أرشيف المقالات

بيع النجش

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
2بيع النجش   النجش من البيوع التي استقلت السنة النبوية ببيانها وتفصيلها، والنجش معناه أن يمدح السلعة لينفقها ويروِّجها، أو يزيد في ثمنها، وهو لا يريد شراءها ليقع أو يوقع غيره فيها[1]، ولا شك أن ذلك لا يتوافق وطبيعة المسلم الذي يحب لأخيه ما يحبه لنفسه.   قال البهوتي رحمه الله[2]: النجش أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها، والنجش حرام لما فيه من تغرير بالمشتري وخديعته، ويثبت له - أي للمشتري - بالنجش الخيار إذا غبن الغبن المذكور.
وإذا كان عارفًا واغترَّ بذلك، فلا خيار له لعجلته وعدم تأمله، ولو كانت زيادة من لا يريد شراء بغير مواطأة من البائع لمن يزيد فيها، أو زاد البائع في الثمن بنفسه والمشتري لا يعلم ذلك لـوجود التغرير، فيخـير المشتري بين رد المبيع وإمساكه)[3].   فالحرمة وقعت من التغرير والخديعة بالمشتري، وكلاهما محرمان في ديننا الذي يقوم على العدل والنصح والأمانة، ولوقوع النجش صور مختلفة كما ذكرها ابن حجر رحمه الله، فقال: ويقع _ أي النجش _ بمواطأة البائع مع الناجش، فيشتركان في الإثم، ويقع ذلك بغير علم البائع، فيختص ذلك بالناجش، وقد يختص بالبائع كمن يخبر بأنه اشترى سلعةً بأكثر مما اشتراها به ليغر غيره بذلك.   الدليل على حرمة البيع الذي يدخله النجش؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النجش"[4].   ووجه الدلالة: أن النبي صلي الله عليه وسلم نهى عن النجش والنهي يقتضي التحريم.   وعن عبدالله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: "أقام رجلٌ سلعته فحلف بالله لقد أُعطي بها ما لم يعطها، فنزلت: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا ﴾ [آل عمران: 77].   قال ابن أبي أوفى: الناجش آكل ربا خائن"، ووجه الدلالة أن الله عز وجل حرَّم البيع الذي يدخله النجش من أي طريق قولًا كان أو فعلًا، وقد حذرنا نبينا صلي الله عليه وسلم من النجش؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (ولا تناجشوا)[5].   ووجه الدلالة: أن نهيه صلى الله عليه وسلم يقتضي عدم جواز بيع الذي يدخله النجش.   الحكم الشرعي: النجش حرام بالإجماع، لِما فيه من الخديعة والحيلة التي تفضي إلى أكل أموال الناس بغير وجه حق[6].   ومن الصور الحديثة للنجش المحظورة شرعًا: اعتماد الوسائل والطرق السمعية والمرئية والمقروءة وغيرها التي تذكر أوصافًا رفيعة لا تمثل في الأغلب الحقيقة، أو ترفع الثمن لتغر المشتري وتحمله على التعاقد[7]، وذلك يحصل فيما يسمي بكراسات الشروط التي تباع اليوم من قبل المزادات وإذا تمت المعاينة الواقعية تجد عند كثير من الشركات عدم مطابقة الواقع لما كان مذكورًا في كراسات المزاد التي بيعت من قبل وتم الشراء عليها.   وهذه الشركات التي تقوم بدور المنادي على الطرف الثاني الذي يجري التعاقد، فتعقد المزادات عبر الإنترنت والمواقع المعدة لذلك، أو عن طريق الهاتف، وتقوم مقابل ذلك بخصم مبلغٍ ماليٍّ نظير المشاركة في المزاد، أو الاستعلام عن مجرياته وشروطه، فلا ينبغي أن تعتمد هذه الشركات الخدمية في إيراداتها على ما تخصمه من هؤلاء، ولكن تأخُذ منهم مقابلًا يتناسب مع الخدمة التي يقدِّمونها بلا زيادة، فهذه المعاملة بالصورة المذكورة معاملة محرمة لقيامها على الميسر والغرر؛ حيث إن المشترك في المزاد يدفع لمجرد الاشتراك مبلغًا ماليًّا، وربما يكون مبالغًا فيه رجاء أن يشتري السلعة بأقل من قيمتها، ثم قد لا يحصل له هذا، فيضيع عليه ما دفع بلا مقابل، وهذا هو عين القمار والغرر، ولكي تكون هذه المعاملة معاملة شرعية يجب أن يقتصر ما يدفعه الراغب في دخول هذا المزاد على الثمن الفعلي للخدمات المقدمة له من شركة الاتصالات المعدة للمزاد[8].   ومن هذا القبيل أيضا أن رسوم المزاد التي تعقدها بعض الشركات عبر الإنترنت أو أي وسيلة مشابهة، لا تُدفع مرةً واحدة عند دخول المزاد، وإنما تُدفع كلَّما قام الفردُ بالمزايدة على السلعة التي يكون سعرها منخفضًا عادة، كما أن المزايدة لا تكون معلنة، ولا يلزم أن يكون المشتري هو صاحب العرض الأكبر، وبالتالي فإن هذه الشركة تعتمد في إيراداتها على الرسوم التي يدفعها المشتركون عند كل مزايدة، وعلى هذا فإن هذه المعاملة حيلة على أخذ أموال الناس بالباطل، ولا سيما وأنهم أخفَوا المزايدة والأصل إعلانها، وهي في الحقيقة ليست مزايدة، وإنما هي لعبة يخسر الكثيرون فيها رسوم اشتراكهم، ويربح فيها المنظمون لها بما يجنونه من رسوم الاشتراك، وكذلك من ترسو عليه؛ لأنه قد يأخذ السلعة بأقل من قيمتها، وهذا فيه شبه بالقمار؛ لأنها دائرة بين غنم السلعة وغرم ما تم الاشتراك به مما قد يفوق التكلفة الفعلية للدخول في تلك العملية، وإخفاء سوم المشتركين، وكون الفائز بها قد لا يكون الأعلى سعرًا ما هو إلا لتكثير الاشتراك والإكثار من السوم لتحصيل أكبر قدر من المال.   وقد نهى الشرع الحكيم عن النجش؛ لأن فيه تغريرًا للراغب في السلعة، وتركًا لنصيحته التي هو مأمور بها[9].   هذا والله تعالى أعلى وأعلم والحمد لله رب العالمين.


[1] النهاية في غريب الحديث للجزري، الناشر: المكتبة العلمية - بيروت، 1399هـ - 1979م؛ تحقيق: طاهر أحمد الزاوي (5/ 21). [2] هو صالح بن حسن بن أحمد: فرضي حنبلي مصري أزهري، وُلِدَ ومات في القاهرة، له (ألفية في الفرائض - خ) في الأزهرية جامعة للمذاهب الأربعة، سماها (عمدة الفارض)؛ شرحها إبراهيم بن عبدالله الفرضي، وسمى الشرح (العذب الفائض - ط) مع المتن، و(ألفية في فقه الشافعية)، و(نظم الكافي)، وتعليقات وحواش، والبهوتي نسبة إلى (بهوت) بالغربية بمصر وتوفي1121هـ؛ الاعلام للزركلي3/ 190. [3] كشاف القناع، ج3/ 311، دار الكتب العلمية بيروت - لبنان، الطبعة الأولى 1418 ه‍ - 1997م دار الكتب العلمية بيروت - لبنان. [4] البخاري، كتاب البيوع، باب النجش، ومن قال: لا يجوز ذلك البيع، 2/ 753، رقم الحديث (2035). [5] سنن ابن ماجه، كتاب التجارات، باب: ما جاء في النهي عن النجش، (ج3/ 533)، رقم الحديث ( 2171). [6] شرح صحيح مسلم للنووي (10/ 159) دار احياء التراث العربي، الطبعة الثانية،1392هجري. [7] مجلة مجمع الفقه الإسلامي، عدد 8، ج 2/ 169 - 170. [8] فتاوى الشبكة الإسلامية: (12/ 3525)، بترقيم الشاملة آليًّا. [9] معالم السنن للخطابي، المطبعة العلمية بحلب طبعة عام 1932، (3/ 718).



شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢