أرشيف المقالات

الأدب في الأسبوع

مدة قراءة المادة : 14 دقائق .
8 الهجرة يا نبي الله!! إن الإسلام قد قعدَ به أهلهُ، والزمنُ بالناس يعدو، والحياةُ في العالم فكرٌ يتحقق، وهي عندنا حلمٌ يتبدد، هذه أُمتك تملأُ الارض، ولكن قد فرغت قلوبها من الإيمان والإيمان في دينك قولٌ وعملٌ، كانت به المعجزةُ الإسلامية ولكنه عندنا قولٌ وجدلُ، تكون به الفرقة الجاهلية.
فاللهمَّ هِجْرةً كهجرِةَ نبيِّكَ بالعزِم والإيمان اللهمِّ جهاداً كجهادِهِ يُجدِّد القلوبَ والأوطان الشباب والأدب الطفل حياةٌ صغيرة غضه لينة تقبل التشكل وتطاوع على ضغط البيئة التي تكتنفها وتطيف بها وتميل عليها؛ وبيئة الطفل هي أخلاق أبويه، ومعاملتهما وحديثهما وما يحيط بهما من الأقارب والأصحاب والخدم وكل من يعود البيت من زواره.
وقد حمل الإنسان طبيعة التشكل من أول عمره ليكون بعد إنساناً اجتماعياً مقتدراً على التصرف في نظام الجماعة بما لا يخرجه من جوها ويقذفه وراء حدودها التي ضربتها عليها الأحوال الاجتماعية التي يتميز بها الجيل من الناس الذين يعاشرهم.
وتتصل بهذه الطبيعة من قريب طبيعة أُخرى هي التقليد، ليسوغ له أن يثقف الحياة ويتلقف أسبابها وطرائقها وأساليبها في مدى قصير، فلا ينقطع دون إدراك الطلائع الإنسانية السابقة التي بدرت أمامه في الحياة ومارستها وعملت لها وجددت فيها بعض ما يمكن تجديده في نظام الجماعات.
ولا يزال الإنسان - من أول عمره - خاضعاً خضوعاً تاماً لهاتين الطبيعتين ولقانونهما المستبد، حتى يأتي عليه زمان يستطيع أن يتحرر في بعض نواحيه بالخضوع لقانون آخر هو قانون الاستقلال الفكري والعملي الذي تقوم عليه رجولة الإنسان وقوته، ولكنه مع ذلك يبقى أبداً متلبساً بأسباب القوانين الأولى التي تخضعه في بعض النواحي للتشكل والتقليد في زحمة الجماعات وضغطها وتأثيرها.
فهو إذن لا يبلغ مرتبة الاستقلال إلا بعد أن يكون قد قبل من الأشكال - بالضعف والتقليد - ما لا يستطيع أن ينفك منه أو أن يتفصى من قيوده الت تحبسه على ضروراتها.
فمن هنا يبين مقدار الخطر الذي تنذر به هذه الفترة الأولى من حياة الإنسان؛ ونحن لا نستطيع أن نحدد عمر هذه الفترة، ولكنها تستمر على الأقل إلى نهاية روق الشباب ما بين العشرين والثلاثين، بل ربما جاوزت إلى نهاية العمر إذا ما انتكست الحياة في الحي وصار إلى حيوانية آكلة شاربة غير مفكرة! فالشاب حين يخرج إلى الحياة العقلية والفكرية تستهويه أسماء المفكرين من الكتاب والشعراء والفلاسفة فتستهيمه وتذهب بهواه وعقله إلى الأخذ عنهم والاقتداء بهم والسير على مناهجهم، ولا يزال كذلك في تحصيل وجمع وتأثر واتباع حتى يتكون له قوام عقلي يجرئه على الاستقلال بفكره ورأيه ومذهبه.
فالقدوة والأسوة هي مادة الشباب التي يتم بها تكوينه العقلي على امتداد الزمن وكثرة التحصيل وطول الدربة، فإذا كان ذلك كذلك فالكتاب والشعراء والفلاسفة وأصحاب الرأي وكل من يعرض نتاجه العقلي للشباب، ويكون عرضة الاقتداء والتأسي والتأثر - يحملون تبعة تكوين العقول الشابة التي ترث علومهم وأفكارهم ثم تستقل بها وبإنتاجها الخاص، وكذلك يكون هذا الإنتاج الخاص ضارباً بعرق ونسب إلى الأصل الأول الذي استمد منه واتبعه وتلقى عنه. هذا.
، فتبعة الكتاب والأدباء أمانة قد تقلدوها وحملوها، ثم ارتزقوا منها أيضاً وأكلوا بها وعاشوا في الدنيا الحاضرة بأسبابها، فهم على اثنتين: على أمانة قد فرض عليهم أن يؤدوها إلى من يخلفهم من الشباب الذي يتبعهم ويتأثر آدابهم، وعلى شكر للمعونة التي يقدمها لهم الجيل الشاب الذي يبذل من ماله ليشتري منهم ما يكتبون وما يؤلفون وما يقدمون للتاريخ من آثارهم ليكسبوا به خلود الاسم وبقاء الذكر. وشبابنا اليوم قد تهدمت عليه الآراء، وتقسمته المدنية الأوربية الطاغية، وهو لا يجد عصاماً يعصمه من التدهور في كل هوة تنخسف بين يديه وهو مقبل عليها بشبابه ونشاطه واندفاعه وعنفوان قوته في الشوط الذي يجريه من أشواط حياته.
والمدارس في بلادنا لا تكاد تعطيه من الرأي أو من الفن أو من الأدب ما يبل أدنى ظمأه إلى شيء من هذه الأشياء؛ وإذن فليس يجد أمامه إلا المجلات والصحف والكتب التي يقدمها له أصحاب الشهرة من كتابه الذين ترفع أسماؤهم في كل خاطرة وعند كل نظرة.
وهو لا يني يستوعب منهم أساليبهم وأفكارهم وآراءهم وما يدعونه إليه من موائدهم. فهل ينصف هؤلاء الكتاب هذا الشباب؟ أتراهم قد عرفوا قدر أنفسهم عند الشباب فعبئوا له قواهم احتفالاً بشأنه وحرصاً على مصيره الذي هو مصير الأمة ومصير مدنيتها؟ أنا لا أرى ذلك إلا في القليل ممن عرفهم الشباب وجعلهم نصب عينه، واتخذ أساليبهم فتنة يهوى إليها ناقد يتكلم وأنا أدع أحد الكتاب من إخواننا الشآميين يتحدث بعض ما نحن بسبيله، وهو الأخ (قسطنطين زريق) في كتابه (الوعي القومي) فقد قال في ص (162 - 163): (لسنا نعيش اليوم في عصر ترف عقلي ورفاهية فكرية.
في عصور الترف والرفاهية قد يسمح للكاتب أن يقول: (لي الحق أن أكتب ما أريد وأعبر عما في نفسي كما أشاء).

إن عصرنا عصر أزمة فكرية وضيق عقلي.
وكما أنه لا يسمح للناس في زمن الأزمة المالية أن يبذروا أموالهم في سبيل شهواتهم الخاصة وأمورهم التافهة، فكذلك يجب إلا يسمح لقادة الفكر في عصر الضيق العقلي والأزمة الفكرية أن بددوا قواهم على المسائل الطفيفة والأبحاث الجزئية. فعلى كل منا عندما يهم بكتابة مقال أن يتساءل بصراحة: (إلى ماذا أرمي؟ أتراني أضيف بمقالي فوضى إلى هذه الفوضى الفكرية التي يتخبط فيها عالمي، وأقذف بعنصر جديد إلى العناصر التي تتطاحن في محيطي، فأزيد في بلبلة أمتي واضطرابها الفكري، أم أنا أعمل لتوجيه قوى هذه الأمة العقلية نحو فكرة صائبة أو عقيدة واضحة؟) فإذا لم تكن غايته من هذا النوع الأخير، فخير له وللأمة أن تظل كلماته مدفونة في نفسه، وان يبحث له عن طريقة أُخرى يخدم بها أمته ولغته)
.
اهـ إن هذه الكلمات القلائل التي ختم بها الأستاذ زريق بحثه عن الأدب الذي يقود الأمة وشبابها إلى إنقاذ المدنية العربية والإسلامية والشرقية من ردغه الخبال التي تورط أهلها في أوحالها ومستنقعاتها - حقيقة بأن تكون من (محفوظات).
كبار الأدباء الذين يرمون عن أقلامهم أراء وعقائد وأساليب لا يمكن أن تكون مما يحتملها مخلص لأمته، ينظر إلى المستقبل الذي هو ثمرة الماضي والحاضر، ونتاج اللقاح الفكري الذي تتقبله عقول الشباب حين تبدأ تتفتح عن أكمامها لتعمل عملها في إنتاج الثمر إما غضا شهياً وإما فجاً متعفناً موبوءاً. هل يمكن؟ فهل يمكن أن يكون أدباؤنا ممن يتقبل النصح الخالص الذي لا تحمل عليه ضغينة أو رياء أو حيلة؟ وهل يمكن أن يعرف أحدهم أن ليس في الدنيا أحد هو أعلى من أن يتعلم، ولا أحد أقل من أن يعلم؟ وهل يمكن أن تفرغ النفوس التي نفختها الكبرياء من الروح النافشة التي لا طائل تحتها؟ لقد جعلت مقامي في هذا الباب مقام المذكر الذي يجب أن يؤدي واجبه لمن يقرأ كلامه، فأنا لا أستطيع إلا أن أتكلم بكلامي وإن أغضب من لا يرضى إلا بما يرضيه من الملق والدهان والمماسحة، وقد انقضت أسابيع طوال من أسابيع الأدب، وأنا أزداد كل يوم شكاً في مقدرة أدبائنا على الإنتاج الأدبي الرفيع الذي يمكن أن يخلد في تاريخ الأدب؛ وقد تتبعت أقوال هؤلاء وأساليبهم فلم أجد إلا كل ما يحفزني على المصارحة والنصح وإبداء الرأي مكشوفاً غير مكفن. وأنا لو كنت أحمل نفسي على تتبع هؤلاء واحداً بعد واحد أنقد أقوالهم على التفصيل دون الجملة، ثم أقيد ما أريد بالكتابة في هذا الباب من (الرسالة) لما كفاني القدر الذي أكتبه، ولما استطعت أن أستوعب الرأي في كل ذلك على أسبوع أسبوع، فلذلك تجنبت جهدي أن أعرض لأشياء كانت تقتضيني أسابيع في تقصيها وتفصيل أجزائها، وبيان مكان الفساد منها، والدلالة على قلة عناية هؤلاء بقرائهم، وصغر احتفالهم بالأدب الذي اتخذوه لهم صناعة عرفوا بها عند الناس، حتى صاروا للشباب أئمة بهم يقتدون.
نعم، وكأنهم لا يعرفون أن ما يخرجونه للناس أن هو إلا غذاء جيل من الشبان يأخذ عنهم ويحتذي عليهم، فإن يكن في الذي يأتون به فساد فهو إلى إفساد الشباب الجديد أسرع، وفي طبائعه اللينة أعمل وأوغل؛ فأيما خطأ صغير منهم فهو عدة أخطاء كبار في الذين يلونهم من الشباب المقلد المسكين. إن أمثال الدكتور طه حسين والأستاذ أحمد أمين والدكتور زكي مبارك والأستاذ الزيات وفلان وفلان من كبار الأدباء هم من هذه الأمة الشابة من الناس بمنزلة السراج الذي يضيء للشباب معاني الحياة المظلمة بالجهل، فإذا انقلب السراج فإنما هو الحريق وانتشاره ومعمعته ومضغه قوة الشباب بفكين من نار حطمة الرحلتان ويذكرني هذا ما يقطع عليّ نهاية الرأي.
فقد قرأت أخيراً مقالتين، إحداهما للدكتور طه، والأخرى للأستاذ أحمد امين، وهما بهذا العنوان (رحلة).
وقد تعود الأستاذان أن يتقارضا المقالات منذ أسابيع طويلة، وأكثرا في ذلك إكثاراً لا يمكن أن يغضي عنه؛ وكنت أحب إلا أعرض له لعله ينتهي إلى نهايته، فإذا هو شيء لا ينقطع.
فمن يوم أن كتب الأستاذ أحمد أمين ما كتب وسماه (مدرسة الزوجات) وقارضه الدكتور طه (بمدرسة الأزواج) ثم (مدرسة المروءة) ثم (مدرسة.
)
إلى آخر هذه الأشياء، وافتتنا بهذه الطاحون التي تدور على دقيق مطحون قد فرغ منه - من ذلك اليوم وأنا لا أرى فيما يكتبان إلا استسلاماً للقلم وبدواته وبوادره، واجتلبا في ذلك من الرأي ما لا يستقر ولا يتماسك. وفي هاتين الرحلتين رأيت العجب!! فالدكتور طه مثلاً قد أطال في تحقير مصر والزراية عليها وعلى أرضها بما احتمله عليه الغضب الذي رغب في إنشاء مدرسة له يسميها (مدرسة الغضب) رحل الدكتور طه بالسيارة في الطريق الزراعية فغاظه التراب الذي يثور من حوله فيطلق لسانه بهذه الأسئلة (لماذا ندفع الضرائب؟ وفيم تنفق الدولة أموالنا؟ وماذا تصنع الدولة؟ ولماذا ننشئ الدولة؟) فليخبرنا الدكتور طه عن السبيل الذي نتقي به الزراية على أرض مصر! ماذا تصنع الدولة في طريق عن جانبيه تلك الأرض الخصبة الواسعة التي تسقي لتطعم أهل مصر من خيراتها؟ كيف تتقي الدولة مرور الناس والدواب وأرجلهم تحمل أوحال الأرض الخصبة فتمر بها على الطريق الزراعي الممهد، فتأتي الشمس المصرية الملتهبة فتجفف الوحل فيثور تراباً؟ أن هذا كلام يقال في البلاد الباردة التي لا تفعل الشمس فيها ما تفعل في أرض مصر الغبراء، هناك في (قرية من قرى السفوا أو الدوفنييه أو الكانتال، على قمة جبل من هذه الجبال التي ألف الدكتور طه الاعتصام بها إذا أقبل الصف، والتي فارقها في الصيف وقلبه يتقطع حسرات) أو كما قال.
! أن مثل هذا يجب أن يلغي من آراء أدبائنا، أن لم يكن من أجل أنفسهم فمن أجل من يتولاهم من الشباب.
وليس أكثر آراء الأستاذ أحمد أمين في هذا المقال بأقل ابتعاداً عن الحق من الذي عرضنا له جناية!! والأستاذ أحمد أمين هو الذي حمل على الأدب العربي، وحقر الشعر الجاهلي، ودفع بحجته في وجوب نبذ هذا الأدب وذلك الشعر الجاهلي لأنه كان جناية على أدبنا.
وأنا كنت هممت أن أؤدي واجبي للأدب العربي وبإظهار فساد هذه الآراء التي لم تنضج ثمراتها، ثم رجعت عن ذلك، رغبة أن يترك مثل هذا الرأي حتى يفنى في نفسه، لعلمي - بالاستنتاج - أن الأستاذ ليس أديباً ناقداً، والناقد أديب مضاعف، وقدرته على الأدب أكبر من قدرة الأديب المحض.
وقد أحببت أن أقف على كلمة في مقالة الأستاذ أحمد أمين (رحلة) تدلك على أن رأي الأستاذ في الأدب العربي والشعر الجاهلي رأي لا يؤخذ به، فقد قال: (وهاهم أولاء رفقة كأن أخلاقهم سبكت من الذهب المصفى، وكأن شمائلهم عصرت من قطر المزن) وهي جملة لا ينطق بها أديب متمكن ألبته، فما ظنك بأديب ناقد، وأنا لا أعرف كيف يعصر قطر المزن (أي الماء)، وهو لا يمكن أن يعصر.
ونحن لا نشك في أن الذنب ليس للأستاذ الجليل، وإلا فهو ذنب الشيخ اليازجي صاحب (نجعة الرائد، وشرعة الوارد، في المترادف والمتوارد).

الخ، الذي ذكر هاتين العبارتين بنصهما وترتيبهما في فصل (كرم الأخلاق ولؤمها) ص70 الطبعة الثانية، وهما من حشد الشيخ الذي لا يقوم على أصل من البيان والبلاغة. أجل، إن كثيراً مما وقع في كتاب الشيخ اليازجي - على جلالته -، إن هو إلا مجازات واستعارات كأخيلة المحموم مادتها من الهذيان اللغوي الذي لا يصل إلى الحقيقة بأسباب من منطق العقل.
والبلاغة ليست إلا حفظ النسبة بين الحقيقة اللغوية، والمجاز البياني، فكل ما لم يكن كذلك من المجاز والاستعارة فهو لغو يتشدق به من ليس له طبع أدبي رفيع.
وجهد اليازجي كان حشداً من كلام العصور المتقدمة في العربية، فأخذ من الجيد والرديء على غير نقد أو تمييز. فكان واجب الأستاذ أحمد أمين - الآري على الشعر الجاهلي وواصمه بالجناية على الأدب العربي - أن ينقد مثل هذه العبارات الضعيفة المتهالكة التي لا تتصل بسبب إلى البلاغة العربية على اختلاف عصورها - لا أن ينقلها إلى كلامه.
وإلا فلينظر الأستاذ إلى أثر هذه المجازات في بيان الشباب الذي يحبه ويعجب بأدبه، ويتلقى كلامه بالإجلال وحب الاقتداء محمود محمد شاكر

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير