أرشيف المقالات

مقاصد سورة طه

مدة قراءة المادة : 35 دقائق .
نور البيان في مقاصد سور القرآن

"سلسلة منبريّة ألقاها فضيلة شيخنا الدكتور عبد البديع أبو هاشم رحمه الله، جمعتها ورتبتها وحققتها ونشرتها بإذن من نجله فضيلة الشيخ محمد عبد البديع أبو هاشم".
 

(20) سورة طه
الحمد لله رب العالمين، نحمده سبحانه وتعالى ونستعينه ونستهديه ونتوب إليه ونستغفره، ونعوذ به سبحانه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ولن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، قال في الحديث الصحيح "أنا محمد وأحمد، والحاشر يُحشر الناس على قدمي يوم القيامة، والماحي يمحو الله بي الكفر، والعاقب"[1]، وفي رواية "والعاقب فلا نبي بعدي"[2]، نشهد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح للأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهادٍ حتى أتاه اليقين، فصلوات ربنا وتسليماته على هذا نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه وتمسك بسنته إلى يوم الدين.
 
أما بعد:
أيها الأحبَّة الكرام، هذا كتاب الله بين أيدينا نتصفحه سورة سورة لنتعرف على سور القرآن وعلى تفسيرها المجمل، عسى أن يكون ذلك في ميزان حسناتنا وحجةً لنا لا علينا ودافعاً لنا إلى الخيرات والفضائل والطيبات.
 
ومعنا سورة طه وهي سورةٌ سُميت بهذا الاسم من قبل المولى سبحانه وتعالى، فسميت بأول ما فيها ﴿ طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ﴾، وطه حرفان من حروف الهجاء هما حرف الطاء وحرف الهاء، وليست اسماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم[3]، وإنما تعني في بعض اللغات وقد حوت لغة العرب عدة لغاتٍ وعدة لهجات ونزل القرآن مُعجزاً للعرب في لغتهم فاحتوى على مثل ذلك من الكلمات التي استعملها العرب في لغتهم وإن كانت من لغاتٍ أخرى، فكلمة طه في بعض اللغات الأخرى واستعملتها العربية معناها يا رجل أو يا إنسان[4]، وقيل: لما كلَّم الله موسى بالنبوة أول مرة – كما جاء في السورة – وكان ذلك ليلاً وموسى يعاني من وحشة الطريق وقلة الأنيس فناداه ربه فجأة فبلغ منه الخوف أن وقف على أطراف قدميه، فقال الله له: طه يعني طأ الأرض بأقدامك، قف على قدميك واطمئن ولا تخف[5]، طه فعل أمرٍ بمعنى الوطء والعلو والثبات على الشيء، ولذلك سميت الركوبة مطية من وطئها صاحبها إلى ركب عليها، فـ"طه" بمعنى طأ الأرض بقدميك واثبت عليهما واطمئن ولا تخف ﴿ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ﴾.
 
وبعض العلماء حينما نظر في هذه السورة فوجد حديثاً طويلاً لموسى عليه السلام، ومُجملاً كاملاً لقصته وحياته كنبي مع فرعون اللعين، ثم مع بني إسرائيل بكفرهم وجحودهم وعنادهم، قال: هذه سورة الكليم[6]، وبعضهم سماها سورة موسى[7]، والكليم هو موسى عليه السلام.
 
هذا عن اسم السورة، فكلمة طه ليست من أسماء الرسول صلى الله عليه وسلم كما يفهم البعض، إنما الحديث في ذلك ضعَّفه أهل الحديث وهم أصحاب وأرباب هذا الفن يُؤخذ بقولهم في ذلك، ولم يعرف اسم طه على ألسنة الصحابة ولا التابعين رضوان الله عليهم أجمعين[8]، وهي سورةٌ مكيةٌ نزلت قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم[9]، وكان نزولها - كما حقق العلماء ذلك - في أواخر السنة الرابعة وأوائل السنة الخامسة من البعثة[10]، بعد أن بُعث النبي صلى الله عليه وسلم بأربع سنوات أو بخمس سنوات، في هذه الحدود نزلت سورة طه، وبالتالي فهي سورةٌ مكيةٌ كما عرفتم بارك الله فيكم ونفعني وإياكم بالعلم، السور المكية كلها ركزت على أركان العقيدة المهمة، التعريف بالله تبارك وتعالى، التأكيد على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، إثبات أن القرآن والرسالة النبوية من عند الله سبحانه وليست افتراءً ولا كذباً، وأن يوم القيامة حق.
 
فإن من جمع هذه الأركان جمعاً صحيحاً صحت عقيدته وسلمت، وهذا أهم ما في العقيدة، وهي الأركان الأربعة التي بنى الله عليها العقيدة في العهد المكي، غير أن كل سورةٍ تعرض هذه الأركان بطريقةٍ وبشكلٍ يختلف عن السورة الأخرى، وذلك إنما يدل على براعة المتكلم واقتداره وتمكنه، من يستطيع أن يعبر عن الشيء الواحد بصور مختلفة وبأشكال متعددة وبأساليب كثيرة فهذا اقتدارٌ في التكلم، ولا أصدق من الله قيلًا، فهذا هو الله يتكلم، يتكلم بهذا القرآن فلا عجب وهو الإله الحق، وهو الخلاق، وهو القدير، لا عجب أن يعبر عن الشيء الواحد بهذه الأشكال المختلفة، لا تجد سورةً مثل سورة وإن كانت كلها سوراً مكية نزلت في الزمان المكي، وتجد لكل سورة طعماً ولذة فوق أن لها شكلاً مخالفاً للسورة الأخرى، ورغم ما بين السور المكية من اشتراك في الموضوع واتحاد في الهدف لكن كل سورة لها طابعٌ خاص.
 
سورتنا هذه عرضت الموضوع المذكور من خلال البداية حيث نبَّه الله تبارك وتعالى أولاً على الهدف من إنزال القرآن الكريم، والجهة التي نزل منها القرآن ﴿ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ﴾، فلم ينزل القرآن ليشقى به الناس، إذاً أُنزل ليسعد به الناس، وليُسد الله به الخلق تذكرةً للناس يتذكرون بها فيسعدون في الدنيا والآخرة، فهذا القرآن تنزيلٌ من عند الله تبارك وتعالى الجامع لهذه الأوصاف من أوصاف الكمال العظيمة والجلال العظيم الذي لم يكن إلا لله الواحد الذي له الأسماء الحسنى.
 
ثم عرض الله تعالى هذا المنهج – منهج السعادة – وكيف أنه من أعرض عنه عاش حياةً ضنكاً وضائقةً وتعيسةً تنتهي بالشر والسوء، عرض الله ذلك من خلال آخر رسالةٍ قبلنا رسالة سيدنا موسى عليه السلام، وكما عرفنا رسالة موسى هي آخر الرسالات قبل رسالة القرآن، وما كان عيسى إلا متمماً لرسالة موسى فالأصل في هذه الرسالة – رسالة أهل الكتاب أو بني إسرائيل – هو موسى عليه السلام بما جاء به من التوراة، ثم جاء عيسى مكملاً لما حرم الله منه اليهود من التوراة، حرمهم من لوح المواعظ فبعث به عيسى عليه السلام عند النصارى، وكلهم واحد أمةٌ واحدة.
 
فذكَّرنا الله تعالى بآخر رسالة، وكيف أن موسى لما واجه فرعون بهذا المنهج ليسعد في حياته سعادةً حقيقية أعرض وكذَّب وعصى رغم ما رأى من الآيات الكبرى فانتهى أمره إلى الغرق والهلاك ﴿ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ ﴾.
 
ثم ذكر الله تعالى حال موسى أيضاً مع بني إسرائيل بعد أن تجاوز بهم البحر، فقد انتهى بهم إعراضهم عن منهج الله مع موسى عليه السلام، انتهى بهم ذلك إلى حالةٍ جعلتهم تحت حوافر البهائم والأنعام، مقامهم هكذا، يخرون سجداً لعجلٍ صنم، لعجلٍ جسد لا روح فيه، عبدوا العجل من دون الله، ليتهم عبدوا شيئاً كبيراً، شيئاً عظيماً، شيئاً له قيمة، أما أن يخر الإنسان ساجداً تحت حوافر عجلٍ بهيمٍ فهذا من سوء الارتكاس وهذا من سوء العاقبة نعوذ بالله منها.
 
ثم بعد ذلك عرض الله تعالى على هذه الأمة صورةً مهيبةً مرعبة من يوم القيامة وما يكون فيها من أحداثٍ وأهوال حين ينسف الله الجبال نسفا فيزرها قاعاً صفصفا لا ترى فيها عوجاً ولا أمتا، حين ينسق الناس وراء من يدعوهم لا يملكون اختياراً ولا تمنّعاً كما كانوا يعاندون في الدنيا، يوم القيامة يدعوهم داعيهم فينساقون كالأنعام وراءه، إلا أن يلقى مصيرهم عند الله عز وجل، يوم أن تخشع الأصوات كلها للرحمن فلا تسمع إلا همساً، وتعنوا الوجوه للرحمن ولا يظلم الله أحداً، وهكذا موقف في منتهى المهابة.
 
ثم يعرض الله تعالى ويذكِّر هذه الأمة الخاتمة بأول درسٍ في الدنيا، لكل الأمم ولكل البشرية، ذلكم الدرس الذي طبقه الله على آدم عليه السلام حين أسكنه الجنة وعلمه أن الجنة كلها حلال إلا هذه الشجرة، فأنت يا إنسان يا بني آدم أنتم في الدنيا بين الحلال والحرام مختبرون، سعادتكم أن تأخذوا الحلال الواسع الكثير وأن تتركوا الحرام القليل، من سلك هذا الطريق نجى ومن وقع في الحرام فقد منع نفسه من الخير، عكر سعادة حياته، ولا يكون ذلك في الإنسان إلا بإغواء من الشيطان كما فعل إبليس ووسوس لآدم.
 
ثم ذكَّر الله بالقانون الذي قننه بعد هذه القصة حيث كانت في كل موضعٍ من مواضعها يذكِّر الله تعالى بها، فيقول ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى ﴾ فإما في أي وقت، في أي مكان، يأتيكم مني هدىً ورسالة فاتبعوها، خذوا بها، اعتصموا بها، ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾، فهذا مصير من اتبع وذاك مصير من تكبر وترفَّع.
 
وتنتهي السورة بربط آخرها بأولها، وهذا هو هدف السورة، بعد هذا العرض الجميل وهذه الموضوعات نجد في أول السورة، آياتٍ تعلن أن منهج السعادة في القرآن، وحين نقول القرآن فلنعلم أنه القرآن والسنة، والسنة شارحةً للقرآن لازمةٌ له ذُكرت أم لم تُذكر فهي معتبرةٌ في الأذهان لصيقةٌ بالقرآن، فمنهج السعادة في ذلك القرآن بما يشرحه من السنة ويبيِّنه.
 
﴿ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ﴾ يا رجل، يا إنسان، أيتها الإنسانية، أيتها البشرية في كل مكانٍ في كل زمان، ﴿ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلا ﴾ أي ما أنزلناه إلا ﴿ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى ﴾ لمقدر عواقب الأمور وقيمتها.
 
وفي آخر السورة الله تبارك وتعالى يعطي مثل المنهج التطبيق، كيف نسعد بالقرآن، كيف نسعد بالقرآن الكريم في حياتنا الدنيا ونوفر سعادةً للآخرة، يقول تعالى ﴿ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى * وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ﴾، ثلاث آيات جامعات، من تبعها سعد في دنياه وأخراه، ﴿ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ ﴾ يعني لا يصرفك إيذاء الكفار عن التمسك بدينك، مهما آذوك، مهما قالوا عنك أو عن دينك، أو عن قرآنك، أو عن نبيك صلى الله عليه وسلم، أو حتى عن ربك، فلا تصدقهم في شيء فهم أعدائك، هم أتباع الشيطان في حياتك اصبر على ما يقولون، تصبَّر واثبت على دينك، وانشغل بالتسبيح والتسبيح خضوعٌ لله تعالى وذكرٌ لله تعالى وطاعةٌ لله تعالى، يطلق التسبيح على كل ذلك وعلى غيره من تعظيم الله عز وجل وتنزيهه، ﴿ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ﴾ فطلوع الشمس أول النهار وقبل غروبها أول الليل، وفي اللغة العربية يطلق الجزء ويراد الكل، فذكر الله أول النهار وأراد النهار كله أي وسبح بحمد ربك طول النهار، وقبل غروبها أي طول الليل، وخاصةً هذين الوقتين، لو نسيت طول النهار فلا تنس أوله، ولو نسيت طول الليل ونمت فلا تنس أوله، سبح بحمد ربك أول الليل وأول النهار خاصة وطول الليل وطول النهار بشكل عام، ﴿ وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ ﴾ أي من أطرافه فسبح أيضاً ﴿ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى ﴾، أثناء الليل وأطراف النهار سبح أيضاً فيها لله، إذاً أمر الله بالتسبيح في هذين الوقتين وبالليل والنهار عموماً، وكانت للنبي صلى الله عليه وسلم أذكارٌ في الصباح وأذكارٌ في المساء وأذكارٌ في اليوم والليلة اسمها أذكار الأحوال، ويسميها البعض ذكر اليوم والليلة[11]، في كل حالٍ يتحول إليها يسبح الله بتسبيح ويذكر الله تعالى بذكر، إذا دخل بيته أو خرج، دخل الخلاء أو خرج، دخل المسجد أو خرج، لبس ملابسه أو خلعها..
وهكذا، إذا تعب، إذا نزل، كل ذلك كان فيه ذكرٌ لله تعالى، فكان عليه الصلاة والسلام يذكر الله على كل أحواله، ووصف الله المؤمنين أولي الألباب بقوله: ﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ﴾ وهذه كل أحوال الإنسان فليست له حالةٌ رابعة، إما أنه قائم، وإما أنه قاعد، وإما أنه راقد، وليست هناك حالةٌ رابعة فوق ذلك، فكأن المؤمنون أيضاً من أوصافهم الجميلة التي أثنى الله تعالى عليهم بها أنهم يذكرون الله تعالى في جميع أحوالهم.
 
ثم يبيِّن الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم ولكل إنسان من وراءه، طه، يا رجل، يا إنسان، بدءاً بأشرف الإنسانية وانتهاءً بآخر هذه الأمة، يقول الله ﴿ وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ﴾، لا تمدن عينيك لا تنظر نظرة إعجابٍ وانبهار بما متعنى به أزواجاً أي أصنافاً منهم – من الكافرين – تغريك حياة الكافرين، نظيفة جداً ما شاء الله، منتظمة، عندهم كذا، فيهم كذا، لهم كذا، لا تغتر بهذا، لا تغريك تلك الحياة، إنهم يتقلبون في الأموال، أثرياء جداً، عندهم أموال كثيرة، عندهم كذا، لا يغريك هذا ﴿ وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ ﴾ أي أصنافاً منهم، لماذا؟ لأن هذا كله ذلك الذي بين أيديهم ﴿ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا ﴾ زهرة، وتعلمون أن لشجرة لها زهرةٌ ولها ثمرة، والزهرة قد تنتج من بعدها ثمرة وقد تسقط مع الرياح فلا تثمر الشجرة، والزهرة أياً كانت فهي كالوردة الصغيرة تتفتح ابتهاجاً بقدوم الثمرة ثم سرعان ما تنطفئ، سرعان ما يذهب ريحها وسرعان ما تتساقط أوراقها، ولاحظوا هذا في الأشجار، الزهرة غير الثمرة فكأنما في أيديهم هذا متاعٌ قليل، متاعٌ عاجل يذهب من أيديهم بسرعة كسرعة ذهاب الزهرة من شجرتها، ولكن أن تتابع هذا في أي شجرة مزهرة، وأقرب ما نراه اليوم، زهرة الليمون والأشجار تزهر في هذه الأيام، فمن كان في جواره شجرة مزهرة فلينظر في زهرتها كم تدوم، وكم تبقى؟ لا بقاء لها، ﴿ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا ﴾.
 
ثم رغم أنها زهرةٌ عاجلة إلا أنهم مسئولون عنها ومختبرون فيها ﴿ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ﴾، ولو يعلم صاحب المال كم يسأل عن ماله يتمنى أن يأخذ الله ماله ولا يترك له إلا حد الكفاف، فهو سيسأل عن كل هذا، ونعم المال الصالح للرجل الصالح أما أن يكون مالٌ مع كافر فيا ويله من ماله، وتكفي تلك الحسرة حين يفاجأ يوم القيامة بأنه أخذ كتابه بشماله فينادي ﴿ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ ﴾ كان له مال كثير ولكنه أين الآن؟ ذهب، تركه حين مات ولم يستعده ولم يسترجعه حين بُعث، فقده في أعز أوقات الحاجة إليه كسندٍ وقوت لم يجده، ﴿ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ﴾ فيقول الله تعالى ﴿ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ﴾.
 
ما أشد حسرته عند هذا الموقف وقبله كذلك، ﴿ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ ﴾ يا محمد عليه الصلاة والسلام يا نبي الله، ورزق ربك يا كل إنسان في هذه الأمة، ورزق ربك يا طه، ليس النبي عليه الصلاة والسلام فقط إنما كل رجل، لا تصلّ على طه وإنما صل على رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقد تعودنا على هذا خطأً ولا ندري من طه، إنما هي كلمةٌ تعني رجل، رزق ربك لك في هذا السياق في سورة طه ألا وهو القرآن ﴿ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ﴾، ألا وهو منهج الله عز وجل في هذه الحياة، هذا الرزق ﴿ ورزق ربك خيرٌ وأبقى ﴾، وقال الله تعالى في آيةٍ أخرى ﴿ قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خيرٌ مما يجمعون ﴾ هو أي القرآن، قال المفسرون: المقصود بهذه الآية القرآن[12]، افرحوا بالقرآن أن الله أنزل عليكم قرآناً، وأن الله فصَّل لكم كتاباً، وأن الله بلغكم رسالة، افرحوا بهذا جيداً فهو خيرٌ مما يجمع الناس من ذهب الدنيا وفضتها وزخرفها مهما كان.
 
﴿ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾، والله تعالى قال في سورة الكهف وقد سبقت منذ قريب: ﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ ﴾ أي من المال والبنون ﴿ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ﴾، وقال بعض المفسرين: الباقيات الصالحات كلماتٌ طيبات، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله[13]، هذه الكلمات التامات، هذه الباقيات الصالحات خيرٌ للواحد منا من ماله مهما عظُم ومن ولده مهما كان، وكذلك ﴿ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾، ولكن طبق منهج الله، وعش بأوامر الله، وأمر أهلك بالصلاة، والأهل هي الزوجة أولاً والأولاد ثانياً، واتفقوا في المعاني المجازية أهلك هم صحبتك ومن حولك، الذين تطمئن إليهم وتُسِر إليهم، فكن داعي خير بين جماعتك في الأسرة، في العائلة، في الصحبة، في العمل، ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ﴾، الدعوة تحتاج إلى صبر فلن تجد استجابةً من أول مرة تدعو فيها، فهذا يراوغك وهذا يجادلك وهذا يحاجك وهذا يتمنع عن كلامك، وربما هذا يسيء إليك، مالك ومالي قل لنفسك أنت..
وهكذا يرد عليك ردّاً يستفز النفس ويثير القلب ويضيق الصدر، اصبر واصطبر ﴿ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ﴾، وكأن ربنا سبحانه وتعالى يأمرنا بأن نعمل في الدعوة ونحرص عليها أكثر من حرصنا على الدنيا؛ لأن الدنيا رزقٌ محسوب وخيرٌ معدود، الله تعالى تكفَّل به، فليس فيها سعيٌ وجريٌ وهمةٌ عالية، لا تحتاج؛ لأنها مضمونة، ﴿ لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ ﴾، ومستقبل الأولاد ومستقبلي ﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ﴾ أمِّن على أولادك وعلى أهلك وعلى نفسك بتقوى الله، ﴿ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ﴾ فخيرٌ من أن تؤمن على حياتك أو حياة أولادك في شركة تأمين أهلية كن مع شركة التأمين الإلهية، هذه أضمن، هذه أعظم، هذه أثبت، هذه أوثق، هذه أحل، هذا حلالٌ وذاك حرام، كما نبه على ذلك العلماء الأعلام.
 
أحبَّتي الكرام، هذه سورة طه بهدفها تدعونا وتدلنا على منهج السعادة في الدنيا والآخرة، وبعد أن أعلنه الله في البداية ووضحه في خاتمة السورة، في خلال السورة نبَّه على أثر اتباعه وأثر الأعراض عنه، فقال ﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ﴾.
 
وسورة طه بهذا الموضوع وبهذا التركيز على القرآن قد ارتبطت بسورة مريم قبلها وأخذت منها طرف الحديث، فقبل الآية الأخيرة في سورة مريم يقول الله تعالى: ﴿ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ ﴾ يسرنا القرآن بلسانك يا نبي الله، ﴿ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا ﴾، وأول سورة طه ﴿ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ﴾، وبهذا تترابط سور القرآن كلها كالعقد المنظوم.
 
وفقنا الله وإياكم لما فيه الخير، وجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أقول قولي هذا وأستغفر الله تعالى لي ولكم، فاستغفروه دائماً إنه هو الغفور الرحيم.
♦♦ ♦♦ ♦♦
 
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد فأوصيكم عباد الله بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، وأحذركم ونفسي عن عصيانه تعالى ومخالفة أمره، فهو القائل سبحانه وتعالى ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
 
أما بعد:
أيها الإخوة الكرام، فتلك سورة مباركة سورة طه سورةٌ مكية، السورة التي اشتملت أركان العقيدة بتركيزٍ عظيم وخاصةً على عنصر القرآن كمنهج سعادة في الدنيا والآخرة، وآخذت هذا الحديث بطرفٍ مع سورة مريم لترتبط بها وتمتد بعدها، فما أجود القرآن وأعظمه وما أحكم من تكلم به وأنزله سبحانه وتعالى.
 
وفي هذه الخطبة الثانية أعلق على أمرٍ مهمٍ وهو ما شاع بين الناس من أن نبينا صلى الله عليه وسلم اسمه طه، فقد ضعَّف العلماء هذا الحديث ولم يصح بحديثٍ صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تسمى بهذا الاسم، فما شاع في هذه الآونة الأخيرة من بعض المتصوفة، ربما يكون محبّاً للنبي صلى الله عليه وسلم لا نسيء الظن بالناس، ولكنه أفرط في المحبة أكثر من اللازم حتى جعل للنبي صلى الله عليه وسلم تسعةً وتسعين اسماً، فمحبته للنبي صلى الله عليه وسلم – إن كان محباً حقّاً – أوقعته في الشرك فراح يجعل له تسعةً وتسعين اسماً مثل الله، والله تعالى قال عن نفسه في القرآن: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾، ولماذا هذه الزيادات والمبالغات هذا كله لم يصح، إنما للنبي صلى الله عليه وسلم أسماء معلومة محددة، قال فيها عليه الصلاة والسلام في حديثٍ رواه مسلم استفتحت به الخطبة قال: "أنا محمد" صلى الله عليه وسلم، "وأنا أحمد" عليه الصلاة والسلام، وأحمد أبلغ من محمد، هو عندنا محمدٌ وعندهم أحمد، عند أهل الكتاب؛ لأنهم حمدوا عيسى أيضاً حمداً رفعه عندهم إلى مرتبة ابن الإله وعند بعضهم أيضاً إلى مرتبة الإله، فهو الرب المخلِّص، يعتقدون في عيسى ذلك، فحين ذكر الله نبينا عندهم صلى الله عليه وسلم وفي كتابهم وفي بشرى عيسى عليه السلام، ذكره باسم أحمد إشارةً إلى أن عيسى نبيكم وهو آية الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه، وهو معجزةٌ في الخلق وهو..
وهو، عظيم الفضل ولكنه محمودٌ أما نبي آخر الزمان فهو أحمد منه عند الله، عليه الصلاة والسلام، وقد ظهر ذلك في فضائل وخصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أوتيها من فضل الله ولم يعطها نبيٌّ قبله وهي كثيرة، منها "وجعلت الأرض لي مسجداً وتربتها طهوراً، وأُحلت لي الغنائم ولم تُحَل لنبي قبلي"[14]، وأخذه الله ورفعه بالإسراء والمعراج، وليلة الإسراء أحيا الله له الأنبياء وصلى بهم إماماً، فكان إمام المرسلين جميعاً[15]، ونص القرآن على أنه خاتم النبيين، والخاتم هذا هو الموثق لما قبله، والمحقق لما قبله، والورقة إن لم يكن عليها خاتم أي ختمٌ فلا قيمة لها، فمجيء النبي عليه الصلاة والسلام تصديقٌ على مجيء ووجود الأنبياء والمرسلين من قبله، فإن كان عند أصحابه محمداً فهو عندكم يا أهل الكتاب اعلموا أنه عند الله أحمد، وينبغي أن يكون عندكم كذلك أحمد من عيسى عليه السلام ﴿ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ﴾.
 
"وأنا الماحي يمحوا الله بي الكفر" عليه الصلاة والسلام، اسمه الماحي لأنه يمحو الله به الكفر وقد حدث ودخل العالم كله في الإسلام يوماً من الأيام لولا ما كان من الكافرين ﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ ﴾ وما كان من المسلمين الذين تخاذلوا عن نصرة دينهم، فوصل الحال إلى ما نحن عليه اليوم، لكن يوماً من الأيام كان الإسلام يعم العالم، وكان دينٌ للجميع في كل البلاد.
 
"وأنا الحاشر" عليه الصلاة والسلام "يحشر الناس على قدمي يوم القيامة" لأنه إمام الناس يوم القيامة جميعاً، "وأنا العاقب" صلى الله عليه وسلم، والعاقب والعقب هو المؤخرة، آخر شيء، "وأنا العاقب" وفي روايةٌ أخرى تشرح هذه الكرامة: "فلا نبي بعدي"، انقطع الوحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة.
 
هذه أسماؤه عليه الصلاة والسلام، أما أوصافه فكثيرة قل فيها ما تشاء، أوصافه عظيمة، صفه ولا حرج بكل كمالٍ بشري، بكل فضيلةٍ إنسانية، صفه عليه الصلاة والسلام ولا تخش شيئاً وإن لم يكن معك نصٌ من القرآن ولا السنة، وإن لم يكن هذا لوصف وارداً، ولكن يكون يقيناً وصف كمال بشري، وصف جلال، وصفاً طيباً، فقد جمع الله فيه الفضائل كلها والطيبات كلها، ما من خلقٍ حسنٍ إلا وهو فيه عليه الصلاة والسلام.
 
فهذه أسماؤه وله أوصافٌ كثيرة، أما أن نحدد له أسماء تسعة وتسعين اسماً فهذا افتراء، أما أن تسميه طه أو يس أو ما إلى ذلك ونسمي أولادنا على هذا تشبهاً بالنبي عليه الصلاة والسلام، فهذا غير صحيح، ومن سمى ولده على هذا فلا حرج عفا الله عما سلف وحسنت نيته فنسأل الله أن يأجره ويصلح له ولده على نيته، لكن في القادم والقابل من أعمارنا وأولادنا نعلم هذا، سمي محمداً، سمي أحمد..
وهكذا، سمي بأوصاف النبي عليه الصلاة والسلام، فإنه أبو القاسم وأبو إبراهيم عليه صلاة الله تعالى وتسليمه.
 
أحبَّتي الكرام، ملاحظةٌ أخرى تهدينا إليها سورة طه وفيها الكثير والكثير، في الآيات التي اتخذناها من آخر السورة ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ﴾، كما قلت كلمة الأهل تطلق أولاً على الزوجة فهي أصل الأهل، يبدأ الإنسان بزوجةٍ ثم تنجب له بعد ذلك، أما أهله السابقين فلا أمر له عليهم، لا على أبيه ولا على أمه، ولا على أخوته وأبوهم موجود وهكذا، إنما أهلك الذين ينبغي أن تقترن بهم، الزوجة الصالحة، كثيرٌ من الرجال يشتكون من عصيان الزوجات وأنها لا تصلي، لا تلبس الحجاب، لا ترضى بكذا، يردها على الخير وهي تأبى عليه، وقد استنفذت كل الوسائل في إصلاحها ولم تنصلح، أطلقها يا شيخ؟ لا تطلقها، قال النبي صلى الله عليه وسلم "لا يفرك مؤمنٌ مؤمنةً"يعني لا يسارع ولا يعجل بفراقها وطلاقها، "إن كره منها خلقاً رضي منها آخر"[16]، ويقول الله تعالى في هذا الشأن بخصوص الزوجات ﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ واصبر، اصبر على زوجتك، ولكن عالجها بالطريقة الحكيمة، خذها من القرآن من هذه الآية، إذ يقول الله تبارك وتعالى ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ ﴾ الصلاة ليست وحدها بل الأوامر الشرعية التي فرضها الله على المرأة، سيسأل الزوج عنها والأب كذلك، يسأل الزوج عنها يوم القيامة "كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته"[17].
 
ماذا أفعل؟ يأمره الله تعالى أن يأمرها بالخير، يكون في الكلام أسلوب الأمر، الدعوة فيها رائحة الشدة، في رائحة التهديد من بعيد بلطف حتى تُعظِّم كلامك وتحترم أمرك، ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ ﴾ ولكن في المقابل، في مقابل هذه القسوة التي نلمح بها ﴿ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ﴾، واصطبر أصلها واصبر ولكن زاد الله حرف الطاء ليطيل الصبر، اصطبر فلا تطلق ولا تيأس من الدعوة، لا هكذا ولا هكذا ولكن تحمل وامضي على أمر الله ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ﴾.
 
ومن الاصطبار أن نستعمل الحيل، طالما الإنسان صبر فيفكر، فكر تعمل حيلة، ومن الحيل في ذلك والتي أستقيها من الآية أنه يمكن للرجل أن يقعد يوماً وأياماً في البيت ليوهم زوجته أنه لن يخرج للعمل، خلاص أنا لن أشتغل، عملك يا أبا فلان، انزل للعمل ما بك أنت صحيح وسلم الحمد لله انزل العمل، قل لها أستحي أن أطلب من الله رزقاً وزوجتي في البيت لا تصلي، وزوجتي غير محجبة، وزوجتي تفعل كذا، كيف أطلب رزقاً من الله، سأقعد هنا حتى تصلي، حتى تتحجبي لن أترك البيت، الزوجة تحب زوجها جداً وتنتظر قدومه بفارغ الصبر، بالثانية قبل الدقيقة ولكنها تكره تماماً وتمام الكره أن يقيم معها يوماً كاملاً في البيت، وإن تحملت يوماً لا تتحمل اليوم التالي، لأن وجوده في البيت طول النهار يضيق عليها، هذه فطرة فاستعملها، قد يقول البعض ونحن فارغون، وراءنا أكل عيش، وراءنا أرزاق نجمعها، الله تعالى يقول لك ﴿ لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ﴾، كيف نأكل يا رب ومن أين؟ ﴿ نَحْنُ نَرْزُقُكَ ﴾ ومستقبل أولادي؟ ﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ﴾ وليست للأموال والكنوز والتأمينات وصندوق الزمالة وصناديق كذا وصناديق كذا، إنما اجعل لنفسك صندوق تقوى واملئه بالتقوى يبقى لأولادك من بعدك ﴿ وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ﴾.
 
أحبَّتي الكرام، هذه إشاراتٌ ولكن السورة فيها دروسٌ وعبر، نسأل الله تبارك وتعالى أن يرزقنا وإياكم منها ما يدفعنا إلى مرضاته، وما يبلغنا إلى جنته وصحبة نبيه محمد عليه الصلاة والسلام، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم افتح لنا من كنوز القرآن ما يرضيك عنا، وما يبلغنا رضاك، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، اغفر ذنوبنا، استر عيوبنا، أصلح عيوبنا، استر عوراتنا، آمن روعاتنا، آمنا في أوطاننا، أرخ لنا اقواتنا، وسع أرزاقنا، بارك لنا في أرزاقنا يا رب العالمين، اللهم بارك لنا في أوقاتنا وأقواتنا، وتقبل منا أعمالنا ووسع لنا في أعمارنا، برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميعٌ قريبٌ مجيب الدعوات ورافع الدرجات، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أعمارنا أواخرها، وأوسع أرزاقنا عند كبر سننا، وخير أيامنا يوم نلقاك يا أرحم الراحمين.



[1] أخرجه البخاري (4896) ومسلم (2354).


[2] أخرجه مسلم (2354).


[3] لم يثبت نصٌّ صحيحٌ في كون طه ويس من أسماء نبينا صلى الله عليه وسلم، قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله في "أضواء البيان" (4/ 3) "في تفسير سورة (طه): "أظهر الأقوال فيه عندي أنه من الحروف المقطعة في أوائل السور، ويدل لذلك أن "الطاء" و "الهاء" المذكورتين في فاتحة هذه السورة، جاءتا في مواضع أخر لا نزاع فيها في أنهما من الحروف المقطعة، أما "الطاء" ففي فاتحة "الشعراء" "طسم" وفاتحة "النمل" طس " .
وفاتحة "القصص" وأما "الهاء" ففي فاتحة "مريم" في قوله تعالى: ﴿ كهيعص ﴾ [مريم: 1].
وقال الشيخ السعدي رحمه الله في تيسير الكريم المنان (1/ 501) "﴿ طه ﴾ [طه: 1]: من جملة الحروف المقطعة، المفتتح بها كثير من السور، وليست اسماً للنبي صلى الله عليه وسلم".


[4] انظر: الطبري (16/ 103)، (22/ 97)، والجامع لأحكام القرآن (11/ 166)، (16/ 4).


[5] انظر: معاني القرآن وإعرابه، للزجاج: (3/ 349)، والتفسير الكبير، للرازي: (22/ 3).


[6] انظر: جمال القراء، للسخاوي: (ص:91).


[7] انظر: الإتقان (1/ 157).


[8] قال ابن القيم: "وأما ما يذكره العوام أن يس وطه من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم فغير صحيح، ليس ذلك في حديث صحيح ولا حسن ولا مرسل، ولا أثر عن صحابي، وإنما هذه الحروف مثل: الم و حم و الر، ونحوها" انظر: تحفة المودود بأحكام المولود (ص116، 117).
واختار هذا القول أبو حيان في البحر المحيط (6/ 224)، وابن عاشور في تفسير التحرير والتنوير (16/ 183)، وانظر: معجم المناهي اللفظية، بكر أبو زيد: (ص360).


[9] هي مكية كلها على قول الجمهور، واقتصر عليه ابن عطية وكثير من المفسرين.
اهـ التحرير والتنوير: (17/ 188)


[10] انظر: التحرير والتنوير (17/ 181).


[11] كالأذكار للنووي، وعدة الحصن الحصين لمحمد بن الجزري، وعمل اليوم والليلة للنسائي، ومثله لتلميذه ابن السنّي، وغيرها كثير.


[12] انظر: الطبري (15/ 107).


[13] انظر: الطبري (18/ 33).


[14] أخرجه البخاري (427)، ومسلم (810).


[15] أخرجه مسلم (172).


[16] أخرجه مسلم (2672).


[17] أخرجه البخاري (7138) ومسلم (1829).

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢