أرشيف المقالات

من كتاب الدين الإسلامي

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
8 مقدمة لبحث الإيمان للأستاذ علي الطنطاوي معناه اللغوي إذا قال لك قائل إن جزء الشيء يساوي مجموعه، أنكرت ذلك عليه وكذبته فيه لأنك (تؤمن) بأن الجزء أصغر من الكل، ونقطع بذلك قطعاً، ولا ترى عنه معدلاً.
وإذا وجدت من يبذل دمه في سبيل وطنه، ويفديه بنفسه وماله، ويحرص على خدمته قلت إنه من ذوي (الإيمان) الوطني، وإذا ألفيت المحبّ المولّه، يعصى العذول ويعرض عن الناصح، وصفت حبه بالإيمان وعبرت عنه، كما يقول التراجمة الناقلون، بالعبادة.
فقلت: إنه يعبد حبيبته. هذا كله من مظاهر (الإيمان) - والإيمان - بهذا المعنى - هو العقيدة الثابتة في النفس، أو العاطفة القوية الراسخة التي لا تتبدل ولا تتزعزع ولا يحتاج إلى التدليل عليها، لأنها من (البديهيات) بالنسبة لصاحبها المؤمن بها. فالإيمان (في اللغة) التصديق وفعله آمن واصلها أأمن بهمزتين ليّنت الثانية. أنواع الإيمان يتضح لك مما مثلنا أن للإيمان نوعين: فإيمانك بأن الرغيف أكبر من نصفه، وأن الواحد ثلث الثلاث (إيمان عقلي) لا اثر لك فيه ولا عمل، وإنما هو من الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
أما (الإيمان الوطني) أو (الإيمان بالحبيبة) بالنسبة للعاشق المتيم فهو (إيمان قلبي)، لا دخل للعقل فيه، وهو فردي شخصي يختلف عن (الإيمان العقلي) الذي يتصف بكونه عاماً شاملا العقلاء جميعاً.
وهذا التقسيم جديد استنبطته من الأمثلة المختلفة للإيمان ورأيت فيه نفعاً، لأنه يثبت جنس الإيمان، ولأنه بعد ذلك يساعد على تحديد البحث.
أما الإيمان بأصول الدين، فهو من نوع الإيمان القلبي، ولكن للعقل دخلاً فيه من حيث إنه يقبل مبدأه ويقر نتائجه، ولا يناقضه وإن كان لا يفهمه تماما.
وبيان هذه المسألة المهمة أن العقل (يؤمن) بادئ الرأي بوجود الله، وبأنه عادل، ولا يناقض نتائج الإيمان بالقدر إجمالا ولكنه لا يستطيع أن يفهمها ولا أن يعلّلها، ومنشأ ذلك أن العقل مقيد في أحكامه بالحواس والخ والاختبارات السابقة، لا يستطيع أن يتخلى عنها، أو يخرج عليها.
فهو يحكم على عدل الله بما يعرف من حدود (العدل البشري)، وما لديه من الاختبارات.
فيقع في الخطأ لاختلاف فكرة العدل البشرية النسبية، عن فكرة العدل الإلهية المطلقة. فالعقل إذن لا يستطيع أن ينقض نتائج الإيمان ولكنه لا يؤمن تماماً، وإنما الذي يؤمن هو القلب. الإيمان في الدين الإسلامي عرفنا معنى الإيمان في اللغة.
أما معناه في الدين فهو التصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر (وسيأتي الكلام على ذلك كله إن شاء الله) فمن صدق بها تصديقا جازما فهو المؤمن حقاً.
وقد جعل الله هذا التصديق أصل الدين وأساسه، وأقام الأدلة على هذه المسائل، وخاطب بها العقل، لكن الذي أفهمه أن العقل يقبل مبدأ الإيمان إجمالاً، ثم يدع دقائقه للقلب، أي أنه كالملك في الدولة يوقع على المرسوم ولكنه يدع لغيره من الموظفين فهمه وتطبيقه ومراعاته دائما.
فالعقل يؤمن بأن الله موجود، وأن القرآن كتابه الذي أنزله، وأن محمداً نبيه الذي لا ينطق عن الهواء.
ثم يقف ويدع للقلب (الإيمان) لكل ما جاء في الكتاب، وما نطق به الرسول والاطمئنان إليه والتصديق به وقبوله بلا أدنى شك ولا ريب.

وليس في أصول الإسلام ما يرفضه العقل، أو يتعذر عليه قبوله لمخالفته لبديهياته الثابتة، أو أحكامه الصحيحة، وهذه هي ميزة الدين الإسلامي عن كل دين. العلاقة بين الإيمان والإسلام الإسلام هو (إظهار) الإيمان، والتعبير عنه (عمليا) بالنطق بالشهادة عليه، والقيام بالعبادات التي تنشا عنه.
وهو الأساس الذي يبنى عليه تقسيم الناس إلى متبع ومخالف، وما يتفرع عن هذا التقسيم من أحكام مدنية وحقوقية، لان الناس لهم (الظواهر) ولا يستطيعون أن يشقوا عن قلوب الناس ويعرفوا سرائرهم.
وهذا معنى ما جاء في الحديث القائل (أمرت أن أقاتل الناس حتى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله.
فإذا قالوها عصموا دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله)
. فإن نطق الشهادة، وأدى الفرائض ولكنه غير (مصدق) بها، ولا (معتقد) وجوبها، ولا يفهم إلا جسمها دون روحها، وشكلها دون معناها، فهو (غير مؤمن) وهو ما كان عليه بعض الأعراب الذين قال الله عز وجل فيهم: (قالت الأعراب آمنا، قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا). وإن (أظهر) الطاعة عن تصديق وجزم، وأدى الصلاة معتقداً بوجوبها مراقباً الله فيها، فهو المؤمن المسلم.
نقل في اللسان عن ثعلب اللغوي قال: المؤمن بالقلب والمسلم باللسان (أي وبالجوارح) وقال الزجاج: صفة المؤمن أن يكون راجيا ثوابه خاشيا عقابه. وقال الزمخشري في الكشاف، في المسلم الكامل: (هو من اعتقد الحق وأعرب عنه بلسانه وصدقه بعمله.
فمن أخل بالاعتقاد، وإن شهد وعمل فهو منافق.
ومن أخل بالشهادة فهو كافر.
ومن أخل بالعمل أي بالعبادة من صلاة وصيام وحج فهو فاسق)
. الإيمان ضروري ومفيد بدا لك مما تقدم ذكره أن الإيمان ضروري لا يستطيع إنسان أن يعيش بدونه، وأن المرء إن زعم أنه لا يؤمن بأصول الدين لم يكن له بد من الإيمان بمبادئ عقلية، ومبادئ اجتماعية، وأخلاقية، ولا منجي له من الحب - والحب والإيمان من طبيعة واحدة في الأصل - فليس في الدنيا إذن إنسان إلا وهو (مؤمن) لأن (الإيمان) شيء مستقر في طبيعة البشر، ومن آمن بهذه الحقائق الصغيرة، أو الأباطيل التي يتوهمها حقائق، كما يتوهم المحب العاشق، لم يستطع الكفر بالحقيقة الكبرى، وهي وجود الله. وسنرى بعد أن وجود الله بديهية عقلية، وأن التأليه والتطلع إلى المجهول، والبحث عن الخالد الباقي، من الفطر الإنسانية. ثم إن من مصلحة الإنسان أن يكون مؤمنا بالله، لأن الحياة مملوءة بالآلام، فياضة بالمكاره، فإذا لم يكن للمرء وَزَرٌ من إيمانه يلجأ إليه كلما حاقت به الشدائد، أو انتابته الأمراض، كانت حياته جحيما محرقا لا يحتمل، وربما أدت به إلى الانتحار كما يفعل الجاهلون، فلا سعادة إذن إلا بالإيمان ولا أنس بالحياة إلا معه. ومن مصلحة المجتمع أيضا أن يكون الناس مؤمنين، لأن القوانين والقوى التي تؤيدها، والعقوبات التي تحميها، كل ذلك لا يؤدي إلى إنشاء مجتمع خيّر صالح إذا نقصه الإيمان.
وكيف لعمري يصلح الرجل ويستقيم، وهو لا يجتنب السرقة إلا خوفا من الشرطي وهربا من العقاب.
فإذا أمن الشرطي ونجا من العقاب سرق وقتل وفعل الأفاعيل.
فإذا كان (مؤمنا) بالله يخشى عقوبته، (مؤمنا) بمبادئ الأخلاق التي أمر بها الله ووعد بالثواب عليها استقام دائما، لأن الله مطلع عليه مراقب له دائما.
وشيء أخر هو أن الدافع إلى كل ما يفعله الإنسان المنفعة أو اللذة؛ فالمؤمن يعمل الصالحات ولو لم يره أحد ولو لم يعلم به أو يشكره لاعتقاده أن الله يثيبه ويعطيه، فلماذا يعمل الصالحات غير المؤمن إذا لم يكن من يراه أو يشكره أو يذيع فضله أو يجزيه بعمله خيراً؟ الإيمان الكامل والمؤمن الكامل الإيمان هو الذي يتصور في كل لحظة أنه بِسَمْعِ الله وبصره وأن الله مطلع عليه ناظر إليه، فإذا لم يمنعه من المعصية خوف الله منعه الحياء منه، ولذلك جاء في الحديث (إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان فكان على رأسه كالظلّة، فإذا أقلع (أي تاب توبة صحيحة) رجع إليه) فلا يستطيع الزاني أن يزني وهو مؤمن إيمانا حقا، ومتصور أن الله ناظر إليه.
بل هو لا يستطيع أن يزني إذا كان أبوه أو أستاذه يراه ويشرف عليه، فالإيمان إذا كان على هذه الصورة يمنع صاحبه من كل فاحشة، ويصرفه عن كل ذنب. الصالحات بلا إيمان فإذا عمل الرجل من الصالحات وهو غير مؤمن لم يكن له ثواب في الآخرة.
وقد يبدو ذلك غريبا لأول وهلة ولكنه نهاية العدل من الله.
وهل في العدل أكبر من أن تعطي المحسن المصلح كل ما يطلب.
فإذا كان يقصد ثواب الآخرة، وكان (مؤمنا) بها أعطاه الله ما يطلب، وإن لم يطلب إلا الشهرة في الناس وخلود الذكر فيهم، أعطى الشهرة والخلود، ولم يكن له في الآخرة شيء (فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق.
ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)
. هذه مقدمة موجزة جدا لبحث الإيمان سيعقبها فصل في الإيمان بالله للأستاذ العلامة الشيخ محمد بهجة البيطار ينشر في العدد الآتي. علي الطنطاوي

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣