التعليم: قواعد وفوائد
مدة
قراءة المادة :
11 دقائق
.
التعليم: قواعد وفوائدالحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد..
قال شيخ الإسلام: «العلم الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلـم هو الذي يستحق أن يسمى علمًا، وما سواه إما أن يكون علمًا فلا يكون نافعًا، وإما أن لا يكون علمًا وإن سُمي به، ولئن كان علمًا نافعًا فلا بد أن يكون في ميراث محمد صلى الله عليه وسلـم ما يغني عنه مما هو مثله، وخير منه»[1].
والعلم النافع هو الذي أمر الله نبيه بالاستزادة منه، فعلَّمه أن يقول: ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه:114].
روى أبو داود في سننه من حديث أبي الدرداء: أن النبي صلى الله عليه وسلـم قال: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا، سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْـجَنَّةِ، وَإِنَّ الْـمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ، وَمَنْ فِي الأَرْضِ، وَالْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْـمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ»[2].
وهذا النوع من العلم هو الذي أنزله الله لهداية البشر، فمن تمسك به اهتدى ومن تركه ضل، قال تعالى: ﴿قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيب﴾ [سبأ: 50].
ومنه: ما تعلمه والعمل به فريضة، كالعلم بالتوحيد، ومعنى الشهادتين وأركان الإسلام، والإيمان، ونحو ذلك مما هو داخل في قوله صلى الله عليه وسلـم فيما رواه ابن ماجه في سننه من حديث أنس بن مالك: «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ»[3].
وما سوى ذلك من العلم ففرض على الكفاية، أو فضيلة من الفضائل.
ويجب لهذا العلم الإخلاص لله في تعلمه، فروى أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلـم قال: «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ عز وجل، لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا، لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[4].
يَعنِي: رِيحَهَا.
وروى الترمذي في سننه من حديث ابن كعب بن مالك عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلـم يقول: «مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُجَارِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ، أَوْ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، أَوْ يَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ، أَدْخَلَهُ اللَّه النَّارَ»[5].
أما علوم الدنيا فمنها ما هو مرتبط ببعض علوم الدين كالعلم بالحساب لمعرفة قسمة المواريث، والوصايا، وحكم هذا النوع حكم أصله.
ومنها: ما لا تقوم مصالح الناس إلا به كالطب، والزراعة، والصناعة ونحوها، وحكم هذا النوع يختلف باختلاف ضرورة الناس له وحاجتهم إليه، وهذه العلوم الدنيوية ينبغي فيها ملاحظة أمرين:
الأول: استحضار النية الصالحة لتعلمها، وتعليمها، لما فيه خير الإسلام والمسلمين، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِين﴾ [الأنعام:162].
الثاني: أن يُراعى في تعلُّمها وتطبيقها أحكام الشريعة الإسلامية.
ومن قواعد التعليم وأسسه التي يحصل بتطبيقها نيل ثمرة العلم: اختيار المعلم ولا سيما في مراحل التعليم الأولى، بأن يكون ديِّنًا فاضلًا ذا مروءة، وحسن خلق ليكون قدوة لطلابه، ويكون مربِّيًا خبيرًا، وأفضل معلِّمي البشر هم الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه، هيأ الله لهم اكتساب الخبرة، والتجربة في ذلك.
روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلـم قال: «مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الْغَنَمَ»، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَنْتَ؟ فَقَالَ: «نَعَمْ، كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ»[6].
يعني: القيراط الذي هو جزء من الدينار، أو الدرهم.
قال العلماء: «والحكمة في إلهام الأنبياء من رعي الغنم قبل النبوة: أن يحصل لهم التمرن برعيها على ما يكلفونه من القيام بأمر أمتهم، ولأن في مخالطتها ما يحصل لهم الحلم، والشفقة، لأنهم إذا صبروا على رعيها، وجمعها بعد تفرقها في المرعى، ونقلها من مسرح إلى مسرح، ودفع عدوها من سبع، وغيره كالسارق، وعلموا اختلاف طباعها وشدة تفرقها مع ضعفها، واحتياجها إلى المعاهدة، ألفوا من ذلك الصبر على الأمة، وعرفوا اختلاف طباعها، وتفاوت عقولها فجبروا كسرها، ورفقوا بضعيفها، وأحسنوا التعاهد لها، فيكون تحملهم لمشقة ذلك، أسهل مما لو كلفوا القيام بذلك من أول وهلة، لما يحصل لهم من التدريج على ذلك برعي الغنم»[7].
ومنها: البدء بالأسهل من العلوم، قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: ﴿كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ﴾ [آل عمران: 79].
الرباني: هو الذي يعلم الناس صغار العلم قبل كباره[8].
قال العلامة ابن خلدون: «ومن المذاهب الجميلة، والطرق الواجبة في التعليم: ألَّا يُخلط على المتعلم علمان معًا، فإنه حينئذ قل أن يظفر بواحد منهما لما فيه من تقسيم البال، وانصرافه عن كل واحد منهما إلى تفهم الآخر، فيستغلقان معًا، ويُستصعبان، ويعود منهما بالخيبة، وإذا تفرغ الفكر لتعليم ما هو بسبيله مقتصرًا عليه، فربما كان ذلك أجدر بتحصيله»[9].
وقد جرت عادة المسلمين في جميع الأقطار والأمصار، البدء في تعليم الولدان بالقرآن الكريم.
قال العلامة ابن خلدون: «إن تعليم الولدان للقرآن شعار من شعائر الدين، أخذ به أهل الملة، ودرجوا عليه في جميع أمصارهم، لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده من آيات القرآن، وبعض متون الأحاديث، وصار القرآن أصل التعليم الذي ينبني عليه ما يحصل بعده من الملكات، وسبب ذلك: أن تعليم الصغر أشد رسوخًا وهو أصل لما بعد، لأن السابق الأول للقلوب كالأساس للملكات»[10].
وعلى هذا فإنه لا يلزم السير على ترتيب سور القرآن، فإذا تعلم الطفل الفاتحة، وبعض السور القصيرة التي يقيم بها صلاته كالإخلاص، والمعوذتين، فإنه ينبغي أن يختار له من مقاطع الآيات ما يسهل فهمه وحفظه، وما هو مشتمل على الآداب التي يحتاج إليها، كوصية لقمان لابنه، وكالوصية بالوالدين ونحو ذلك.
«ومنها: التدرج في التعليم للمتعلمين شيئًا فشيئًا، وقليلًا قليلًا، يُلقى عليه أولًا مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب، ويقرب له في شرحها على سبيل الإجمال، ويراعى في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يُورد عليه حتى ينتهي إلى آخر الفن، وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم، إلا أنها جزئية وضعيفة، وغايتها أنها هيأته لفهم الفن وتحصيل مسائله، ثم يرجع به إلى الفن ثانية، فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها، ويستوفي الشرح والبيان، ويخرج عن الإجمال، ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه، إلى أن ينتهي إلى آخر الفن فتجود ملكته، ثم يرجع به، وقد شدا فلا يترك عويصًا، ولا مبهمًا، ولا منغلقًا، إلا وضحه، وفتح له مقفله، فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته.
هذا وجه التعليم المفيد، وهو كما رأيت إنما يحصل في ثلاثة تكرارات، وقد يحصل للبعض في أقل من ذلك بحسب ما يخلق له ويتيسر عليه»[11].
ومنها: أن يُعلم الطفل علم الحساب، لما في ذلك من رياضة الذهن، والتعود على الصدق.
ومنها: الفهم والرسوخ فيما يتعلَّمه الطالب، فلا ينقل من علم إلى علم إلا بعد إتقان الأول، وإدراكه إدراكًا جديدًا.
ومنها: قرن العلم بالعمل، وأقل ذلك أن يفهم ماذا يراد منه؟
قال عبد الله بن مسعود: كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا إِذَا تَعَلَّمَ عَشرَ آيَاتٍ، لَم يُجَاوِزْهُنَّ حَتَّى يَعرِفَ مَعَانِيَهُنَّ، وَالعَمَلَ بِهِنَّ[12].
«وكذلك ينبغي أن لا يطول على المتعلم في الفن الواحد، والكتاب الواحد، بتفريق المجالس وتقطيع ما بينها، لأنه ذريعة إلى النسيان، وانقطاع مسائل الفن بعضها من بعض، فيعسر حصول الملكة بتفريقها، وإذا كانت أوائل العلم وأواخره حاضرة عند الفكرة مجانبة للنسيان، كانت الملكة أيسر حصولًا وأحكم ارتباطًا، وأقرب صبغة، لأن الملكات إنما تحصل بتتابع الفعل وتكراره، وإذا تنوسي الفعل تنوسيت الملكة الناشئة عنه، قال تعالى: ﴿كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُون﴾ [البقرة:239]»[13].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] الفتاوى (10/664).
[2] برقم (3641)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/694) برقم (3096).
[3] برقم (224) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/727) برقم (3914).
[4] برقم (3664) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/697) برقم (31122).
[5] برقم (2654) وصححه الشيخ الألباني في مشكاة المصابيح (1/77) برقم 225.
[6] برقم (2262).
[7] فتح الباري، لابن حجر (4/441).
[8] تفسير القرطبي (5/184).
[9] مقدمة ابن خلدون (ص599).
[10] مقدمة ابن خلدون (ص602).
[11] مقدمة ابن خلدون، ص597 - 598.
[12] تفسير ابن جرير الطبري (1/95).
[13] مقدمة ابن خلدون، ص598 - 599.