أرشيف المقالات

أثر آية (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) في النفوس

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
أثر آية
﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ﴾
في النفوس


بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ [التوبة: 132].

أتينا في العدد الماضي على دراسة هذه الآية الكريمة وتحليلها، ونريد هنا أن نأتي على أثر هذه الآية في نفوس المسلمين وما نشأ عنها من آثار الثقافة العلمية والتمدن الإسلامي:
كان من أثر هذه الآية وغيرها من الآيات والأحاديث في الحث على طلب العلم والتفقه والتفهم أن الدين والعلم سارا جنباً إلى جنب لم ينفك أحدهما عن الآخر يوماً من الأيام.

يقول الإمام الزهري أحد أجلاء التابعين: كان من مضى من علمائنا – وما علماء ذلك العصر إلا الصحابة والتابعون - يقول: نعش العلم ثبات الدين والدنيا، وفي ذهاب العلم ذهاب ذلك كله فنرى من قول الزهري هذا أن الفكرة السائدة في عصر الصحابة والتابعين هو أن الحصن الوحيد لحماية الدين والدنيا هو العلم، وإن ذهاب العلم يكون خسارة على الأمة في الدين والدنيا معاً.
وإن الباحث لو رجع إلى كتب التاريخ والتراجم ودرس تاريخ الحياة العلمية في عصور الإسلام كلها - حاشا عصرنا الذي أضعنا فيه العلم فخسرنا الدين والدنيا - لرأى أن رجال العلم هم رجال الدين وأن رجال الدين هم رجال العلم لا تراهما ينفكان عن بعضهما.

وقد كانت المساجد هي النوادي المهمة لإلقاء الدروس العالية ومحاضراتها موجود إلى جانبها الكتاتيب (المدارس الابتدائية) ثم نشأ في نصف العصر الأموي نوع آخر يسهل مهمة العلم على الطالبين ويقوى وثاق الرابطة العلمية ويرمي إلى توحيدها في جميع الأقطار الإسلامية وهذا النوع قد دعي بـ (دار الضيافة) فقد أنشئت في كل بلدة إسلامية دار الضيافة ينـزل فيها العلماء والفضلاء والأدباء واللغويون والشعراء وأضرابهم وتقوم دار الضيافة بتأمين جميع لوازم الضيوف من نوم وأكل وشرب وتنظيف ثياب فكان كل ضيف من العلماء يفيد البلدة التي ينـزل فيها ما تفقده تلك البلدة من علم أو فن أو رواية كتاب أو حديث، ويستفيد منها ما ينقصه من علم ورواية لم تكن موجودة في بلاده (وحبذا لو تعاد إنشاء هذه الدور في البلاد الإسلامية ونحن في عهد طلائع نهضة جديدة إذن لتوحدت الثقافة العالية في البلاد الإسلامية بمدة وجيزة ولتعممت فيها) ودامت دور الضيافة تقوم بوظيفتها حتى خلفها نوع آخر وهي (الخوانق ثم المدارس) ومن أقدم ما أنشئ منها خانقاه الإمام الكبير محمد بن حبان البستي الشافعي صاحب الصحيح الشهير بصحيح ابن حبان بناها بنيسابور في حدود سنة (350هـ).

ومن الخطأ أن نظن أن الخانقاه هي دور الكسالى كما يظن بعض الباحثين في عصرنا لما يشاهد من حالة سكانها المؤسفة من الجهل والخمول والكسل فإن من الظلم أن نقيس ماضينا المجيد على حاضرنا المظلم.
وابن حبان هذا هو أحد أوعية العلم وعقلاء الرجال في عصره وكان إماماً حجة في الفقه والحديث واللغة والطب والكلام رحل في طلب العلم إلى خراسان والشام والعراق ومصر والجزيرة الفراتية وتنقل في بلدان هذه الأقطار فأخذ العلم عن علمائها وأساطينها، وأسند إليه قضاء سمرقند ثم نسا.
ثم ذهب إلى نيسابور وكانت إحدى مراكز العلم المهمة في العالم في ذلك الوقت فبنى بها خانقاة خدمة للعلم وتسهيلاً إلى طلابه ثم رجع إلى بلدته بست يفيد الطالبين وتقصده رواد العلم من النواحي البعيدة لرواية مؤلفاته عنه حتى توفي سنة (352) فمن الخطل أن يظن بشخصية مثل شخصية ابن حبان وعقلية مثل عقليته أنها تبني داراً للكسالى.

وأول ما بني من هذا النوع في دمشق (الخانقاة السميساطية) التي أنشأها أبو القاسم علي بن محمد السميساطي[1] أحد أكابر أعيان دمشق وعلمائها وكان محدثاً عالماً فاضلاً بارعاً في العلوم الرياضية من حساب وهندسة وفلك توفي سنة (453) وللسيمساطية هذه قانون دقيق لمن يريد النـزول فيها فإن الإمام الغزالي على جلالة قدره أراد النـزول فيها لما قدم دمشق فلم يتمكن من ذلك فنـزل في المأذنة الغربية في الجامع الأموي وكانت تحتوي على غرف حتى إذا ظهر علمه واشتهر صيته طلب إليه النـزول فيها فأبى.
تتابع بعد ذلك بناء المدارس فكان في دمشق وحدها ما يزيد على مائتي مدرسة عالية وكانت هذه المدارس مقسمة على طريقة التخصص فللغة العربية مدارس ولعلوم القرآن مثلها وللحديث والفقه الشافعي والحنفي والحنبلي والمالكي لكل صنف مدارس خاصة به وأنشئ في القرن السابع ثلاثة مدارس لعلم الطب عدا ما كان يلقى في المستشفيات وفي المدارس والمساجد ولم يكن هذا مختصاً بدمشق فقد كان في كل من بغداد ومصر والموصل وخراسان ونيسابور والحجاز واليمن وبلاد المغرب وطرابلس وتونس والجزائر وصقلية والقيروان وبلاد الأندلس على تعدد بلادها مثل ما كان بدمشق وكان في بقية بلدان سوريا أيضاً مثل حلب وحمص وحماة والمعرة والقدس والرملة ونابلس وطرابلس وبعلبك والزبداني حتى إقليم حوران مثل بصرى وصرخد مثل ما كان بدمشق من مدارس عالية تقل وتكثر حسب سعة البلد وضيقها.

كانت كل بلدة من بلاد المسلمين لا تخلو عن عدة مدارس عالية يتخرج منها من يكونون قادة للأمة في الفكر والعقل فاستلموا زمام الحكم في البلاد وقاموا في تدبير شؤونها خير قيام، وذادوا عن حياضها أحسن ذود، فمن هذه المدارس القديمة التي لا نحفل بها اليوم الآيلة إلى الخراب - تخرج ملوك الإسلام ووزراؤهم ورجال دولتهم ومنها تخرج رجال القضاء والتشريع؛ ومنها تخرج القواد ورجال الجيش والفقهاء واللغويون والمحدثون، ومنها تخرج الرياضيون والأطباء والمهندسون والفنانون والمخترعون.

فكان في جميع بلاد الإسلام علم وفقه، وحضارة وثقافة وعقل وتفكير، وصناعة وتجارة، وكان الغرب يرهب جانب الشرق لعلمه وقوته، ويشتري منه ما يحتاج إليه من صناعة وغيرها حتى إذا أضاع المسلمون هذه المدارس وأعرضوا عنها تهدمت فتهدموا، وخربت فخربوا.

انتقلت العلوم الكونية والمادية من هذه المدارس الخربة إلى البلاد الأوربية فتلقتها الأمم الأوربية بالترحيب وشادت لها معاهد كمعاهدها السابقة وأخذت حكوماتها تمد يد المساعدة لهذه المؤسسات العلمية حتى صار المسلمون اليوم عالة على هذه المدارس الأوربية بعد أن كان منبعها الشرق.

لم يكتف الذين في يدهم شؤون المسلمين بجريمتهم الأولى في تفريطهم بالعلوم المادية حتى ارتكبوا في عصرنا جريمة ثانية في تفريطهم بالعلوم القومية من لغة وأخلاق وتاريخ وتشريع.
وقد أخذت الحكومات الأوربية تفسح المجال لهذه العلوم في جامعاتها وأخذ علماء الفرنجة يدرسون هذه العلوم من لغة وأدب وتاريخ وقرآن وتفسير وحديث وتجويد وفلسفة وكلام وتوحيد وعقائد الخ وأخذوا ينشرون كتب المسلمين القديمة ويبعثونها من مرقدها ويفخر أحدهم بنسبة نشر إحدى الكتب العربية إليه.
أما عندنا في بلاد الشرق فولاة الأمور يرون العمل في مثل هذا ضرباً من السخافة، ونوعاً من الرجعية وصار المعني بذلك يرمى بخطل الرأي، وجمود الفكر، وكساد العقل.

والأغرب من ذلك كله أن تقوم الجامعة العبرية الصهيونية اليهودية في فلسطين فتنشئ فرعاً للعلوم الإسلامية من لغة وأدب وتاريخ وقرآن وحديث وتفسير وما إلى ذلك وقد أخذت في نشر الكتب العربية وأنجزت منها كتاب "أنساب الأشراف للبلاذري" كل ذلك على نهج الجامعات الأوربية والمسلمون نائمون منهمكون بالأحلام والخيالات - إلا من شاء ربك - قد استولى على دوائر معارفهم ومؤسسات أوقافهم الجهلاء الهدامون الذين يرون في دراسة هذه النواحي المتقدمة حمقاً وسخفاً ورجعية.

حتى إذا تلاشت هذه العلوم من بلادنا حينئذ تندم الأمة ولات ساعة مندم، ويصير في علومها القومية ما صار بها في علومها الكونية وقد بدأت طلائع هذا الأمر فها هي البعثات العلمية تذهب كل سنة من بعض البلاد العربية لتتعلم اللغة العربية وآدابها في باريس وبعثة أخرى لتدرس التاريخ الإسلامي والعربي وإذا دام الحال لذلك فغداً سنسمع بأن بعثة ذهبت إلى أوروبا لتتعلم القرآن وعلومه، وأخرى لتتخصص بالفقه الإسلامي، وقد يضطرنا الأمر لإرسال بعثات للجامعة الصهيونية لقربها إلينا.
فلتراقب الله والوجدان في أعمالها حكام المسلمين وملوكهم وأمراؤهم ورؤساء ومؤسسات المعارف والأوقاف فهم المسؤولون عن أمور المسلمين وشؤونهم، وبأيديهم رقاب الأمة وأموالها مؤسساتها وأوقافها ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [التوبة: 105].



[1] نسبة إلى سميساط بلدة وقلعة على ضفة الفرات.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١