شرح حديث: توضؤوا مما مست النار
مدة
قراءة المادة :
11 دقائق
.
شرح حديث: توضؤوا مما مست النارعن أَبَي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: "تَوَضَّؤوا مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ" رواه مسلم.
ومثله عن عائشة رضي الله عنها أيضاً.
وللبخاري من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه "أنه سُئِل عن الوُضوءِ ممّا مَسَّتِ النار، فقال: لا، قد كنَّا زمانَ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم لا نجِدُ مثلَ ذلك من الطعام إلاّ قليلاً، فإِذا نحنُ وَجَدناهُ لم يكن لنا مَنَادِيلُ إلاّ أكَفَّنا وَسَواعدَنا وأقْدامَنا.
ثمَّ نُصلِّي ولا نَتَوضأ".
عَنْ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صلّى الله عليه وسلّم يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ.
فَأَكَلَ مِنْهَا، فَدُعِيَ إِلَى الصَّلاَةِ، فَقَامَ وَطَرَحَ السِّكِّينَ وَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.
وورد نحوه في الصحيحين عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، ومن حديث ميمونة رضي الله عنها أيضا.
ألفاظ الأحاديث:
• (تَوَضَّؤوا): ذهب بعض العلماء إلى أن المقصود بالوضوء هنا الوضوء اللغوي وهو غسل الفم واليدين فقط حتى يخرج من تعارض الأحاديث في الوضوء مما مست النار والصحيح أن المقصود به الوضوء الشرعي المعروف الذي أراده الله - عزّ وجل - في كتابه وفي سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأضعف من ذلك قول بعضهم: إن المراد بذلك الوضوء اللغوي وهو غسل اليد أو اليد والفم فإن هذا باطل من وجوه " [انظر: " الفتاوى "(10/ 264)].
• (مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ): أي من كل شيء طُبخ بالنار.
• (مَنَادِيلُ): جمع منديل وهو نسيج من قطن أو حرير أو نحوهما.
• (يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ): يحتز أي يقطع من كتف شاة، وجاء في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -عند مسلم: " فأتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بهدية خبز ولحم فأكل ثلاث لقم ثم صلى بالناس وما مس ماء " ففي هذه الرواية بيان مقدار ما أكله من اللحم وجهة اللحم وأنه هدية.
• (وَطَرَحَ السِّكِّينَ): أي ألقاها، وفي لفظة (السكين) لغتان التذكير والتأنيث، فتقول: هذه سكين وهذا سكين وتقول: سكين جيد وجيدة، وسميت سكيناً لتسكينها حركة المذبوح، وكان الصحابة يسمون السكين المُدْيَة فقد جاء في مسلم أن أبا هريرة - رضي الله عنه - قال: " والله إن سمعت بالسكين قط إلا يومئذ ما كنا نقول إلا المُدْيَة " وجاءت لفظ السكين في القرآن أيضاً قال تعالى: ﴿ وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً ﴾ [يوسف: 31].
من فوائد الأحاديث:
الفائدة الأولى: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - دليل على وجوب الوضوء من كل شيء مسته النار، ولكن جاءت أدلة أخرى في الباب تدل أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أكل مما مست النار ولم يتوضأ، فاختلف في الوضوء مما مست النار.
القول الأول: أنه يجب الوضوء من كل شيء مسته النار، وهذا قول أهل الظاهر والحسن البصري والزهري.
واستدلوا: بحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -في الباب " توضؤوا مما مست النار " وقالوا أن هذا الحديث غير منسوخ
القول الثاني: أنه لا يجب الوضوء مما مست النار، وهذا القول ذهب إليه الخلفاء الراشدون الأربعة رضي الله عنهم وجمع من الصحابة أيضاً كابن مسعود وأبي الدرداء وابن عباس وابن عمر وأنس بن مالك وجابر بن سمرة وزيد بن ثابت وأبي موسى وأبي هريرة وأبي بن كعب وأبي طلحة وعامر بن ربيعة وأبي أمامة وعائشة رضي الله عنهم أجمعين وجماهير التابعين وهو مذهب الأئمة الأربعة.
واستدلوا:
1- بأحاديث الباب التي تدل أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أكل مما مست النار ثم قام وصلى ولم يتوضأ، كحديث عمرو بن أمية الضمري، وحديث ابن عباس، وحديث ميمونة رضي الله عنهم أجمعين.
2- حديث جابر - رضي الله عنه - عند البخاري: أنه سئل عن الوضوء مما مست النار فقال: " لا "
3- فعل الخلفاء الراشدين: فقد جاء عند الطبراني وحسَّن إسناده ابن حجر [انظر: " الفتح " (1/ 406)] من طريق سليم بن عامر - رضي الله عنه - قال: " رأيت أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أكلوا مما مست النار ولم يتوضؤوا " ورواه البخاري تعليقاً.
يتبين مما سبق أن الصحيح هو عدم وجوب الوضوء مما مسته النار.
قال النووي بعد ما ساق الخلاف في ذلك: " ثم إن هذا الخلاف الذي حكيناه كان في الصدر الأول، ثم أجمع العلماء بعد ذلك على أنه لا يجب الوضوء بأكل ما مسته النار والله أعلم " [انظر: " شرح مسلم " (4/ 266)].
• فإن قيل: ما الجواب عن حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -في الباب "توضؤوا مما مست النار "
أجيب عنه بأجوبة أشهرها جوابان:
الأول: أنه حديث منسوخ بحديث جابر- رضي الله عنه -قال: " كان آخر الأمرين من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ترك الوضوء مما مست النار " والحديث رواه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة وابن حبان والنووي أيضاً [انظر: " شرح مسلم" (4/ 266)]
ومن أهل العلم من ضعفه فقد أعله أبو حاتم بالاضطراب [انظر: " علل الحديث" (1/ 66)]، وله علة أخرى نقلها الحافظ ابن حجر عن الشافعي أنه قال: لم يسمع ابن المنكدر هذا الحديث من جابر، إنما سمعه من عبد الله بن محمد بن عقيل، و عبد الله هذا صدوق في حديثه لين كما في التقريب.
ولكن يشهد لهذا الحديث حديث جابر - رضي الله عنه -في الباب وهو عند البخاري: أنه سئل عن الوضوء مما مست النار فقال: لا قد كنا زمان النبي صلّى الله عليه وسلّم لا نجد مثل ذلك من طعام إلا قليلاً..." الحديث.
الجواب الثاني: أنه يحمل حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -على استحباب الوضوء مما مست النار، فالأمر بالوضوء مما مست النار ينزل منزلة الاستحباب لورود الأدلة على جواز ترك الوضوء مما مست الناركما سبق بيانه، وهذا القول رواية في مذهب الإمام أحمد واختاره الخطابي [انظر: " فتح الباري" (1/ 407)]، ومال إليه شيخ الإسلام ابن تيمية والشوكاني [انظر: " نيل الأوطار "]، والشيخ ابن باز في تعليقه على بلوغ المرام قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " وكذلك الوضوء مما مست النار مستحب في أحد القولين في مذهب أحمد وغيره، وبذلك يجمع بين أمره وبين تركه، فأما النسخ فلا يقوم عليه دليل، بل الدليل يدل على نقيضه " [انظر: " مجموع الفتاوى" (21/ 241)].
مما يدل أيضاً على استحباب الوضوء مما مست النار حديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه - أن رجلاً سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم: أتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: " إن شئت " قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: "نعم" رواه مسلم.
ووجه الدلالة: لو أن الوضوء من لحوم الغنم غير مستحب لما أذن فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما في هذا الحديث لأن فيه إسراف وتضييع للماء من غير فائدة [انظر: " نيل الأوطار للشوكاني" (2/ 275)].
الفائدة الثانية: حديث عمرو بن أمية الضمري - رضي الله عنه -: " رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحتز من كتف شاة، فأكل منها فدعي إلى الصلاة فقام وطرح السكين وصلى ولم يتوضأ " فيه دلالة على جواز قطع اللحم بالسكين وجاء في أحاديث أُخر ما يدل على جواز ذلك أيضاً وأما حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: " لا تقطعوا اللحم بالسكين فإنه من صنيع الأعاجم، وانهسوه فإنه أهنأ وأبرأ " رواه أبو داود وقال: " ليس بالقوي " فهو حديث ضعيف لأن في سنده أبا معشر نجيح بن عبد الرحمن السندي رجل ضعيف ضعفه ابن حجر[انظر: " الفتح " (1/ 407)] وابن القيم والألباني وغيرهم.
قال ابن القيم " زاد المعاد" (4/ 372): " وأما حديث عائشة رضي الله عنها، الذي رواه أبو داود مرفوعاً: " لا تقطعوا اللحم بالسكين، فإنه من صنيع الأعاجم وانهسوه فإنه أهنأ وأبرأ " فرده الإمام أحمد بما صح عنه صلّى الله عليه وسلّم من قطعه بالسكين في حديثين " وذكر ابن القيم أنه لا يصح في النهي عن قطع اللحم بالسكين حديث.
انظر: " المنار المنيف "
فائدة: ليس لعمرو بن أمية الضمري - رضي الله عنه - في صحيح البخاري غير هذا الحديث والحديث الذي سبق في المسح على الخفين.
الفائدة الثالثة: قول جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -: " كنا زمان النبي صلّى الله عليه وسلّم لا نجد مثل ذلك الطعام إلا قليلاً، فإذا نحن وجدناه لم يكن لنا مناديل إلا أكفنا وسواعدنا وأقدامنا، ثم نصلي ولا نتوضأ " فيه دلالة على ما كان عليه الصحابة من التقلل من متاع الحياة الدنيا في طعامهم وما يحتاجونه كالمناديل ونحوها.
مستلة من إبهاج المسلم بشرح صحيح مسلم (كتاب الطهارة)