أرشيف المقالات

ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
2ليس الكذَّابُ الذي يُصلح بين الناس [*]   عن أمِّ كلثوم بنت عُقبة بن أبي مُعَيط رضي الله عنها، قالت: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ليس الكذَّابُ الذي يُصلح بين الناس، فيَنْمي خيرًا، أو يقول خيرًا))؛ قالت: ولم أسْمعْه يُرَخِّص في شيءٍ مما يقوله الناس إلا في ثلاثٍ: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأتَه، وحديث المرأة زَوْجَها"؛ رواه الشيخان[1].   المفردات: نَمَى الحديث: ينميه (بالتخفيف)، بلَّغه على وَجْه الإصلاح والخير؛ ونمَّاه ينمِّيه (بالتشديد فيهما): بلَّغه على وَجْه الإفساد والشر، و((أو)) للشكِّ من الراوية في أيِّ اللفظين قال النبي صلى الله عليه وسلم، وهي تدل - كما قلنا في أمثالها - على العناية والضبط، وتحرِّي ألفاظه صلوات الله وسلامه عليه، وفي هذا أبلغ ردٍّ على من يزعم أنَّ الأحاديث المروية بألفاظها قليلة معدودة.   أهمية الإصلاح بين الناس: أمرٌ عظيم الشأن، جليل الخطر، أعظمَه العرب في الجاهلية، ورفع النبيُّ صلى الله عليه وسلم مكانه في الإسلام؛ ذلك هو الإصلاح بين الناس.   طبائع الناس متفاوتة، ورغباتهم متضاربة، وأهواؤهم شتى، فلا جرَم أنهم يتنازعون ويتقاتلون ما بقي على ظهر الأرض نفسٌ منفوسة: ﴿ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾ [هود: 118، 119].   آثار الخلاف في الأسر والجماعات: وغنيٌّ عن البيان ما تنطق به الشواهدُ، وما تكشف عنه الحوادثُ من آثار الخلاف في الأُسر والجماعات، والأحزاب والأمم.   إنَّه ليقعُ في الأسرة الواحدة بين الزوجين أو بين الأخوين، فيُظلم البيت، وتُقطع الأرحام، وتُشرَّد الأطفال، وتَسوءُ الحال.   وإنه ليقع بين الجارَيْن أو الشَّريكين أو الصاحبَيْن، فينصرم حبل المودَّة، وتنفصم عُروة المحبة، ويَغْلي مِرْجَل العداوة والبغضاء؛ وكفى بذلك تنغيصًا للعيش، واضْطرابًا في الحياة!..   وإنَّ الخلاف ليكون - وما أسوأ ما يكون - بين الأُمَّتين أو القُطْرين، فيسوء الجوار ويعمُّ الدمار، وتشتعل نار الحرب التي تُهلك الحَرْث والنَّسل، وتأتي على الأخضر واليابس، فلا تأبى أن تَحصُد شيخًا فانيًا أو طفلًا باكيًا!   إزالة آثار الخلاف: وإذا كان الخلاف في أغلب أحيانه شرًّا لا بدَّ منه، وداءً لا محيصَ عنه، فمِن رحمة الله بعباده، وقد ابتلاهم به - وله الحكمة البالغة - أن يرشدهم إلى دواء يَطِبُّه، فيزيل سَوْرته[2]، ويُخفِّف وَطْأته، إنْ لم يَسْتأصل شأْفته، ويذهب به، وقد يُجري الله على أيدي الأُساة[3] من المُصلحين خيرًا كثيرًا، وغُنْمًا كريمًا، وآثارًا حميدةً.   من أجل ذلك نَدَب الله إلى الإصلاح، وحضَّ عليه في غير آية من كتابه، حتى قضى بأنه لا خير في كثير من كلام الناس ونجواهم: ﴿ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ﴾ [النساء: 114]، ورغَّب فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، حتى جعله أفضل الصَّدقات، وفضَّله على نوافل العبادات.   وروى الطبرانيُّ عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الصدقة إصلاح ذات البَين))[4].   وروى الترمذي وغيره عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أُخبركم بأفضل من درجة الصيام والصَّلاة والصَّدقة؟)) قالوا: بلى، قال: ((إصلاحُ ذاتِ البَيْن، فإنَّ فسادَ ذاتِ البَيْن هي الحَالِقة، لا أقولُ تَحلق الشعر، ولكن تحلق الدِّين))[5].   ومِن أوضح الدلائل على خطر الإصلاح، وجليل شأنه، وعظيم عناية النبي صلى الله عليه وسلم به - أن رخَّص في الكذب فيه، مع أن الكذبَ شُعبةٌ من شُعَب النفاق التي لا تجتمع هي والإيمان أبدًا.   والكذب في الإصلاح أن يُبلغ المُصْلحُ كلًّا من الخَصْمَيْن ما لم يَقُلْه صاحبُه؛ قَصْدًا إلى تأليف القلوب، وتقريبِ المودَّة؛ حتى يحلَّ الوئام محلَّ الخصام، والوفاق محلَّ الشِّقاق، وذلك من أسْمَى المقاصد التي جاءت بها الشرائع والأديان، وبُنيت عليها سعادة الإنسان.   وموضعٌ آخر رخَّص النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الكذب فيه، وهو حديث الرجلِ زَوْجَه، وحديث المرأةِ زوجَها، كأن يُثني كلٌّ منهما على صاحبه بما ليس فيه؛ توطيدًا لعقدة الزواج والأُلفة، وتوثيقًا لآصِرَة المحبة والمعاشرة...   وبعدُ، فلا بدَّ لهذا الترخيص الذي رخَّص النبيُّ صلى الله عليه وسلم من حكمةٍ سامية، ولا بدَّ لمن عرض لهذا الحديث - وهو حديثُ مَنْ لا ينطق عن الهوى - أن يحاول كشفَ القناع عنها؛ ليكون مِن هدي نبيِّه صلوات الله وسلامه عليه على بصيرة.   ذم الكذب وامتداح الصدق: لقد جاءت الشرائع والقوانين قاطبةً بذمِّ الكذب، وامتداح الصدق، مساوقة للفطرة، وموافقة للعقل، وأجمع الناس على ذلك قديمًا وحديثًا، حتى عدُّوا من أصدق القول وأحكمه ما قال ابن المقفَّع: رأس الذنوب الكذب؛ هو يؤسِّسُها، وهو يتفقَّدها ويُثبتها.   أما الإسلام فإنه لم يرفع مِن فضيلة كما رفع فضيلة الصدق، ولم يَشِن مِن رذيلةٍ، كما شانَ رذيلة الكذب، وحَسْبُكَ ما جاء في حديث الصحيحين عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: ((إنَّ الصِّدقَ يهدي إلى البرِّ، وإن البرَّ يهدي إلى الجنَّة، ولا يزال الرجلُ يصدق ويتحرَّى الصِّدق حتى يكتبَ عند الله صدِّيقًا، وإنَّ الكذبَ يهدي إلى الفجور، وإنَّ الفجورَ يهدي إلى النار، ولا يزال الرجلُ يكذب ويتحرَّى الكذب حتى يُكتب عند الله كذَّابًا))[6].   ..
فإذا كان هذا بعض ما جاء عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، في ذمِّ الكذب والتحذير منه، فكيف يُرخِّص فيه في هذه المواطن الثلاثة؟   مراعاة المصلحة: لقد بُني الإسلام على أُسس ثابتة، ومناهج محكمة، تكفُل لمن اسْتَمْسَك بها في جملتها وتفصيلها سعادةَ الآخرة والأولى؛ ذلك لأنه لم يقف - فيما أمر ونهى، وأحلَّ وحرَّم - موقفَ التنطُّع والجمود، ولم يذْهَب مذهب السَّرَف والمغالاة، وإنما سار على المصلحة أنَّى كانت...   الكذب حرام إلا لضرورة ملحة أو رخصة مسوَّغة: وبينما هو يخفض شأن الكذب إلى أن يجعله رأس الرذائل، تراه يُحلُّه، بل يوجبُه إذا أدَّى إلى حَقْن دمٍ مَصُون، أو حفظ حقٍّ واجب.   فإذا كانت عند امرئ وديعةٌ وأراد الظالم أن يغتصبها، أمكنَ الكذب في إخفائها، ولو حَلَفَ في سبيل ذلك؛ إعظامًا للدماء وصَوْنًا للحقوق، فالكذبُ حرامٌ إلا لضرورةٍ مُلِحَّة أو رُخصةٍ مُسوغة، ومن قواعد الشريعة: أنَّ الضرورات تبيح المحظورات.   تقدير المصلحة وتحديدها: غير أنَّ الإسلام لم يَدع للناس أن يُقدِّروا المصلحة، ويحدِّدوا الضرورة، وإنما تولَّى هو تحديدها، ونصَّ على مواضعها؛ لئلا يُترَك مجالُ التأويل فسيحًا، تتلاعب به الأهواء والشهوات.   للوسائل حكم الغايات: ومن المعروف: أن للوسائل حِكمَ الغايات، أمَّا الكذب بين الزَّوجَيْن في تقارض الود، وتبادل المحبة - لا فيما يُسقط حقًّا، أو يُفْضي إلى باطلٍ - فهو من وسائل السعادة الزوجيَّة التي توصي بها الأديان، ولا سيما دين الإسلام، ثم هو في جملته يرجع إلى الإصلاح، وإن شئت فقل: هو وقايةٌ للزوجين من الشقاق ومساوئ الأخلاق، والوقاية خيرٌ من العلاج.
وأما الكذبُ في الحرب، فهو في حقيقة الأمر ليس كذبًا؛ لأنَّ حال المُتحاربَين تنادي بألَّا يُصَدِّق أحدُهما صاحبَه، وإن كان صادقًا، وبأن يأخذ حَذرَه منه ما استطاع.   التحرُّز من الكذب بالتعريض والتورية: على أنه يَجمُل بمَن تحلَّى بفضيلة الصِّدق، ألَّا يألوَ جهدًا في التحرُّز من الكذب المُرَخَّص فيه، بالتعريض والتورية[7]؛ صَوْنًا للسانه عن الكذب الصُّراح..   ومن ذلك قول أبي بكر رضي الله عنه، وقد سُئل عن رفيقه وهو مهاجر مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ ذا؟ فقال: هادٍ يَهْديني السبيل[8].   ألا إنَّ الإصلاح بين الناس خَصْلةٌ من خِصال الشَّرف والمروءة، وخُلة من خِلال الفَضل والنُّبل، وجزءٌ من شرائع الأنبياء والمرسلين، بل هو عمادُ دعوتهم، وأساس رسالتهم.   وما أحوجَ هؤلاء البشر - وقد اصْطَخَبَتْ بينهم المعارك، واشتعلت فيهم نيرانُ الخصومة - إلى مَنْ يَنهج في إصلاحهم منهجَ النبيِّين، ويستارُ فيهم سيرةَ الصادقين المخلصين، ﴿ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ﴾ [فاطر: 17].


[*] مجلة الأزهر، العدد الأول، المجلد الثامن عشر (1366). [1] ورواه البخاري (2692) في كتاب الصلح، ومسلم (2605) في البرِّ والصِّلَة إلا أن قولها: ((ولم أسمعهُ يُرخِّص)) ...
إلخ مما انفرد به مسلم في إحدى روايات الحديث. [2] يَطِبُّه: أي: يداويه ويعالجه، والسَّوْرة: الغضب. [3] الأُساة: جمع آسي، وهو الجرَّاح والطبيب. [4] أخرجه عبد بن حميد في "مسنده" ص135، والبخاري في "التاريخ الكبير" 3: 295، والطبراني في "الكبير" - كما في "نصب الراية" 4: 355، والخرائطي في "مكارم الأخلاق" 1: 400، ومن طريقه القضاعي في "مسند الشهاب" 2: 244، والبيهقي في "الشُّعب" 7: 490 كلهم من طريق عبدالرحمن بن زياد بن أنعم، وهو ضعيف، وذكره الهيثمي في "المجمع" 8: 80، والسيوطي في "الجامع الصغير" 2: 349 وضعَّفه، وحسَّنه المنذري في "الترغيب" 3: 489 لحديث أبي الدرداء الآتي. [5] رواه أحمد في المسند 6: 445(27508)، وأبو داود (4919)، والترمذي (2509) وصحَّحه، وابن حبان (5070). [6] أخرجه البخاري (6094)، ومسلم (2607). [7] بأن يكون لكلامه معنيان يريدُ أحدهما وهو صادق فيه، ويفهم السامع المعنى الآخر وهو غير ما يريد (طه). [8] رواه أحمد 3: 122(12234) (13205) (14062)، وأبو يعلى (3486) كلاهما من حديث أنس رضي الله عنه، وهو حديث صحيح، انظر التعليق على "المسند" 19: 264و 21: 451.



شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير