مالك 2 / 500 (1441)، أحمد (6822)، (23134)، (23643)، (23644).


[7] رواه الدارقطني في سننه 5 / 506 (4747)، وهو حديثٌ ضعيفٌ؛ ففيه المُسَيبُ بن واضحٍ، وهو ضعيف، والمُسيبُ بن شريكٍ، وهو متروكٌ.


[8] سنن البيهقي 9 / 303 (19076).


[9] راجع التفصيل في طرح التثريب 5 / 209.


[10] وأجاب الشافعية على فعل الرسول صلى الله عليه وسلم بما يلي:
1/ أنه ثبت في بعض الروايات أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم أبوهما.
2/ أو أنهما طلبا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك، فتبرَّع النبي صلى الله عليه وسلم بهذا بعد أن أذنا له.
3/ أو أنهما أعطياه ما عقَّ به.
4/ أو أنهما كانا معسرين، فيكونان في نفقة جدِّهما رسول الله صلى الله عليه وسلم.
5/ أو يكون ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم؛ أنَّ له التبرُّع عمَّن شاء من أمته، كما ثبت أنَّه ضحَّى عمن لم يضحِّ من أمته.


[11] كما ورد في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فيما أخرجه الحاكم في مستدركه 4/ 237 (7588).


[12] رواه الترمذي 4 / 429 (2832)، وقال: هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ.


[13] رواه البخاري (5467)، ومسلم (2145).


[14] راجع المجموع؛ للنووي 8 / 433.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣