أرشيف المقالات

حديث: أول شيء بدأ به حين قدم مكة أنه توضأ ثم طاف بالبيت

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
حديث: أول شيء بدأ به حين قدِم مكة أنه توضَّأ ثم طاف بالبيت
 

عن عروة بن الزبير قال: قد حجَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرتني عائشة رضي الله عنها أن أول شيء بدأ به حين قدِم مكة أنه توضَّأ، ثم طاف بالبيت، ثم حج أبو بكر فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت، ثم لم يكن غيره، ثم عمر مثل ذلك، ثم حج عثمان فرأيته أول شيء بدأ به الطواف بالبيت، ثم لم يكن غيره.
 
وعن عبدالله مولى أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنه كان يسمع أسماء كلما مرت بالحجون تقول: صلى الله على رسوله وسلم، لقد نزلنا معه ها هنا ونحن يومئذ خفاف الحقائب، قليل ظهرنا، قليلة أزوادنا، فاعتمرت أنا وأختي عائشة والزبير وفلان وفلان، فلما مسحنا البيت أحللنا، ثم أهللنا من العشي بالحج.
 
تخريج الحديثين:
حديث عروة رضي الله عنه أخرجه مسلم حديث (1235)، وأخرجه البخاري في "كتاب الحج"، "باب من طاف بالبيت إذا قدم مكة قبل أن يرجع إلى بيته، ثم صلى ركعتين، ثم خرج إلى الصفا"، حديث (1615)، وأما حديث عبدالله مولى أسماء رضي الله عنها، فأخرجه مسلم حديث (1237)، وأخرجه البخاري في "كتاب العمرة"، "باب متى يحل المعتمر"، حديث (1796).
 
شرح ألفاظ الحديثين:
((ثم لم يكن غيره)): اختلف في هذا اللفظ، فقيل: إن فيه تصحيفًا، والصواب (ثم لم يكن عمرة)، وهكذا رواها البخاري، والمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم، وبعده أبو بكر ثم عمر ثم عثمان رضي الله عنهم كلهم حجَّ، ولم ينقض حجه بعمرة بأن حلَّها إلى عمرة، وكان هذا جواب لسائل يسأل عن نسخ الحج بالعمرة، فجاءه الجواب بأن هؤلاء حجوا ولم ينقضوها بعمرة، قيل: إن في اللفظ تصحيفًا، وهو قول القاضي عياض رحمه الله، ورده النووي رحمه الله، وأنه ليس في اللفظ تصحيف، وأن قوله: (ثم لم يكن غيره)؛ أي: كل هؤلاء السابق ذكرُهم حجَّوا، ولم يغيروا الحج إلى العمرة أو غيرها، وأن لفظ (ثم لم يكن عمرة) مُقيدة لرواية (ثم لم يكن غيره)، وبه قال القرطبي رحمه الله؛ [انظر شرح مسلم للنووي حديث (1235) والمفهم (3/ 362) حديث (1107)].
 
((مرت بالحجون)): بفتح الحاء وضم الجيم، وهو جبل بأعلى مكة على يمين مَن يصعده من عند المحصب.
 
((خفاف الحقائب)): جمع حقيبة وهو كل ما حُمِل في مؤخرة الرحل، ومرادها توضيح ما كانوا عليه في الزمن السابق من الفقر وضيق الحال والقلة، ولذا قالت: (قليل ظهرنا)؛ أي: ما نركبه.
 
((فلما مسحنا البيت أحللنا)): تقصد بذلك لمس الحجر الأسود ولم تذكُر السعي؛ لأنه معلوم لا يحتاج إلى ذكرٍ؛ لأنه ملازم للطواف، ثم حلقوا أو قصروا، ثم حلوا من العمرة، ثم أحرموا بعد ذلك بالحج.
 
((ثم أهللنا من العشي)): قال ابن الأثير رحمه الله: "ما بعد الزوال إلى المغرب عشي"؛ انظر مادة (عشا).
 
من فوائد الحديثين:
الفائدة الأولى: حديث عروة رضي الله عنه فيه دلالة على مشروعية الوضوء للطواف، ولا خلاف في ذلك، إنما الخلاف في وجوبه.
القول الأول: أن الوضوء شرط للطواف، وبه قال جمهور العلماء رحمهم الله، وهو قول مالك والشافعي وأحمد.
 
واستدلوا:
(1) بحديث الباب، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أول شيء بدأ به حين قدِم مكة أنه توضَّأ ثم طاف.
 
(2) حديث عائشة رضي الله عنها، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لها حين حاضت: ((افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهُري))؛ متفق عليه.
 
(3) حديث ابن عباس رضي الله عنهما: ((الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام))؛ رواه الترمذي والنسائي.
 
والقول الثاني: أن الوضوء سنة، وهو قول أبي حنيفة، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وشيخنا ابن عثيمين رحمهم الله جميعًا.
واستدلوا بعدم الدليل الموجب للوضوء للطواف، وأما ما استدل به الجمهور، فغير ناهض على الوضوء، فحديث عائشة رضي الله عنها حكاية فعل، والفعل لا يدل على الوجوب، بل على الاستحباب كما هو متقرَّر في الأصول، وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: ((لا تطوفي حتى تطهري))، فالمقصود بالطهارة الحدث الأكبر الذي مرَّ بها حال حجِّها مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما، فلا يصح مرفوعًا، بل هو موقوف على ابن عباس، ولا شك أن فقه الصحابي رضي الله عنهم يقدم إذا لم يعارض، ولكنه لا يدل على وجوب الوضوء، فغاية ما فيه تشيبه الطواف بالصلاة، وهذا لا يعني أنه كما يجب للصلاة وضوء، فيجب للطواف وضوء؛ إذ إن الطواف يخالف الصلاة في أمور كثيرة كذكره وهيئته والحركة فيه، فهو لا يشبه الصلاة من كل وجه حتى نوجب الوضوء بناءً على ذلك.
 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والذين أوجبوا الوضوءَ للطواف ليس معهم حجة أصلًا، فإنه لم ينقل أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد ضعيف، ولا صحيح أنه أمر بالوضوء للطواف مع العلم بأنه قد حج معه خلائقُ عظيمة، وقد اعتمر عمرًا متعددة والناس يعتمرون معه، ولو كان الوضوء فرضًا للطواف، لبيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم بيانًا عامًّا".
 
وهناك رواية عن أحمد وقول عن المالكية أن الطهارة للطواف واجبة تجبر بدمٍ.
وينبغي للمسلم ألا يترك الوضوء للطواف، فهو أقلُّ أحواله سنة النبي صلى الله عليه وسلم وبه خروج الخلاف، وإن وجد الإنسان حرجًا في بقائه على طهارته كأن يحدث ويجد مشقة في استعادة الوضوء، فلا حرج بطوافه كذلك؛ لأن أدلة المستحبين للطهارة أقوى من أدلة الموجبين لها، والله أعلم؛ [انظر فتاوى شيخ الإسلام (21 /273)، وانظر الممتع (7/ 257)، وانظر فتح المنعم (5/ 260)].
 
الفائدة الثانية: قول أسماء رضي الله عنها فيه بيان ما كانوا عليه من قلة ذات اليد والفقر في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه بيان التحلل من العمرة.

شارك الخبر

المرئيات-١