أرشيف المقالات

نبذة مختصرة عن الأمثال في القرآن الكريم

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
نبذة مختصرة عن الأمثال في القرآن الكريم


إنَّ الحمد لله، نحمدهُ ونستعينهُ، ونستغفرهُ ونتوبُ إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهدِ الله فهو المهتد، ومَن يُضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهَدُ أنَّ محمدًا عبد الله ورسولُه، اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، وبارِكْ على محمد وآل محمد، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم، في العالَمِين إنَّك حميد مجيد، اللهم إني أعوذ بك أن أُشرِك بكَ وأنا أعلم، وأستغفرك لِمَا لا أعلم، وبعد:
ففي أمثال القرآن الكريم من المقاصد واللفتات والإشارات والمعاني المهمة، ما ينبغي الوقوف عندها، وأمثالُ القرآن الكريم صُنِّفَتْ على قياسية وغير قياسية، والقياسية منها صُنِّفت على تمثيلية وتشبيهية، وكان الإمام السيوطي رحمه الله قد قسمها إلى أمثلة صريحة ظاهرة، وأخرى كامنة، ومنها الأمثال المرسلة، كما أن منها مفردة وأخرى مركَّبة.
 
والأمثال الصَّريحة هي الأمثال التي جاءَتْ في الآيات المشتمِلة على تشبيهِ حالِ شيء بحال شيء آخر، وفي الغالب ما يكون المثل لشيءٍ حسي (مادي) لإيضاح أمر معنوي، وأحيانًا يُضرب لمخلوق بمخلوق آخر، وقد يأتي المثل للوصف، أو يأتي للتحدي.
 
وإنَّ الأمثال الصريحة المقصودة هي التي تضمَّنت هذه المعاني، بوجود كلمة المثل ومشتقاتها بالنَّصِّ الصريح؛ كقوله تعالى: ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا ﴾ [إبراهيم: 24]، أو قوله تعالى: ﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ...
[البقرة: 17]، وقوله تعالى: ﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا ﴾ [الكهف: 32]، وقوله تعالى:﴿ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ ﴾ [إبراهيم: 45]، وكل لفظ من هذا القبيل.
 
وأما الأمثال الكامنة، فكانت مِن قبيل قول جلال الدين السيوطي رحمه الله في الإتقان: "قال الماوردي: سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن مضارب بن إبراهيم، يقول: سمعتُ أبي يقول: سألت الحسن بن الفضل، فقلت:
• إنك تُخرِّج أمثالَ العرب والعجم من القرآن، فهل تجد في كتاب الله ((خيرُ الأمور أوساطُها))؟
• قال: نعم، وأورد آياتٍ تتضمن معنى المثل؛ منها قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ﴾ [الفرقان: 67]، وقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ﴾ [الإسراء: 29].
• قلت: فهل تجد في كتاب الله: (احذَرْ شرَّ مَنْ أحسنتَ إليه)؟
قال: نعم، ﴿ وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ ﴾ [التوبة: 74].
• قلت: فهل تجد في كتاب الله "ليسَ الخَبرُ كالعيان"؟
• قال: في قوله تعالى: ﴿ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ [البقرة: 260].
• قلت: فهل تجد "في الحَرَكاتِ البَركاتُ"؟
• قال: في قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ﴾ [النساء: 100]"[1].
 
وأما الأمثال المرسلة، فمنها قوله تعالى: ﴿ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ﴾ [الأعراف: 40]، وقوله تعالى: ﴿ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ﴾ [يوسف: 41]، وقوله تعالى: ﴿ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ﴾ [فاطر: 43]، وقوله تعالى: ﴿ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ﴾ [هود: 81]، وقوله تعالى: ﴿ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ ﴾ [يوسف: 51]، وقوله تعالى: ﴿ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ ﴾ [الإسراء: 84]، فهي آيات، أو بعض من آيات من القرآن الكريم، سَرَتْ مَسْرَى الأمثال عند الناس.
 
والأمثال القرآنية إما إنها تصف شيئًا، أو تقيس شيئًا على شيء آخر، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وهذه الأمثال تارة تكون صفاتٍ، وتارة تكون أقيسةً، فإذا كانت أقيسة فلا بد فيها من خبرينِ؛ هما قضيتان وحكمان...، فضَربُ المثلِ الذي هو القياس لا بد أن يشتملَ على خبر عام وقضية كلية، وذلك هو المثل الثابت في العقل، الذي تقاس به الأعيان المقصود حكمها، فلولا عمومه لَمَا أمكن الاعتبار)[2].
 
لقد جاءتِ الأمثالُ الصريحة في القرآن الكريم بكثرةٍ، وبأنواع متعدِّدة، وأثارت مواضيع أساسية كليَّة مختلفة، تقوم عليها أصول وأركان دين الإسلام، فقال تعالى في هذا المعنى: ﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا ﴾ [الإسراء: 89]، وحين تختم هذه الآية بقوله تعالى: ﴿ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا ﴾ [الإسراء: 89]، فإن هذا يعني أنَّ الله يضربُ الأمثال مِن أجل هداية الناس، فإن الذي لا يتَّعظ بالأمثال، ويفهم المراد من ضربها ليؤمن، فهو يأبى الإيمان، ويريد أن يكون كفورًا، وفي ذلك قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ ﴾ [الروم: 58].
 
ولَمَّا كانت أمثالُ القرآن تُضرَب لهدفٍ عظيم، وهو الإيمان بالله تعالى؛ فقد قال تعالى: ﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ﴾ [البقرة: 26]، فبالأمثال المضروبة يهتدي أقوامٌ ويَضِلُّ آخرون.
 
وكانتِ الأمثال الصريحة في القرآن العظيم ستةً وأربعين مثلًا، في أربع وعشرين سورة، ينبغي أن نقف عند كل معلومة، صغيرة كانت أم كبيرة؛ لأنَّ آيات القرآن كلَّها فيها الكثير من المعاني والإعجاز، والبيان والتبيان، والخير، فحين تشتمل الآية من القرآن الكريم على مَثَلٍ صريح، فإنَّ ذلك يعني أننا أمام مزيد من هذه المعاني، فينبغي عندها كثرةُ التفكر والتدبر والتذكر والاستنباط منها؛ لتكون يسيرةَ الفهم بعد بيانها وتفصيلها، ومِن ثَمَّ تكون سببًا في الهداية، وهذا ما كان عليه السلف الصالح من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين رحمهم الله؛ فعن عمرو بن العاص رضي الله عنه، قال: (عقَلتُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أَلْفَ مَثَلٍ)[3]، وفي تفسير القرآن العظيم لابن كثير: "قال بعض السلف: إذا سمعتُ المثلَ في القرآن فلم أفهَمْهُ، بكيتُ على نفسي؛ لأن الله تعالى قال: ﴿ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 43]"[4].
 
وكان الجُرجاني قد قال كلامًا بليغًا في هذا الموضوع، فهو يقول:
(واعلم أنَّ مما اتفق العقلاءُ عليه أن التمثيل إذا جاءَ في أعقاب المعاني، أو بَرَزَتْ هي باختصار في مَعرِضه، ونُقِلت عن صُوَرها الأصلية إلى صورته - كساها أُبَّهةً، وكسبها مَنْقَبةً، ورفع من أقدارها، وشَبَّ من نارها، وضاعَف قُواها في تحريك النُّفوس لها، ودعا القُلوب إليها، واستثار لها من أقاصي الأفئدة صبابةً وكلَفًا، وقَسَر الطِّباع على أن تُعطيها محبَّة وشَغَفًا، فإن كان مدحًا، كان أبْهَى وأفخم، وأنبلَ في النفوس وأعظم، وأهزَّ للعِطْف، وأسرع للإلف، وأجلب للفَرح، وأغلب على المُمتَدَح، وأوجب شفاعة للمادح، وأقضى له بغُرِّ المواهب المنائح، وأَسْيَر على الألسن وأذكَرَ، وأولى بأن تَعْلَقه القلوب وأجدر، وإن كان ذمًّا، كان مسُّهُ أوجعَ، ومِيسَمُه ألذع، ووقعُه أشد، وَحدُّه أحَدَّ، وإن كان حِجابًا، كان بُرهانه أنور، وسلطانه أقهر، وبَيَانه أَبْهر)[5].
 
والله تعالى يضرب الأمثال للناس؛ لأنهم يحتاجون لذلك؛ لأسباب كثيرة؛ منها قصور في التصور، ومنها قلة العلم، ومنها الجهل، ومنها النسيان، وغيرها.
أما جلال الله تعالى، فلا يحتاج لذلك؛ لأن الغيب والشهادة عنده تعالى وتبارك سواءٌ، فمِن أجلِ كلِّ ذلك قال تعالى: ﴿ فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 74].
 
ويقول الحكيم الترمذي: (فاعلم أنَّ الله تعالى ضربَ الأمثال للعباد في تنزيله؛ لقوله تعالى: ﴿ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 35]، وقال جل ذكره:﴿ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ ﴾ [إبراهيم: 45]، وقال جلَّ ذكره: ﴿ ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ ﴾ [الروم: 28]، ثم اعلم بأنَّ ضرب الأمثال لمَن غاب عن الأشياء، وخَفِيت عليه الأشياء، فالعباد يحتاجون إلى ضرب الأمثال لما خفيت عليهم الأشياء، فضرب الله تعالى لهم مثلًا من عند أنفسهم، لا مِن عند نفسه؛ ليُدرِكوا ما غاب عنهم، فأما مَن لا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، فلا يحتاج إلى الأمثال، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا)[6].
 
وكان ممَّن كتب في الأمثال في القرآن الكريم من أعلام الأمَّة العلامة ابن قيِّم الجوزية رحمه الله، وجاء كتابه عامًّا ومقتضبًا، ولكنه ذو قيمة علمية عظيمة، وفائدة كبيرة، ولا يُستغنى عنه، ولكنه لم يدخل في تفاصيل الأمثال القرآنية؛ وإنما أشار إلى مغزى تلك الأمثال والمراد منها.



[1] الإتقان في علوم القرآن؛ جلال الدين السيوطي، ج2، ص 346.


[2] مجموع الفتاوى؛ ابن تيمية، ج14، ص58 - 59.


[3] مسند الإمام أحمد، ج29، ص341، حديث: 17806.


[4] تفسير القرآن العظيم؛ ابن كثير الدمشقي، ج1، ص85.


[5] أسرار البلاغة؛ عبدالقاهر الجرجاني، ص 115.


[6] الأمثال من الكتاب والسنة؛ الحكيم الترمذي، ص 13- 14.

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢