شرح حديث ابن عباس: عرضت علي الأمم
مدة
قراءة المادة :
12 دقائق
.
شرح حديث ابن عباس: عرضت علي الأممعَنِ ابنِ عباسٍ رضِي الله عنهما قال: قال رسولُ الله صلّي الله عليه وسلم: «عُرِضتْ عليّ الأممِ، فرأيتُ النبيَّ ومعه الرُّهيْط، والنبيَّ ومعه الرجلُ والرجلان، والنبيَّ وليس معه أحدٌ؛ إذْ رُفِع لي سوادٌ عظيم فظننت أنهم أمَّتي، فقيل لي: هذا موسى وقومُه، ولكن انظر إلى الأفقِ، فنظرتُ فإذا سوادٌ عظيم، فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر، فإذا سواد عظيم، فقيل لي هذه أُمَّتُك، ومعهم سبعون ألفًا يدخلون الجنَّةَ بغير حسابٍ ولا عذابٍ» ثم نهض فدخل منزلَه، فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنَّةَ بغير حسابٍ ولا عذابٍ، فقال بعضُهم: فلعلَّهم الذين صَحِبوا رسولَ الله صلي الله عليه وسلم، وقال بعضُهم: فلعلَّهم الذين ولدوا في الإسلام، فلم يُشركوا بالله شيئًا - وذكروا أشياء - فخرج عليهم رسولُ الله صلَّي الله عليه وسلَّم فقال: «ما الذي تخوضون فيه؟»، فأخبروه فقال: «هم الذين لا يرْقون، ولا يسْتَرقون ولا يتطيَّرون، وعلي ربِّهم يتوكَّلون»، فقام عُكَّاشةُ بن محصنٍ فقال: ادعُ الله أنْ يجعلني منهم، فقال: «أنْتَ منهم»، ثم قام رجلٌ آخر فقال: ادعُ الله أن يجعلَني منهم، فقال: «سبقَك بها عُكَّاشة».
مُتَّفقٌ عليه.
"الرُّهيطُ" - بضم الراء -: تصغيرُ رَهطٍ، وهم دون عشَرَةِ أنْفسٍ.
و"الأفق": الناحية والجانب.
و"عُكَّاشة": بضمِّ العينِ، وتَشديدِ الكاف وبتخفيفها، والتشديدُ أفصح.
قال العلامةُ ابن عثيمين - رحمه الله -:
بعدما ساق المؤلف - رحمه الله تعالى - الآيات، ذكر هذا الحديث العظيم، الذي أخبر فيه النبيُّ صلي الله عليه وسلم أنَّ الأمم عُرضت عليه؛ أي: أُريَ الأمم عليه الصلاة والسلام وأنبياءَهم.
يقول: «فرأيتُ النبيَّ ومعه الرُّهيطُ»، أي: معه الرَّهطُ القليل، ما بين الثلاثةِ إلى العَشَرةِ.
«والنبي ومعه الرَّجلُ والرجلانِ، والنبيَّ وليس معه أحدٌ»؛ أي: أنَّ الأنبياءَ - عليهم الصلاة والسلام - ليسوا كلهم قد أطاعهم قوهم، بل بعضُهم لم يطعْه أحدٌ من قومهم، وبعضهم أطاعه الرَّهطُ، وبعضهم أطاعه الرجل والرجلان، وانظر أنَّ نوحًا عليه الصلاة والسلام مكث في قومه ألفَ سنةٍ إلَّا خمسينَ عامًا، يُذكِّرهم بالله، ويدعوهم إلى الله، قال الله تعالى: ﴿ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾ [هود: من الآية40]، كلُّ هذه المدة ولم يلقْ منهم قبولًا، بل ولا سَلِم من شرِّهم، قال نوح: ﴿ وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ﴾ [نوح: 7]، وكانوا يمرُّون به ويسخرون منه.
يقول: «رُفِع لي سواد»؛ أي: بشرٌ كثيرٌ فيهم جَهْمةٌ من كثرتهم، فظننتُ أنَّهم أُمَّتي فقيل لي: هذا موسَى وقومُه» لأنَّ موسى من أكثر الأنبياءِ أتباعًا، بُعث في بني إسرائيل، وأنزل الله عليه التوراة التي هي أمُّ الكُتب الإسرائيلية.
قال: «ثمَّ قيل لي انظرْ! فنظرتُ إلى الأفُقِ فإذا سوادٌ عظيم - وفي لفظٍ: قد سدَّ الأفُقِ - فقيل: انظر الأفقَ الثاني! فنظرتُ إليه فإذا سوادٌ عظيمٌ، فقيل لي هذه أُمَّتُك»؛ فالرسولُ صلَّي الله عليه وسلَّم أكثر الأنبياء تابعًا، لأنَّه منذ بُعث إلى يوم القيامة والناسُ يتَّبعونه، صلوات الله وسلامه عليه، فكان أكثر الأنبياء تابعًا، قد ملأ أتباعُه ما بين الأفقين.
«ومعَهم سبعون ألفًا يدخلون الجنَّةَ بغير حسابٍ ولا عذابٍ»، أي: مع هذه الأمة سبعون ألفًا يدخلون الجنَّةَ، لا يحاسبون، ولا يعذَّبون، من الموقف إلى الجنَّة بدون حسابٍ ولا عذابٍ! اللهم اجعلنا منهم.
وقد ورد أنَّ مع كلِّ واحد من السَّبعين الألفِ سبعين ألفًا أيضًا[1].
«ثم نهض فدخل منزلَه فخاض الناسُ في أولئك...
قال بعضُهم: فلعلَّهم الذين صَحبوا رسول الله صلي الله عليه وسلم - يعني لعلَّهم الصحابة رضي الله عنهم - وقال آخرون: لعلَّهم الذين وُلِدوا في الإسلام، فلم يشركوا بالله شيئًا وذكروا أشياء»، وكلٌّ أتى بما يظنُّ، فخرج عليهم النبيُّ صلي الله عليه وسلم فسألهم عمَّا يخوضون فيه، فاخبروه فقال صلي الله عليه وسلم: «هُمُ الذين لا يَرْقون، ولا يَسْترقون، ولا يَكْتبون، ولا يتطيَّرون، وعلي ربِّهم يتوكَّلون»، هذا لفظ مسلم، وفيه: «لا يرْقُون».
والمؤلفُ - رحمه الله - قال: إنَّه متَّفق عليه، وكان ينبغي إن يبيِّن أن هذا اللفظَ لفظُ مسلمٍ فقط دون رواية البخاري، وذلك أنَّ قولَه: «لا يرْقون» كلمةٌ غير صحيحةٍ، ولا تصِحُّ عن النبيِّ عليه الصلاة والسلام، لأنَّ معني «لا يَرْقون»؛ أي: لا يقرؤون علي المرضي، وهذا باطلٌ، فإنَّ الرسول عليه الصلاة والسلام كان يَرْقي المرْضَي.
وأيضا القراءة علي المرضي إحسانٌ، فكيف يكون انتفاؤها سببًا لدخول الجنَّة بغير حسابٍ ولا عذابٍ.
فالمهمُّ أنَّ هذه اللفظة لفظةٌ شاذةٌ، وخطأ لا يجوز اعتمادها، والصوابُ: «هُمُ الذينَ لا يسْترْقون»؛ أي: لا يطلبون من أحدٍ أن يقرأ عليهم إذا أصابهم شيءٌ، لأنَّهم معتمدون علي الله؛ ولأنَّ الطلب فيه شيءٌ من الذلِّ، لأنَّه سؤال الغير، فربَّما تحرجه ولا يريد أن يقرأ، وربَّما إذا قرأ عليك لا يبرأُ المرضُ فتتهمه، وما أشبه ذلك، لهذا قال لا يسْترقون.
قوله: «ولا يكْتَوون»، يعني: لا يطلبون من أحدٍ أن يكويهم إذا مرِضوا، لأنَّ الكَيَّ عذابٌ بالنَّار، لا يُلْجأ إليه إلا عند الحاجة.
وقوله: «ولا يتطيَّرون»، يعني: لا يتشاءمون لا بمرْئيٍّ، ولا بمسموعٍ، ولا بمشموم، ولا بمذُوقٍ؛ يعني: لا يتطيَّرون أبدًا.
وقد كان العرب في الجاهلية يتطيَّرون، فإذا طار الطير وذهب نحو اليسار تشاءَموا، وإذا رجع تشاءموا، وإذا تقدم نحو الأمام صار لهم نظرٌ آخر، وكذلك نحو اليمين وهكذا.
والطِّيرة محرَّمة، لا يجوز لأحدٍ أن يتطيَّر لا بطيورٍ، ولا بأيَّام، ولا بشهور، ولا بغيرها، وتطيُّرَ العربُ فيما سبق بشهر شوَّال إذا تزوج الإنسانُ فيه، ويقولون: إنَّ الإنسان إذا تزوَّج في شهر شوَّال لم يوفَّق، فكانت عائشة رضي الله عنها تقول: «سبحان الله، إنَّ النبيَّ صلي الله عليه وسلم تزوَّجها في شوَّال، ودخل بها في شوَّال، وكانت أحبَّ نسائه إليه»، كيف يقال إن الذي يتزوج في شوَّال لا يوَفَّق.
وكانوا يتشاءمون بيوم الأربعاء، ويومُ الأربعاء يومٌ كأيام الأسبوع ليس فيه تشاؤمٌ.
وكان بعضُهم يتشاءم بالوجوه، إذا رأى وجهًا ينكره تشاءم، حتى إن بعضهم إذا فتح دُكَّانه، وكان أول من يأتيه رجلٌ أعورُ أو أعمي، أغلق دكَّانه، وقال اليوم لا رزق فيه.
والتَّشاؤمُ، كما أنَّه شِرك أصغر، فهو حسْرةٌ علي الإنسان، فيتألم من كلِّ شيءٍ يراه، لكن لو اعتمد علي الله وترك هذه الخرافات؛ لسلم، ولصار عيْشُهُ صافيًا سعيدًا.
أما قوله: «وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ»، فمعناه: أنَّهم يعتمدون علي الله وحده في كلِّ شيءٍ، لا يعتقدون علي غيره، لأنَّه جلَّ وعلا قال في كتابه: ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق: من الآية 3]، ومَن كان الله حسْبَه فقد كُفِي كلَّ شيءٍ.
هذا الحديث العظيم فيه صفاتُ من يدخلُ الجنّة بلا حسابٍ ولا عذابٍ.
فهذه أربعُ صفات: لا يسترقون، ولا يكْتَوون، ولا يتطيَّرون، وعلى ربِّهم يتوكَّلون.
والشَّاهد للباب قوله: «وعلى ربِّهم يتوكَّلُون».
«فقام عُكَّاشة بنُ محصن رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله ادعُ اللهَ أن يجعلَني منهم»، بادر إلى الخير وسبق إليه، فقال النبيُّ صلَّي الله عليه وسلم: «أنتَ منهم».
ولهذا نحن نشهدُ الآن بأنَّ عُكَّاشة بن محصن - رضي الله عنه - يدخل الجنة بلا حساب ولا عذاب، لأنَّ الرسول عليه الصلاة والسلام قال له: «أنت منهم».
«فقام رجلٌ آخر فقال: ادعُ الله أن يجعلَني منهم! قال: سبَقَ بها عُكَّاشة»، فردَّه النبيُّ عليه الصلاة والسلام، لكنَّه ردٌّ لطيف، لم يقل لست منهم، بل قال: «سبقَك بها عُكَّاشة»، واختلف العلماء لماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم له: «سبقك بها عُكَّاشة».
فقيل: لأنَّه كان يعلمُ بأنَّ هذا الذي قال ادعُ الله أن يجعلني منهم منافقٌ، والمنافقُ لا يدخل الجنَّةَ، فضلًا عن كونه يدخلها بغير حسابٍ ولا عذاب.
وقال بعض العلماء: بل قال ذلك من أجل أن لا ينفتح الباب، فيقوم من لا يستحق أن يدخل الجنَّة بغير حساب ولا عذاب، ويقول ادعُ الله إن يجعلني.
وعلى كلِّ حال، فنحنُ لا نعلم علمًا يقينًا بأن الرسول صلي الله عليه وسلم لم يدعُ الله له إلا لسبب معيَّن، فالله اعلم.
لكننا نستفيد من هذا فائدةً، وهو الرَّدُّ الجميلُ من رسول الله صلي الله عليه وسلم، لأنَّ قوله: «سبقك بها عكاشة»، لا يجرحه ولا يُحزنه، وسبحان الله، صارت هذه مثلًا إلى يومنا هذا، كلَّما طلب الإنسان شيئًا قد سُبِق به قيل: سبَقك بها عُكَّاشة.
أورد بعضُ العلماء إشكالًا علي هذا الحديث، وقال: إذا اضطرَّ الإنسان إلى القراءة، أي إلى أن يطلبَ من أحدٍ أن يقرأ عليه، مثل أن يُصاب بعينٍ، أو بسْحرٍ، أو أصيب بجنٍّ واضطرَّ، هل إذا ذهب يطلب مَن يقرأُ عليه، يخرج من استحقاق دخول الجنة بغير حساب ولا عذاب؟
فقال بعضُ العلماء: نعم هذا ظاهر الحديث، وليعتمد علي الله وليتصبر ويسأل الله العافية.
وقال بعض العلماء: بل إنَّ هذا فيمن استَرَقي قبل إن يُصاب، أي: بأن قال: أقرأ عليَّ أن لا تصيبني العين، أو أن لا يصيبني السحر أو الجنُّ أو الحُمَّي، فيكون هذا من باب طلب الرُّقية لأمرٍ متوقَّع لا واقع، وكذلك الكيُّ.
فإذا قال إنسان: الذين يكوون غيرهم هل يُحرمون من هذا؟
الجواب: لا! لأنَّ الرسول صلي الله عليه وسلم يقول: «ولا يكتوون»، أي: لا يطلبون من يكويهم، ولم يقل ولا يكوون، وهو عليه الصلاة والسلام قد كوي أكحَلَ سعد بن معاذ رضي الله عنه، فسعدُ بن معاذ الأوسي الأنصاري - رضي الله عنه - أصيب يوم الخندق في أَكحله فانفجَر الدَّمُ، والأكحل إذا انفجر دمه قضي علي الإنسانِ، فكواه النبي صلي الله عليه وسلم في العِرقِ حتى وقف الدَّمُ، والنبيُّ صلي الله عليه وسلم هو أول من يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب.
فالذين يكوُون محسنون، والذين يقرؤون على الناس محسنون، ولكن الكلام على الذين يسْترقُون، أي يطلبون من يقرأ عليهم، أو يكتوون، أي: من يطلبون من يكويهم، والله الموفق.
المصدر: «شرح رياض الصالحين» (1/ 547 - 554)
[1] ذكره الحافظ ابن حجر في "الفتح" (11/ 418 ، 419).