أرشيف المقالات

السلف الكرام وحفظ الأسرار

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
السلف الكرام
وحفظ الأسرار

كان السلف الصالح - وهم القدوة - من أشد الناس حفظًا للأسرار، وصدورهم أوعية لها.
• أبو بكر رضي الله عنه وحفظه لسر رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أخرج البخاري من حديث سالم بن عبدالله رضي الله عنه:
"أنه سمع عبدالله بن عمر رضي الله عنهما يحدث أن عمر بن الخطاب حين تأيمت[1] حفصة بنت عمر من خنيس بن حذافة السهمي - وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوفي بالمدينة - فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أتيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة فقال: سأنظر في أمري، فلبثت ليالي، ثم لقيني، فقال: قد بدا لي ألا أتزوج يومي هذا، قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق، فقلت: إن شئتَ زوَّجتُك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر فلم يرجع إلي شيئًا، وكنت أوجد عليه[2] مني على عثمان، فلبثت ليالي، ثم خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر، فقال: لعلك وجدتَ علي حين عرضتَ علي حفصة فلم أرجع إليك شيئًا؟ قال عمر: قلت: نعم، قال أبو بكر: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضتَ علي إلا أني كنت علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبِلتها".
 
• أنس بن مالك رضي الله عنه وحفظه سر رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فقد أخرج البخاري عن المعتمر بن سليمان عن أبيه قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: "أسر إليَّ النبي صلى الله عليه وسلم سرًّا، فما أخبرت به أحدًا بعده[3]، ولقد سألتني أم سليم فما أخبرتها به".

• وأخرج الإمام أحمد عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال: "مر بي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ألعب مع الصبيان فسلم علينا، ثم دعاني فبعثني إلى حاجة له، فجئت وقد أبطأت عن أمي، فقالت: ما حبسك؟ أين كنت؟ فقلت: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حاجة، فقالت: أي بني، وما هي؟ فقلت: إنها سر، قالت: لا تحدث بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدًا، ثم قال أنس: يا ثابت، لو كنت حدثت به أحدًا لحدثتك يا ثابت"؛ (أصل هذا الحديث في الصحيحين).
 
• عبدالله بن جعفر وحفظه لسر رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فقد أخرج الإمام أحمد عن عبدالله بن جعفر رضي الله عنه قال:
"ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلته وأردفني خلفه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تبرز كان أحبَّ ما تبرز فيه هدفٌ يستتر به أو حائش نخل، فدخل حائطًا[4] لرجل من الأنصار، فإذا فيه ناضح[5] له، فلما رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم حنَّ وذرَفَت عيناه، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح ذفراه وسراته[6]، فسكن، فقال: مَن ربُّ هذا الجمل؟ فجاء شاب من الأنصار، فقال: أنا، فقال: ((ألا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملَّكك الله إياها؟ فإنه شكاك إلي، وزعم أنك تجيعه وتدئبه))[7]، ثم ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحائط وقضى حاجته، ثم توضأ، ثم جاء والماء يقطر من لحيته على صدره، فأسر إليَّ شيئًا لا أحدث به أحدًا، فحرجنا[8] عليه أن يحدثنا، فقال: لا أفشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم سره حتى ألقى الله تعالى"، وهكذا كانوا يحفظون سر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
 
• وكان هند بن أبي هالة يصف مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول:
"مجلس حلم وحياء، وصبر وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبن فيه الحرم، ولا تُنْثَى فلتاته[9]..."؛ (شمائل الترمذي شرح علي القاري: 1/ 39).
 
• ويروى أن معاوية رضي الله عنه أسر إلى الوليد بن عتبة حديثًا فقال لأبيه:
"يا أبتِ، إن أمير المؤمنين أسر إليَّ حديثًا، وما أراه يطوي عنك ما بسطه إلى غيرك، قال: فلا تحدثني به؛ فإن من كتم سره كان الخيار له، ومن أفشاه كان الخيار عليه، قال: قلت: يا أبتِ، وإن هذا ليدخل بين الرجل وبين أبيه، قال: لا والله يا بني، ولكن أحب ألا تذلل لسانك بأحاديث السر، فأتيت معاوية رضي الله عنه فحدثته، فقال: يا وليد، أعتقك أبوك من رق الخطأ؛ فإفشاء السر خيانة"؛ (الصمت لابن أبي الدنيا: ص452)، (الإحياء: 3/ 132).
 
• وجاء في حديث أم زرع عن عائشة رضي الله عنها: "...
جارية أبي زرعٍ، فما جارية أبي زرع؟ لا تبُثُّ حديثنا تبثيثًا[10]، ولا تُنقِّثُ مِيرتنا تنقيثًا[11]، ولا تملأ بيتنا تعشيشًا[12]..."؛ الحديث.



[1] تأيَّمت: أي مات عنها زوجها.


[2] أَوْجَدَ عليه: أي أكثرَ غضبًا منه.


[3] قال الحافظ في "فتح الباري" (11/ 85): "قال بعض العلماء: "كأن هذا السر كان يختص بنساء النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فلو كان من العلم ما وسع أنسًا كتمانه".


[4] الحائط: هو البستان من النخيل إذا كان عليه حائط، وهو الجدار.


[5] الناضح: هو البعير يستقى عليه.


[6] الذفرى في البعير: أصل أذنه، والسراة من كل شيء: ظهره وأعلاه.


[7] تُدئبه: أي تكده وتتعبه.


[8] حرجنا عليه: أي ألححنا عليه وضيقنا، من الحرج وهو الضيق.


[9] لا تُنْثَى فلتاته: أي "لا تذاع سقطاته"، والفلتات: جمع فلتة، والفلتات يعني الزلات؛ أي: لم يكن في مجلسه زلات فتحفظ وتحكى؛ (النهاية: 3/ 68)


[10] لا تبُثُّ حديثنا تبثيثًا: يعني لا تشيعه وتفشيه، وإنما تكتم سرنا وحديثنا كله.


[11] ولا تُنقِّث ميرتنا تنقيثًا: المِيرة: الطعام المجلوب، والمعنى: لا تفسده ولا تفرِّقه ولا تذهب به، والمراد وصفها بالأمانة.


[12] ولا تملأ بيتنا تعشيشًا: معناه: لا تترك الكناسة والقمامة فيه كعش الطائر؛ أي: إنها تنظِّف البيت وتعتني به.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١