أرشيف المقالات

على ذكر الضرائب الجديدة

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
8 تكاليف الاستقلال وهل تكاليف الاستقلال، إلا ضرائب الدماء والأموال؟ لقد كنا قبل أن نبلغ رشدنا الدولي نعيش في كنف الحكومة وحمى الاحتلال، كما يعيش النشء الأغرار في ظلال الأبوين ورعاية الأسرة! تنفق علينا الحكومة ولا نعلم من أين تكسب، وتدفع عنا الحليفة ولا ندري بماذا تضرب.
وكنا نسمع بما تجود به الأمم لأوطانها من الأموال والأثمار والأنفس، ونرى ما نحن فيه من البال الفارغ والعيش الأبله، فنحسب أن حياتنا هي الحياة، وغبطتنا هي الغبطة.
ولكننا كنا نرى من الجهات الأخرى أن عزتنا وقومنا لا تقاس على عزات هذه الأمم وقواها؛ فهي في أوطانها حرة الإرادة مطلقة السيادة، وفي العالم مرفوعة الرأس مسموعة الكلمة؛ ونحن في وطننا قطيع يسام ويسمن، وفي العالم سلعة تُساوم وتؤمّن، فلا نشعر هنا كما يشعر الناس هناك أننا نحن الوطن والثروة، والحكومة والسطوة، والدولة والسلطان.
فلما بلغنا التكليف وأدركنا الاستقلال وملكنا زمام الأمر، أصبحنا فإذا أخطار المجد تحوم على كل نفس، وأثقال الدفاع تنحط على كل كاهل: فالضرائب تجبى من المال، والكتائب تجمع من الدم، والتضامن الدولي العام يقتضينا المساهمة في حفظ السلام وإقرار العدل بالمعاهدات الدفاعية والمواثيق الاقتصادية؛ وفي سبيل ذلك تستعد كل نفس للموت، ويتهيأ كل شيء للبذل؛ ومن أجل ذلك يجب أن يكون صوتنا هو الأرفع في السياسة، ورأينا هو الأعلى في الحكم نحن الذين ننفق فلا بد أن يكون لنا الحساب؛ ونحن الذين نموت فيجب أن يكون في أيدينا الأمر!! ما كنا قبل اليوم نشعر هذا الشعور ونفهم هذا الفهم.
والفضل في هذا الوعي وفي هذه اليقظة يكاد يرجع إلى ضريبة الدمغة من دون الضرائب.
فإن ضرائب العقار والدخل والإنتاج إنما هي ضرائب خاصة، تُجبى من قوم دون قوم، وفي وقت بعد وقت؛ فالشعور بوجودها محدود، والتفكير في أمرها مؤقت.
أما ضريبة الدمغة فهي ضريبة عامة، تُجبى من أي إنسان في أي زمان ما دام له عمل أو حاجة.
فهي لذلك لا تنفك تشعرك وتشعرني أننا ننفق على الحكومة؛ فرؤساؤها وكلاؤنا، وموظفوها أجراؤنا، وأموالها أموالنا؛ فنحن حقيقيون أن نراقب الوكيل، ونحاسب الموظف، ونرعى الخزانة؛ ونحن خليقون أن نقول للوزير: إن جهدك للدولة فلا تبذله على هواك الفرد، وللموظف: إن وقتك للأمة فلا تشغله بعملك الخاص، وللنائب: إن رأيك للناس فلا تصرفه إلى متاعك الباطل لقد كنا ندرك معنى الوطن إدراك الشيوع والإبهام والغفلة، فلا نكاد ندري ما يقدم إلينا وما نقدم إليه.
فالترع تشق، والطرق تنهج، والجسور تنصب، والعمارة تمتد، والثقافة تنتشر، والأمن يستقر، والحضارة تزدهر، ونحن نستمتع بذلك كله استمتاع الغريب لا نجد فيه ريح الفخر ولا روح المجد، كأن غيرنا هو الذي قام به وأنفق عليه! ولو أن عابثاً عبث به، أو عائثاً عاث فيه، لما ألقينا بالنا إلا لخبر السرقة أو الخيانة أو المحاباة، نرويه كما نروي أخبار البرق للتفريج والتفكهة في حديث القهوة أو في سمر البيت.
وتلك حال كانت أشبه بحال الأمير أو الغني الذي أوتي الملك عفواً من غير حيلة، واستولى على ريعه صفواً من غير كلفة؛ فشعوره به شعور بأثره لا بعينه، وحرصه عليه حرص على ثمره لا على شجره.
أما لذة الملك في ذاته فلا يستشعرها إلا المالك الذي اشتراه بجهده، والفلاح الذي استغله بعرقه كذلك كنا نفهم معنى الوطن قبل أن نفهم معاني الاستقلال والسيادة والعزة، فلما فهمناها وفهمنا لوازمها من الإخلاص والإيثار والتضحية، أصبحنا نعتقد أن كل قوة هي من قوات الوطن العامة، وكل ثروة هي من ثرواته المشتركة، فالقادر لا ينبغي أن يعطل قوته لأنه حر، والغني لا يجوز أن يبدد ثروته لأنه مالك إن للوطن حقاً معلوماً في أملاك المواطن وملكاته، وإن للمواطن حقاً مشاعاً في أمجاد الوطن وخيراته.
فأنا من حقي أن أقول للأمير الذي يهلك ثروتنا وسمعتنا على الفتون والمجون، وللغني الذي يخمد نهضتنا وحيويتنا بالكزازة واللؤم، وللأديب الذي يزيف أدبنا وتاريخنا باللغو والباطل، وللوزير الذي يوزع المناصب بالهوى ويقسم الأرزاق بالمحاباة، وللموظف الذي يتصرف في أشياء الدولة تصرف المالك، فسيارتها في (جراجه) وسعاتها على بابه، وأموالها في جيبه، وللعضو البرلماني الذي لا يدخل أحد المجلسين إلا ليقبض مكافأته أو يلقى أصحابه أو يتلقى بريده؛ من حقي وحقك أن نقول لهؤلاء جميعاً على التوالي: إنكم علق تعيشون على دماء الناس، وأنكاد تتلذذون بكفران النعم، وافدام تتطفلون على موائد العلم، وأوغاد تدلسون الحكم على الوطن، ولصوص تعيث أيديكم في مال الأمة، وعيال تبهظ أثقالكم عاتق الفقير؛ فحياتكم على الأرض غرور ولهو، ونسبتكم إلى الوطن زور وباطل ذلك ما يحق لكل مصري أن يكرر قوله؛ وذلك ما يجب على كل مصري أن يتقي سماعه.
ولا خوف علينا بعد اليوم من غفوة العيون وغفلة البصائر، فإن كل طابع نشتريه من طوابع الدمغة منبه عنيف الحركة في اليد، شديد الصوت في الأذن.
وإنما الخوف كل الخوف على زعيم الأمة إذا ضل، وعلى أمين الخزانة إذا أسرف! أحمد حسين الزيات

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير