أرشيف المقالات

العقيدة الشعرية

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
8 للأستاذ أحمد خاكي يفرّق النفسيون في العصر الحديث بين الإيمان العلمي والإيمان الشعري.
أما الإيمان العلمي فهو الذي يقوم على قواعد المنطق من فرض واستنباط واستقراء، ومن إثبات القضايا أو نفيها.
إنه هو الإيمان الذي يقوم على الواقع قبل كل شيء، فهو يصدر عن الأشياء التي تقع في الحس، وهو الإيمان الذي قام على تثبيته أمثال بيكون، وديكارت وهو الذي أقام العلم والفلسفة بما واتى حياتنا المادية من تقدم.
أما الإيمان الشعري فيختلف عن ذلك كل الاختلاف، فهو يقوم على جملة من الآثار النفسية تثبت في نفس الفرد عن طريق العادة أو التخيل أو التصور؛ فهو لا يرتكز على حقيقة محسوسة ملحوظة، بل هو فيض خيالي مما تصوره الغريزة أو الرغبة أو الفطرة.
وهو بعد ذلك ضرب من اللعب إذا أحسن التعبير عنه كان فناً له خطره الإيمان العلمي هو إلي يدفعنا إلى درس النجوم وعلاقات بعضها ببعض؛ ولكن الإيمان الشعري هو الذي يحبب إلينا النظر إلى تلك النجوم.
الأول نتيجة لدراسة منطقية خارجة عن نفس الإنسان، أما الثاني فهو نتيجة لآثار العوامل الخارجية في نفس الإنسان.
الأول يمدنا بالقيم العلمية التي تكاد تثبت في كل زمان ومكان، والثاني بالقيم الأدبية أو الجمالية التي يختلف تقديرها باختلاف المقدَّر والزمان والمكان ولقد ازدهرت نظرية اللاشعور أو العقل الباطن في هذا القرن حتى أظهرت لنا نوعاً من العقائد الأدبية يعتنقها الشعراء في قرارة أنفسهم دون أن يحسوا بوجودها.
وأظهرت لنا كذلك أن الشاعر أو الأديب أو المتفنن قد يكون صاحب عقيدتين في وقت معاً: أولاهما علمية تتصل بحقائق الحياة، والثانية شعرية تتصل بالخيال.
وكان لهذه الفكرة خطر في النقد الحديث، لأنها قلبت أوضاع النقد، وثارت بالتقدير العلمي القديم، ونبهت النقدة إلى أن يتدسسوا في أطواء الشاعر حتى يروا معانيه التي كتبها بوحي من عقله الباطن دون أن يكون عليها سلطان من عقله الواعي.
وحسبنا من كل ذلك أن نثبت أن الأدب يقوم على هذه العقائد الشعرية، وأن اكمل الشعر هو الذي يصادف مثل هذه العقيدة الشعرية عند سامعيه أو قارئيه ويولد الإيمان الشعري مع خيال الطفولة، هو كذلك يميز عقلية الهمج.
ذلك بأنه يتصل بغرائز الفطرة الأولى: بالخوف والحب والعداوة والجنس.
فإذا تقدمت البيئة الأدبية إلى مرتبة عليا من مراتب المدنية استعلى المتفننون بذلك الإيمان الشعري فمثلوه تمثيلاً في النحت والتصوير والموسيقى والشعر وأطلق عليه الناس بعد ذلك اسم الفن.
وهو لذلك يميز الإنسان في أحط درجاته، ويميزه كذلك في عصور الفن الزاهرة.
فالإنسان الأول كان يقيم عفريتاً يعبده ليرضي خياله المفزوع، والإنسان المتمدن ما يزال إلى اليوم يصوغ امرأة من الذهب والعاج ليرضي رغبته الملحة.
والعفريت والمرأة كلاهما نتيجة لذلك الإيمان الشعري الذي ينكر الواقع ويعنو للخيال.
كلاهما يتفجر من نفس العين، ولو أن هذا قد هذب وذاك ما يزال في حاجة إلى التهذيب.
وكلاهما نتيجة غريزة من الغرائز: الأول نتيجة الخوف، والثاني نتيجة الحب الجنسي. وقد ذهب النقدة لذلك إلى أن الشعر ليس من شأنه حقائق الأشياء، وأن الحدود بين العلم والشعر ينبغي أن تكون ظاهرة لا يعتدي أحدهما على الآخر.
وليس عند هؤلاء شعراً ما يعالج قضايا منطقية، بل ليس شعراً ما يعرض لنواحي الخلق العام.
فإن آفاق الشعر لا تمتد إلى حيث ينبغي أن يبدأ النثر.
بل لقد أمعن الناقد الإنجليزي في ذلك حتى قال إن الكذب آية من آيات الشعر فالشعر من الوجهة النفسية يرتكن على الخيال لا على الواقع، والعقيدة الشعرية هي الحالة النفسية المثلى لعمل الشعر، وهي كذلك الحالة النفسية لاستيعابه. وإذا نحن حاولنا أن نطيق تلك المعايير النفسية على الشعر العربي وجدنا أنها تستقيم لحد كبير.
والأصل في التشبيه والمجاز والاستعارة أن تكون خداعاً نفسياً.
وليس الشعر شيئاً إلا إذا كان تشبيهاً ومجازاً واستعارة.
على أن شعراء العرب قد علوا عن تلك المرتبة الأولى من مراتب القصيدة الشعرية، وبعضهم قد تخيل فأنطق الجماد، وبعضهم قد تدله فصور المرأة تصويراً نفسياً دقيقاً.
وإليك بعد ذلك بعض أبيات لأبن خفاجة الأندلسي يصف فيها جبلاُ حتى ترى معي إلى أي حد تنطبق هذه القطعة على الواقع وإلى أي حد تنطبق على الخيال: وأرعن طماح الذؤابة باذخ ...
يطاول أحنان السماء بغارب يسد مهب الريح عن كل وجهة ...
ويزحم ليلاً شهبه بالمناكب وقور على ظهر الفلاة كأنه ...
طوال الليالي مفكر في العواقب يلوث عليه الغيم سود عمائم ...
لها من وميض البرق حمر ذوائب أصخت إليه وهو أخرس صامت ...
فحدثني ليل السرى بالعجائب وقال إلى كم كنت ملجأ قاتل ...
وموطن أواه تبتل تائب وكم مر بي من مدلج ومؤدب ...
وقال بظلي من مطي وراكب ولاطم من نكب الرياح معاطفي ...
وزاحم من خضر البحار غواربي فما كان إلا أن طوتهم يد الردى ...
وطارت بهم ريح النوى والنوائب فما خفق أيكي غير رجفة أضلع ...
ولا نوح ورقي غير صرخة نادب وما غيض السلوان دمعي وإنما ...
نزفت دموعي في فراق الصواحب وأحسب أن كل بيت من هذه الأبيات جدير بالتقدير.
وهي جميعاً تكون وحدة جمالية لها أثر كريم في النفس.
على أنها لا تنطبق على الواقع إلا قليلاً.
فإذا أنت حاولت أن تتأثر عنصر الحقيقة من هذا الشعر لم تجد من هذا البيت وذاك البيت إلا أنه كان جبلاً عالياً مر كثير من الناس به في أيامه الخوالي.
أما الجبل الذي يسد مهب الريح والذي يعتم عمامة سوداء من النسيم لها ذؤابات حمر من البرق؛ هذا الجبل الذي يسكن فيفكر، ويتحدث فيتفلسف، والذي ترجف ضلوعه من الأسى، وتذرف دموعه من الوجد؛ ذلك الجبل ما هو إلا خيال سام يصور الواقع لكنه فوق الواقع؛ وهو هو الذي نسميه شعراً وإنما تمتاز هذه القطعة من الشعر بالجمال لأن فيها وحدة تسوي بين أجزائها جميعاً، وفيها كذلك علو بالخيال من بيت إلى بيت، فهي تبدأ بشيء كالواقع لكنها تنتهي بشيء كالخداع.
على أنك تستطيع أن تقدرها إذا كنت في حالة نفسية خاصة، حالة نفسية تعترف بإيمان الشعر أو بالخداع أو بالخيال (سمه ما شئت) لكنك لا تستطيع أن تقدرها إذا أنت وقفت بين البيت وبين البيت تحاول أن تتشكك في صدق المعاني وتحاول أن تنكر على الجبل أن يتكلم أو على الغيم أن يكون عمامة أو على الأيك أن يكون ضلوعاً على أن ذلك الإيمان الشعري يمتلك النفس أكثر ما يمتلكها عند قراءة القصة أو عند مشاهدة الرواية المسرحية أو عند قراءة ملحمة طويلة في الشعر.
فإذا أنت ذهبت إلى المسرح لتشهد (هاملت) أو (سان جان داراك) فلست بمدرك ما في كل ذلك من الجمال إلا إذا وهبت نفسك لتلك العقيدة الشعرية.
وربما علمت أن (هاملت) لم تحدث في التاريخ، وأن بعض وقائعها قد يكون محالاً، وأن شبح الملك المقتول الذي يظهر فيها إن هو إلا ابتكار أتى به الخيال؛ ربما علمت كل ذلك ولكن أحسبك لا ترضى - وأنت مأخوذ بسورة الجمال - عن إنسان يحاول أن يقول لك إن هاملت لم تحدث وإنها كلها لغو من عمل الخيال.
ذلك بأنك تحاول وأنت تشاهدها أن تمارس ذلك الخيال ممارسة شعرية فيحلو لك أن تنسى عقيدتك العلمية، ويحلو لك أن تؤخذ أنت بالعقيدة الشعرية وأن تخدع لأن ذلك الخداع في نفسه جميل.
وهذا هو الذي يحدث بين جنوبنا حينما نبكي عند رؤية المأساة، وهو الذي يضحكنا عند مشاهدة المهازل والمباذل على الستار الفضي يروى عن سيدة أنها كانت تشاهد (عطيل) على المسرح.
وحينما مضى الفصل الأول والثاني وجاء دور الوقيعة التي قام بحبكها ياجو تأثرت السيدة تأثراً شديداً لأنها رأت أن ياجو يغرر بعطيل تغريراً.
فصاحت بعطيل: (إن هذا الملعون يخدعك أيها الأسود الغبي) وفعل مثل ذلك أحد النظارة حينما رأى القوم يأتمرون بيوليوس قيصر، فقد حاول أن يطلع قيصر نفسه على سر المؤامرة.
ومثل السيدة والسيد كثير بيننا.
بل في الحق أننا جميعاً مثل ذلك لأننا نكون مأخوذين بنوع من أنواع الخداع حينما نشاهد القصة المسرحية ومثل ذلك يقال عن القصص الأخرى والروايات وعن الملاحم الشعرية الطويلة، فعلى قارئ هؤلاء أن يكون له من الإيمان الشعري ما يطوع له أن يرى نواحي الجمال فيها وما يستطيع به أن ينكر الواقع وأن يحسب الخيال واقعا.
وفي الحق أن هذا أظهر ما يميز البيئات الأدبية التي ازدهرت فيها القصص المسرحية والشعر والروايات الأدبية الأخرى.
والقصيدة الشعرية هي التي تفسر لنا كيف كان الناس يؤمنون أيام شيكسبير بتلك القصص التي صاغها للمسرح مع ما في أكثرها من خروج عن جادة المنطق السليم.
بل نحن لا نستطيع أن نفهم رجلاً كشيكسبير إلا إذا قدرنا غرام بيئته بالشعر المسرحي وبالقصة المسرحية.
ولا يمكننا أن نقدر كل ذلك حتى نزن عقائدهم الشعرية وفي الحق أن شيكسبير قد أفلح في خلق مسرحياته لأن القصيدة الشعرية ملكت نفوس الناس في عهد اليزابيث.
كان هؤلاء هم الذين يدفعون المال ليشهدوا المسرحيات، وكان هؤلاء عاملا هاما من عوامل الإخفاق أو النجاح.
ولقد تميز هذا الجيل في تاريخ إنجلترا بأنه كان يؤمن إيماناً شعرياً عميقاً بما يلقى عليه حتى لقد كان يتذوق الشعر ويستوعب قصص المسارح.
وكذلك يمتاز رواد السينما في العصر الحاضر بتلك العقيدة الشعرية.
والمسرحيات وروايات السينما في نفسها تقوم على خداع العقل وخداع النظر وخداع السمع، لكن شيئاً منها لن يصح في روع الناظر أو السامع حتى يكون له قدرة على الإيمان الشعري. أحمد خاكي المدرس بدار العلوم

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣