أرشيف المقالات

الطيرة والفأل

مدة قراءة المادة : 14 دقائق .
إبطال مزاعم الجاهلية (2) [*]
الطيرَة والفأل
 

ضلالة التطيُّر:
أشرنا إلى أنَّ العرب كانوا يعتمدون في مُهمَّاتهم على الطير، فإذا خرج أحدهم لأمرٍ، فرآه قد طار يَمْنةً تيمَّن به ومضى، وإن طار يَسْرَةً تشاءم به ورجع، وكانوا يُسَمُّون الأول: "السَّانح"، وفسَّره أهل اللغة بأنه: ما ولاك ميامنه، فمرَّ عن يسارك إلى يمينك، ويسمون الثاني: "البارح"، وفسَّروه بأنه: ما ولاك مياسره فمرَّ عن يمينك إلى يسارك، وأحيانًا كانوا يثيرون الطير، والوحش، والظباء من وُكناتها[1]؛ لينظروا ما تأخذ في سَيْرها، فيعتمدوا عليه.


تطيُّرهم بالغراب:
وأكثر ما كانوا يتشاءَمون به الغرابُ، حتى لقد ضَرَبوه مَثَلًا في الشُّؤْم؛ فقالوا: أشْأَم من غراب البَيْن؛ لأنه إذا بان أهل الدار للنجعة وطَلَبِ الكلأ في موضعه، وقع الغراب في موضع بيوتهم يتلمَّس ويتقمَّم، فتشاءموا به، إذ كان لا يعتري منازلهم إلا إذا بانوا، فسمُّوه غراب البَيْن.


ومن أجل تشاؤمهم به اشتقُّوا من اسمه الغُربة، والاغتراب، والغريب، وليس في الأرض طيرٌ، ولا وحش، ولا شيءٌ ممَّا يتطيَّرون به إلا والغراب عندهم أنكد منه.



سلطان الأباطيل والأوهام:
ولا يعنينا هنا تفصيلُ ما كانوا يتشاءمون به، ولا بيان مذاهبهم في التشاؤم واختلافهم فيه؛ فكتب التاريخ والأدب حافلة بذلك كله، وإنما الذي يعنينا أن نتأمل مليًّا في ضلالات الإنسان وجهله، وسخافاته وظُلمه، وأنه لو تُرك وشأنه دون رسولٍ يهديه أو شريعةٍ تحميه، لكان شرًّا لا يحتمل، وبلاءً لا يطاق.


ماذا أغنى عنه عقلُه وتفكيره، أو قانُونه وتدبيره، وهو أسيرُ تلك الخُرافات الضَّالَّة، وسجينُ تلك الظُّلمات الحالكة؟!
تالله إنَّ الوحوش في مَضَاربها، والطيورَ في مَسَاربها، خيرٌ من هذا الإنسان الذي جَنَى على عقله وكرامته؛ إذْ أخضع عنقه لسلطان الأباطيل والأوهام، وغلَّه - راضيًا - بأغلال الشِّرك والآثام.


وإذا كان لهم شبهةٌ في تأثير الاختلاط وانتقال المرض به، فما شبهتهم في الطِّيرَة وتعليق الأمور عليها؟!

إنَّ الاختلاط - كما أسلفنا - من الأسباب العادية التي جَرَت عادةُ الله تعالى أن يربط بها مُسبّباتها، والضَّرر إنما جاء من قِبَلِ التغالي فيها ونسبةِ التأثير إليها.


وأما الطِّيَرة فلا علاقة بينها ألبتة وبين نجاح الأمور أو خيبتها، وما تراءى من ذلك أو صادف فهو مِن تزيين الشيطان أو إغرائه، والشؤم عند التشاؤم، ويدل لهذا ما أخرجه ابن حبَّان في "صحيحه": ((لا طِيَرَةَ، والطِّيَرَةُ على مَنْ تطيَّر))[2].


وقد يقع هذا عقوبةً من الله تعالى أو ابتلاءً منه، والمؤمن عُرضةٌ لبلاءٍ دائم، فَلْيَسأل الله دائمًا العفوَ والعافية.


وجملة القول: إنه ليس في سنوح الطير ولا بُروحها، ولا في شيءٍ ممَّا يتطيَّرون به ألبتة دلالةٌ على ما يقولون من أمر، وإنما هو عناد الإنسان وجهله، وولعه بنسيان الحَسَنات وإحصاء السيِّئات، وعسى أن يكره شيئًا وهو خيرٌ له، وعسى أن يحبَّ شيئًا وهو شرٌّ له، وفيما قصَّ الله تعالى من قصص المشركين أنهم إذا جاءتهم الحسنة فرحوا بها، وإن تصبهم سيئة يَطَّيَّروا برسلهم، وينسوا أن ما أصابهم فبما كَسَبت أيديهم.


بلاء الطِّيَرة وسرُّ النهي عنها:
وليست الطِّيَرةُ شُعبةً من الشِّرك والضلالة فحسب، ولكنها علاوة على ذلك عذابٌ للنفوس أليم، وهمٌّ مُقْعد لها مقيم، ومَفْسَدةٌ للعقول والأعمال، ومَضْيعَةٌ للمَصَالح والآمال، فَمَا مِنْ ساعة تمرُّ من دون أن يرى الإنسان فيها ويسمع ما يجوز أن يكون داعيةً من دواعي التطيُّر، فإذا تَشَاغَل بذلك وتشاءم فما أنكد عَيْشَه! وما أمرَّ حياته!
 
لهذا قضى النبيُّ صلى الله عليه وسلم على الطِّيَرة قضاءً مُبْرَمًا، وأبْطَلَها بالأسلوب الذي أبطل به العَدوى، وقَصَد من نفيها - وإن كانت معروفةً عند الآثمين - نفيَ سببيَّتها، فَضْلًا عن تأثيرها والاعتماد عليها.


ليس العرب بدعًا في التشاؤم:
ومن الإنصاف أن نقرِّر أنه ليس العرب في التشاؤم نسيجَ وَحْدِهم، بل لا تكاد تخلو أمةٌ ولا بلدة في مَشَارق الأرض ومغاربها من التشاؤم، وإن اختلفت في أنواعه وصفاته.
 
هؤلاء العَجَم يُنقل عنهم أنهم يَتَشاءمون بالصبيِّ يذهب إلى المعلم بالغداة، ويتيمَّنون به راجعًا من عنده إلى منزله، ويتشاءمون بالسقَّاء على ظهره قربةً مملوءة مشدودة، وبالحمَّال المُثَقل بالحمل، وبالدابَّة المُوقرة، ويتيَمَّنون بعكس ذلك، ومن الناس مَنْ يخالفهم في هذا كلِّه، ومن الناس من يتشاءم بعدد خاصٍّ، أو بيوم معيَّن.


وقد سُئل مالك رحمه الله عن الحجامة يوم السبت ويوم الأربعاء، فقال: لا بأس بذلك، وليس يومٌ إلا وقد احتجمتُ فيه، ولا أكره شيئًا من هذا، حجامةً ولا طلاءً ولا نكاحًا ولا سفرًا في شيء من الأيام.


وضلالةُ الشُّؤم والمتشائمين في العصور الخَوَالي، بل في عصر المدنية والنور - كما يقولون - أكثر من أن تُحصى[3].



إنكار حكماء الجاهلية التطيُّر:
على أنه كان من عقلاء الجاهلية وحكمائهم من يُنكر التطيُّر، ويتمدَّح بتركه ولا يراه شيئًا، وفي ذلك يقول المُرقِّش:






ولقد غَدَوتُ وكنتُ لا
أغدو على واقٍ وحاتم[4]


فإذا الأَشَائمُ كالأيا
مِنِ، والأَيَامنُ كالأشائم[5]






وقال آخر:






تعلَّم أنه لا طَيْر إلا
على مُتطيِّر وهو الثُّبور


بلى، شيءٌ يوافق بعضَ شيءٍ
أحايينًا، وباطِلُه كثير






وقال ثالث:
الزَّجْر والطَّير والكُهَّان كلُّهم *** مُضلِّلون ودون الغَيْب أقْفال
بم يُدفع التطيُّر؟
ولمَّا كان الاحترازُ من التطيُّر بليغَ العُسْر والمَشَقَّة، رُفع عن الإنسان ما يَعْتريه منه، وما يُوَسْوس له الشيطان فيه، ولم يُؤَاخَذْ إلا بركونه إليه، واعتماده عليه.
 
أخرج عبدالرزاق عن إسماعيل بن أميَّة عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة لا يَسْلم منهنَّ أحد: الطِّيرة، والظنُّ، والحَسَد، فإذا تطيَّرت فلا ترجع، وإذا حَسَدت فلا تبغ، وإذا ظننت فلا تحقِّق))[6] .


وأخرج أبو داود عن عروة بن عامر قال: ذُكرت الطِّيَرَةُ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أحسنها الفألُ، ولا تردُّ مسلمًا، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهمَّ لا يأتي بالحَسَنات إلا أنت، ولا يدفع السَّيِّئات إلا أنت، ولا حَوْل ولا قوَّة إلا بك))[7].


وسأل كعب الأحبار عبدَالله بن عمر[8]: هل تتطيَّر؟ فقال: نعم، قال: فكيف تقول إذا تطيَّرت؟ قال أقول: ((اللهمَّ لا طَيْرَ إلا طَيْرك، ولا خَيْرَ إلا خيرك، ولا ربَّ غيرك، ولا قوَّة إلا بك))؛ فقال كعب: إنه أفقه العرب، والله إنها لكذلك في التوراة[9].

الترخيص في الفأل:
ومما يقترن بالطِّيَرة ويُذكر معها - حتى لكأنَّه منها -: "الفأل"، وقد رخَّص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لما له من كريم الأثر في فتح باب الأمل، والحثِّ على الجدِّ والعمل، وحُسْن الظنِّ بالله عزَّ وجل، وعلى العكس من ذلك التشاؤم والعياذ بالله تعالى؛ فإنه مفتاحٌ للشرِّ، مِغْلاقٌ للخير، مُفْضٍ إلى سُوء الظنِّ واضطراب العقيدة.


وقد روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا طِيَرَة، وخيرُها الفأل))، قالوا: وما الفألُ يا رسول الله؟ قال: ((الكلمةُ الصَّالحة يسمعها أحدكم))[10].

وفي رواية: ((ويعجبني الفأل؛ الكلمة الحسنة))[11].

وأخرج الترمذي من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج لحاجة يُعجبه أن يسمع: ((يا نجيح، يا راشد))[12].

وأخرج أبو داود أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يتطيَّر من شيء، وكان إذا بعث عاملًا يسأل عن اسمه، فإذا أعجبه فرح به، ورُئِي بِشْرُ ذلك في وجهه، وإن كره اسمه رُئي كراهة ذلك في وجهه[13].


وسواءٌ أكان الفأل ضرْبًا من الطِّيرَة، مُستثنًى منها، كالرُّقية بالمأثور تستثنى من غيرها، أم لم يكن كذلك، فإنَّ الفأل بريءٌ من الشِّرك، جارٍ على مقْتضى الفطرة، موافقٌ لما أودع الله غرائز الناس وطبائعهم من الارتياح إلى المنظر الأنيق، كالخُضْرة الرائعة، والماء السَّلس، ومن الاسْتبشار بالأسماء الجميلة، كالسَّلام، والنجاح، والبُشْرى، ومحالٌ أن يدخلَ هذا وما إليه في حكم التطيُّر، اللهمَّ إلا أن يَقصد إليه المرء قصدًا[14].




[*] مجلة الأزهر، العدد الثالث، السنة السادسة عشرة، 1364.


[1] الوكنة: اسم لكلِّ وكر وعش.


[2]أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (6123) من حديث أنس بن مالك، وإسناده حَسَن.


[3] اقرأ طرفًا طريفًا منها في "شرح أحاديث كلية اللغة" لأستاذنا العلامة عبدالحليم أحمد، وفي شرحنا هذا شَذَراتٌ من بلاغته (طه).


[4] الواقي: الصَّرد، وهو طائرٌ أبقع ضخم الرأس يكون في الشجر، نصفه أبيض ونصفه أسود، وقد تحذف ياؤه؛ تسمية له بحكاية صوته، والحاتم: الغراب؛ لأنه يحتم بالفراق على زعمهم.
(طه).


[5] أورد الزَّبيدي هذه الأبيات في "تاج العروس" مادة (ح ت م) و(و ق ى)، وقال: وأنشد الجوهري للمرقَّش، ويروى لخُزر بن لَوْذَان، والأبيات في "الصحاح" للجوهري 5: 1893 ولم أعرف أي المرقشين هو؟ الأكبر: عوف بن سعد، أم الأصغر: عمرو بن حرملة.



[6] رواه عبدالرزاق في "المصنف" 10: 403 (19504)، ومن طريقه البيهقي في "الشُّعب"(1129) عن معمر، عن إسماعيل بن أمية مرفوعًا: ((ثلاث لا يعجزهنَّ ابن آدم: الطيرة، وسوء الظن، والحسد، قال: فينجيك من الطِّيرة ألا تعمل بها، وينجيك من سوء الظن ألا تتكلم به، وينجيك من الحسد ألا تبغي أخاك سوءًا))، وإسماعيل: لم يدرك صحابيًّا، فهذا إسناد معضل، قال الحافظ في "الفتح" 10: 484: وهذا مرسل أو معضل، ولكن له شاهد من حديث أبي هريرة، أخرجه البيهقي في "الشعب"، وأخرج ابن عدي بسند ليِّن عن أبي هريرة رفعه: ((إذا تطيَّرتم فامضوا، وعلى الله فتوكَّلوا)).
والشاهد الذي أشار إليه الحافظ في "الشعب" 2: 371 - 372 (1130) و(1131) ساقه البيهقي من وجهين إلى شعبة، عن محمد بن إسحاق، قال في الأولى: عن الأعرج، عن أبي هريرة، وقال في الثاني: عن علقمة بن أبي علقمة، عن أبي هريرة، وكلُّ واحدٍ منهما يشهد للآخر، ورواية شعبة عن ابن إسحاق يؤمَن فيها تدليسه، وإن عَنْعَن.
وروى ابن عدي 4: 1623 من طريق عبدالرحمن بن سعد بن عمار، عن عبدالله بن سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعًا: ((إذا حسدتم فلا تبغوا، وإذا ظننتم فلا تحقِّقوا، وإذا تطيَّرتم فامضوا، وعلى الله توكلوا))، وعبدالرحمن بن سعد: ضعيف، والمقبري: متروك، فقول الحافظ: "بسند ليِّن..." فيه نظر.


[7] أخرجه أبو داود (3919) في الطب، وعروة بن عامر مُختلف في صحبته كما في "التقريب" (4564).


[8] الصواب: عبدالله بن عمرو كما سيأتي.


[9] هكذا في "مفتاح دار السعادة" [2: 567]، ورواه صاحب "الفتح" مختصرًا موقوفًا على عبدالله بن عمرو بالواو، ولعلَّ هذا راجح لأنه معروف باطِّلاعه على التوراة (طه)، وكذلك أورده الحافظ ابن رجب في "لطائف المعارف" ص143 من حديث عبدالله بن عمرو، وعزاه إلى "مسند ابن وهب"، وفي مسند أحمد 2: 220 (7045) عن عبدالله بن عمرو مرفوعًا: ((من ردَّته الطِّيرة من حاجتِهِ فقد أشرك))، قالوا: يا رسول الله، ما كفَّارة ذلك؟ قال: ((أن يقول أحدهم: الَلَّهمَّ لا طيْر إلا طيرُكَ، ولا خيْرَ إلا خيرُك، ولا إله غيرُك))، وهو حديث حسن، قال الهيثمي في "المجمع" 5: 105: رواه أحمد والطبراني وفيه ابن لهيعة، وحديثه حسن، وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات.


[10] أخرجه البخاري (5754)، ومسلم (2223).


[11] أخرجه البخاري (5756)، ومسلم (2224).


[12] أخرجه الترمذي (1616)، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.


[13] أخرجه أبو داود (3920).


[14] انظر: الفرقان بين الفأل والطيرة في أواخر الجزء الثاني من "مفتاح دار السعادة" [557 - 573] لابن القيم، واقرأ أعاجيب من أخبارهما (طه).

شارك الخبر

المرئيات-١