أرشيف المقالات

تفسير سورة الأحقاف كاملة

مدة قراءة المادة : 26 دقائق .
2تفسير سورة الأحقاف كاملة [1]   الآية 1: ﴿ حم ﴾: سَبَقَ الكلام على الحروف المُقطَّعة في أول سورة البقرة.   الآية 2: ﴿ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ ﴾ إنما هو ﴿ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ ﴾ الذي لا يمنعه شيءٌ مِن فِعل ما يريد، ﴿ الْحَكِيمِ ﴾في أفعاله وأحكامه.   الآية 3: ﴿ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ أي ليَعرف العباد عظمة خالقهما فيعبدوه وحده، ويقيموا الحق والعدل فيما بينهم، وللدلالة على قدرته تعالى على البعث بعد الموت (لأنّ ذلك أهون عليه مِن خَلْق السماوات والأرض)، ﴿ وَأَجَلٍ مُسَمًّى ﴾ أي خُلِقَت السماوات والأرض وما بينهما بوقتٍ معلوم تفنَى عنده (وهو يوم القيامة)، ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ ﴾أي مُعرضونَ عما أنذرهم به القرآن، فلا يتفكرون في أدلته ولا يتعظون.   الآية 4: ﴿ قُلْ ﴾ أيها الرسول لهؤلاء المُشرِكين: ﴿ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ من الآلهة الباطلة ﴿ أَرُونِي ﴾يعني أخبروني ﴿ مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ ﴾ يعني أيُّ جُزءٍ خلقوه منها حتى يَستحقوا عبادتكم؟!، ﴿ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ﴾: يعني أم أنّ لهم شِركًا مع الله في خَلْق السماوات؟!، ﴿ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا ﴾ أي بكتاب مُنَزَّل من قبل هذا القرآن يَشهد لكم بصحة عبادة أصنام لم تخلق شيئاً!﴿ أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ ﴾: يعني أو ائتوني بأثَر مِن عِلمٍ صحيح - يُروَى عن أهل العلم السابقين - يدل على أن الأصنام تشفع لكم عند ربكم ﴿ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ فيما تزعمون.   الآية 5، والآية 6: ﴿ وَمَنْ أَضَلُّ ﴾ يعني: ومن أشد ضلالاً ﴿ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ ﴾ دعاءه ﴿ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ لأنها من الأموات أو الأحجار أو الأشجار، ﴿ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ﴾ يعني: وهذه المخلوقات غافلة عن دعاء مَن يعبدها، عاجزة عن نفعه أو ضره، ﴿ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ ﴾ يعني إذا جُمِعوا يوم القيامة للحساب والجزاء ﴿ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً ﴾: أي كانت هذه الآلهة المزعومة أعداءً لمن عبدها في الدنيا ﴿ وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ﴾ يعني إنها تتبرأ منهم، وتُنكِر عبادتهم لها.   الآية 7: ﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ﴾ أي على هؤلاء المُشرِكين ﴿ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ﴾ أي واضحاتِ الدلالة على حقيقة التوحيد والبعث والنُبُوّة: ﴿ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِين ﴾: يعني إنهم قالوا عن القرآن حين جاءهم: (هذا سحرٌ ظاهر) (وهم يَعلمون أنهم كاذبونَ في ذلك، فلقد اعترف لهم أحد رؤسائهم - وهو الوليدُ بن المُغِيرة - أنّ ما يَقوله السَحَرةُ شيئ، وأنَّ هذا القرآن شيئٌ آخر، وأنه ليس بكلامِ بَشَر (وذلك عندما سمع القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أجْبَره المُشرِكون بعد ذلك أن يقولَ للناس إنه سِحر).   الآية 8: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ﴾ يعني بل يقولون: (إنّ هذا القرآن قد افتراه محمد مِن عند نفسه)، مع أنهم يَعلمون أنه بَشَرٌ مِثلهم، إذاً فلماذا لا يأتونَ بمِثله كما تحَدّاهم؟! ﴿ قُلْ ﴾ لهم أيها الرسول: ﴿ إِنِ افْتَرَيْتُهُ ﴾ على اللهِ كما تزعمون ﴿ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ﴾: يعني فإنكم لن تقدروا أن تدفعوا عني شيئًا من عقاب الله لي، ﴿ هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ ﴾: أي هو سبحانه أعلم مِن كل أحد بما تقولونه في هذا القرآن من الأقوال الباطلة، ﴿ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ﴾ فشهادته لي بالنُبُوَّة هي ما أعطاهُ لي من المُعجِزات الباهرات (كانشقاق القمر وغيرها)، وكذلك وَحْيُهُ إليَّ بهذا القرآن الذي أُنذِرُكُم به، والذي لا يستطيعُ أن يقوله بَشَر، وأنتم تعلمون ذلك لأنكم أبْلغ البَشَر، ﴿ وَهُوَ ﴾ سبحانه ﴿ الْغَفُورُ ﴾ لمن تاب إليه من عباده، ﴿ الرَّحِيمُ ﴾ بهم، حيثُ جعل التوبة نجاةً لهم من عذابه.   الآية 9: ﴿ قُلْ ﴾ أيها الرسول لمُشرِكي قومك: ﴿ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ ﴾: يعني ما كنتُ أوّل رُسُل الله إلى خلقه، ولم آمُركم بشيءٍ جديد، فإنّ جميع الرُسُل قبلي قد دَعَتْ أقوامها إلى التوحيد، وأخبرتهم بحقيقة البعث بعد الموت، ﴿ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ ﴾: يعني ما أدري ما يفعله الله بي ولا بكم في هذه الحياة الدنيا مُستقبَلاً: (هل سأخرج من بلدي أو أقتل؟، أو تُقبَل دعوتي ويَنصرني ربي؟ وهل سيُعَجّل الله لكم العذاب في الدنيا أو يُمهلكم إلى عذاب الآخرة؟ أو يهديكم إلى الإسلام؟ لا أدري) ﴿ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ ﴾: يعني ما أتّبع - في أفعالي وأقوالي وفيما أبلِّغه للناس - إلا ما يُوحِيه إليَّ ربي، ﴿ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ ﴾ مِن عذاب اللهِ تعالى لأُخَوّفكم عقوبة الشِرك والمعاصي، ﴿ مُبِينٌ ﴾أي أُوَضِّح لكم ما أُرْسِلتُ به إليكم.   الآية 10: ﴿ قُلْ ﴾ أيها الرسول لهؤلاء المُكَذِّبين: ﴿ أَرَأَيْتُمْ ﴾ يعني أخبِروني ﴿ إِنْ كَانَ ﴾ هذا القرآن ﴿ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ ﴾استكباراً وعِناداً﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ وهو عبد الله بن سَلام (الذي شهد له اليهود بأنه أعلمهم)، فإنه قد شهد ﴿ عَلَى مِثْلِهِ ﴾ أي على مِثل هذا القرآن (وهو ما في التوراة من التصديق بنُبُوَّة محمد صلى الله عليه وسلم)، ﴿ فَآَمَنَ ﴾ أي صدَّقَ بالقرآن وعمل بما به، ﴿ وَاسْتَكْبَرْتُمْ ﴾ يا كفار قريش عن الإيمان به والانقياد له، فأخبِروني إذاً: أليس هذا أعظم الظلم وأشد الجحود؟! ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ أي لا يوفِّقهم سبحانه إلى طريق الرُشد والصواب، بسبب عنادهم واستكبارهم من بعد وضوح الحق.   الآية 11: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ من قريش ﴿ لِلَّذِينَ آَمَنُوا ﴾ أي قالوا في شأن المؤمنين: ﴿ لَوْ كَانَ خَيْرًا ﴾ يعني: لو كان الإسلام يعود علينا بالخير والمصلحة المادية: ﴿ مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ ﴾ أي ما سبقنا إليه هؤلاء المؤمنون الفقراء، لأننا أولى بالخير منهم، (وذلك حسب زعْمهم الفاسد، وإلاَّ فإنهم قد عانَدوا مِن أجل الحفاظ على مَناصبهم الفانية، ورضوا بأن يَتَّخذوا آلهةً من الحَجَر يَتقربون إليها ويَسجدون لها، على العكس من المؤمنين الذين انقادوا للحق بمجرد ظهوره)، ﴿ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ ﴾ يعني: وإنْ ظَهَرَ عنادهم وعَظُمَ استكبارهم فأعماهم الله عن الهداية بالقرآن ﴿ فَسَيَقُولُونَ ﴾: ﴿ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ﴾ يعني هذا كذب مأخوذ مِن كَذِب الأوّلين.   الآية 12: ﴿ وَمِنْ قَبْلِهِ ﴾ يعني: ومِن قبل هذا القرآن - الذي أنكره المُشرِكون - أنزل الله التوراة، وهي ﴿ كِتَابُ مُوسَى ﴾ الذي أنزله اللهُ عليه ليكونَ ﴿ إِمَامًا ﴾ يُقتَدَى به ﴿ وَرَحْمَةً ﴾ لمن آمَنَ به وعمل بما فيه (وذلك قبل بعثة محمد عليه الصلاة والسلام)، ﴿ وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ ﴾ يعني: وهذا القرآن هو كتابٌ مُوافقٌ لِمَا قبله من الكُتُب (فهو مُصَدِّقٌ لِمَا فيها مِن صِحَّة، ومُبَيِّنٌ لِمَا فيها من تحريف)، وقد جعله الله ﴿ لِسَانًا عَرَبِيًّا ﴾ أي أنزله بلُغة عربية واضحة، في غاية الفصاحة والبلاغة ﴿ لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾ أي ليُخوّف الذين ظلموا أنفسهم - بالشِرك والمعاصي - من النار ﴿ وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ ﴾ بالجنة، وهم الذين يُراقبون ربهم في كل شؤونهم، ويُحسنون عبادتهم له (بتخليصها من الشِرك والرياء، وبأدائها كما شَرَعَها لهم).   الآية 13، والآية 14: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ﴾ إذ هو الذي خلقنا وحده، فلذلك لن نعبد غيره، ﴿ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾ على شريعة ربهم ﴿ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ من فزع يوم القيامة وأهواله، ﴿ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ على ما تركوه وراءهم بعد موتهم من أمور الدنيا، ﴿ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ﴾ أي هم أهل الجنة ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ (إذ حياتهم فيها أبديةٌ، وسعادتهم فيها لا توصَف) ﴿ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ أي بسبب أعمالهم الصالحة التي كانت سبباً في إدخالهم الجنة برحمة ربهم.   الآية 15، والآية 16: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ﴾ يعني وَصّيناه أن يبِرّهما، وأن يُحسِن إليهما بالقول والعمل، وأن يدعو لهما بعد موتهما، - وخاصةً أمّه - فقد ﴿ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا ﴾ أي حَمَلَته في بطنها على مَشقةٍ وتعب ﴿ وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ﴾: أي وَلَدَته أيضًا على مَشقةٍ وتعب (ولذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم برّها فوق بر الوالد مرتين، كما ثبت ذلك في الصحيحين)، ﴿ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ﴾ يعني: ومدة حَمْله وفطامه ثلاثون شهرًا، (واعلم أنّ لفظ "فِصاله" للإشارة إلى أنه يُفصَل حينئذٍ عن الرضاعة)، ﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ ﴾: يعني حتى إذا بلغ هذا الإنسان البارّ مُنتهَى قوته البدنية والعقلية ﴿ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ﴾ (لأنه عندئذٍ يكون أكثر انشغالاً بأمور الدنيا)﴿ قَالَ ﴾ داعياً ربه - طالباً إعانته -: ﴿ رَبِّ أَوْزِعْنِي ﴾ يعني ألْهِمْني ووفقني ﴿ أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ ﴾﴿ وَأَنْ أَعْمَلَ ﴾ عملاً ﴿ صَالِحًا تَرْضَاهُ ﴾ مني ﴿ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ﴾أي اجعل الصلاح سارياً في ذريتي حتى يَشملهم جميعاً، ليكونوا في ميزان حسناتي، ويدعوا لي بعد موتي، ﴿ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ ﴾ من ذنوبي الماضية وندمتُ عليها ﴿ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ أي الخاضعينَ لك بالطاعة، المُستسلمينَ لأمرك ونَهْيك، المُنقادينَ لحُكمك، ثم قال تعالى عن هذا الصنف الصالح: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا ﴾ أي نتقبل أحسن أعمالهم (وهو كل عمل صالح، كان خالصاً لله تعالى، موافقاً لشرعه) ﴿ وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ ﴾ فلا نعاقبهم عليها بعد توبتهم منها، ونرحمهم بإدخالهم ﴿ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ ﴾ أي في جُملة أصحاب الجنة، وقد كانَ ذلك الإدخال ﴿ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ﴾ أي الذي وعدناهم به في كُتُبنا وعلى ألسنة رُسُلنا.   الآية 17، والآية 18: ﴿ وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا ﴾ يعني: وأما الذي قال لوالديه - حينَ دَعَواه إلى التوحيد والإقرار بالبعث -: قُبحًا لكما ﴿ أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ ﴾ مِن قبري حيًا بعد موتي ﴿ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي ﴾ يعني: وقد مضت الأمم من قبلي، فلم يُبعث منهم أحد؟، ﴿ وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ ﴾ يعني: ووالداه يسألان الله هدايته، قائلَين له: ﴿ وَيْلَكَ آَمِنْ ﴾ يعني صَدِّق واعمل صالحًا، فـ ﴿ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ ﴾ بالبعث ﴿ حَقٌّ ﴾ ﴿ فَيَقُولُ ﴾ لهما: ﴿ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾ يعني: ما هذا الذي تتحدثون عنه من البعث والحياة الثانية إلا قصص السابقينَ التي لا حقيقةَ لها،ثم قال تعالى عن هذا الصنف الفاسد: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ﴾ أي وَجَبَ عليهم حُكم الله بالعذاب ﴿ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾: يعني في جُملة أمم قد مضت مِن قبلهم على الكفر والتكذيب ﴿ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ﴾ ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ﴾ (لأنهم اشتروا الضلالَ بالهدى، واستبدلوا النعيم المُقيم بالعذاب الأليم).   الآية 19: ﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ﴾ يعني: ولكل فريق من أهل الخير وأهل الشر منازل عند الله يوم القيامة، بحسب أعمالهم التي عملوها (كلٌّ بحسب مَرتبته)، ﴿ وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ ﴾ أي: وقد فَعَلَ سبحانه ذلك، ليُوَفيهم جزاء أعمالهم كاملة يوم القيامة ﴿ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾.
الآية 20: ﴿ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ ﴾ ليُعَذَّبوا فيها، فيُقال لهم توبيخًا: ﴿ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا ﴾ (وذلك بإقبالكم على الشهوات والمَلَذّات وانشغالكم بها)، حتى نسيتم الآخرة فلم تعملوا لها، (ولَعَلّ المقصود مِن قوله تعالى: ﴿ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ﴾ أي ثواب أعمالكم الخيرية، كإطعام الطعام وصلة الأرحام وغير ذلك، لأن هذه الأعمال لم تكن عن إيمان، فأعطاكم الله جزاءها في الدنيا من المُتَع الرخيصة، فاستمتعتم بها، ولم يُبقِ لكم شيئاً مِن نعيم الآخرة، كما قال تعالى: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾).   ﴿ فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ ﴾ أي عذاب الذل والإهانة في النار ﴿ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ﴾ أي بسبب استكباركم ﴿ فِي الْأَرْضِ ﴾ التى خلقها الله لكم ﴿ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ إذ لا حقّ لكم في ذلك الاستكبار، لضَعفكم وعَجزكم (فالكبرياء لله وحده، وهو لم يأذن لكم بالكِبر)، ولأنّ حُجَج الله وأدلته كانت واضحة، ولكنكم تكبرتم عن الانقياد لها ﴿ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ﴾ يعني: وبسبب خروجكم عن طاعة الله ورسوله.   الآية 21: ﴿ وَاذْكُرْ ﴾ - أيها الرسول - ﴿ أَخَا عَادٍ ﴾ (وهو هود عليه السلام)، الذي أرسله الله إلى قبيلة عاد، ﴿ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ ﴾: أي اذكر حين أنذر قومه أن يَنزل بهم عذاب الله، وهم في منازلهم المعروفة بـ "الأحقاف" ﴿ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ﴾ يعني: وقد مضت الرُسُل بإنذار أقوامها - قبل هود وبعده - بـ ﴿ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ﴾ ﴿ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ ﴾ إن أشركتم به ﴿ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ وهو يوم القيامة.   الآية 22، والآية 23: ﴿ قَالُوا ﴾ أي قالت عادٌ لهود: ﴿ أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آَلِهَتِنَا ﴾ أي لتصرفنا عن عبادة آلهتنا؟ ﴿ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا ﴾ من العذاب ﴿ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾، فـ ﴿ قَالَ ﴾ لهم: ﴿ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ ﴾: يعني إنما العلم بوقت مَجيئ هذا العذاب عند الله، ﴿ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ ﴾ يعني: وإنما أبلّغكم ما أرسلني الله به إليكم، ﴿ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ﴾ بسبب استعجالكم بالعذاب، وجُرأتكم على ربكم.   الآية 24، والآية 25: ﴿ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ ﴾: يعني فلمّا رأوا العذاب عارضاً (أي على هيئة سحاب يَعرض في الأفق)، وكان متجهًا إلى أوديتهم: ﴿ قَالُوا ﴾: ﴿ هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا ﴾: أي هذا سحابٌ مُمطر لنا، فقال لهم هود عليه السلام: ﴿ بَلْ ﴾ أي ليس هذا عارضُ مطر ورحمة كما ظننتم، ولكنْ ﴿ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ ﴾ أي هو عارضُ العذاب الذي استعجلتموه: ﴿ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ ﴿ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا ﴾ (ما أعظمك يا رب)،﴿ فَأَصْبَحُوا ﴾ أي صاروا ﴿ لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ ﴾ أي لا يُرى في بلادهم شيءٌ إلا آثار مساكنهم (إذ أهلك الله قوم عادٍ عن آخرهم، واقتلعت الريح مُعظم مساكنهم)، ولم يَنجُ إلا هود والذين آمنوا معه برحمة خاصة من الله تعالى، و﴿ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ﴾(وفي هذا تهديدٌ لقريش لكي يتوبوا من شِركهم وتكذيبهم).   الآية 26: ﴿ وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ ﴾ يعني أعطينا لعاد أسباب التمكين في الأرض - من القوة المادية وغيرها - ﴿ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ ﴾ يعني في الذي لم نُمَكِّنكم فيه يا كفار قريش من القوة والإمكانيات،﴿ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا ﴾ يَسمعون به، ﴿ وَأَبْصَارًا ﴾ يُبصرون بها، ﴿ وَأَفْئِدَةً ﴾ أي قلوباً يَعقلون بها، ﴿ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ ﴾: يعني إنهم لم يَنتفعوا بهذه الحواس، ولكنهم استعملوها فيما يُغضب ربهم ﴿ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ ﴾ الواضحة، ﴿ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾: يعني أحاط بهم العذاب الذي كانوا يَسخرون منه، فلم يستطيعوا النجاة والفرار.
الآية 27، والآية 28: ﴿ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ ﴾ يا أهل مكة ﴿ مِنَ الْقُرَى ﴾ كعادٍ وثمود، ﴿ وَصَرَّفْنَا الْآَيَاتِ ﴾ يعني: وبيَّنَّا لهم أنواع الحُجَج والأدلة والمواعظ ﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ عن كُفرهم وعِصيانهم إلى توحيد الله وطاعته، ﴿ فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آَلِهَةً ﴾: يعني فهَلاّ نَصَرَتهم آلهتُهم التي عبدوها لتشفع لهم عنده كما يزعمون! ﴿ بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ ﴾: يعني بل غابوا عنهم عند نزول العذاب فلم يجيبوهم، ولم يدفعوا عنهم شيئاً من عذاب الله، ﴿ وَذَلِكَ ﴾ أي غياب آلهتهم عنهم وعدم نَصْرهم لهم هو ﴿ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾ أي هو نتيجة كذبهم وافتراؤهم الذي كانوا يعيشون عليه من أنهم شفعاء لهم عند ربهم.   من الآية 29 إلى الآية 32: ﴿ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ ﴾: أي اذكر أيها الرسول حين بَعَثنا إليك عدداً من الجن ﴿ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ ﴾ الذي تتلوه ﴿ فَلَمَّا حَضَرُوهُ ﴾: يعني فلمّا حضروا سماع القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ قَالُوا ﴾ لبعضهم: ﴿ أَنْصِتُوا ﴾ لنستمع إلى هذا القرآن، ﴿ فَلَمَّا قُضِيَ ﴾ يعني فلما فَرَغَ الرسول صلى الله عليه وسلم من تلاوة القرآن - وقد فَهِمَه هؤلاء الجن وأثَّرَ فيهم -: ﴿ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ﴾ أي رجعوا إلى قومهم مُحَذرين لهم من عذاب الله إن لم يؤمنوا به، فـ﴿ قَالُوا ﴾ لقومهم من الجن: ﴿ يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى ﴾ ثم وَصَفوا لهم القرآن بقولهم: ﴿ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾: أي مُوافقاً لِمَا قبله مِن كُتُب الله التي أنزلها على رُسُله ﴿ يَهْدِي ﴾ أي يُرشد الناس ﴿ إِلَى الْحَقِّ ﴾ ﴿ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ يُوَصّلهم إلى الجنة ﴿ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ ﴾ - وهو رسوله محمد - فأجيبوه إلى ما يدعوكم إليه ﴿ وَآَمِنُوا بِهِ ﴾، فإن تفعلوا ذلك ﴿ يَغْفِرْ ﴾ اللهُ ﴿ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ﴾ (وهي كل الذنوب التي بينكم وبين ربكم، وأمّا مَظالم الناس: فرُدُّوها إليهم تُغفَر لكم)، ﴿ وَيُجِرْكُمْ ﴾ أي يُنقذكم سبحانه ﴿ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ وهو عذاب جهنم.   ♦ ثم قالوا لهم: ﴿ وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ ﴾ يعني: ومَن لم يَستجب إلى ما دعا إليه رسول الله ﴿ فَلَيْسَ بِمُعجِز فِي الْأَرْضِ ﴾ يعني لن يُعجز اللهَ تعالى إذا حاول الهرب في الأرض (إذا أراد الله عقوبته) ﴿ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ ﴾ أي ليس له أنصارٌ يَمنعونه مِن عذاب الله﴿ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾أي في ضلالٍ واضح عن الحق.   الآية 33: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ﴾ وما فيهنّ مِن المخلوقات العظيمة، ﴿ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ ﴾: أي لم يُعجزه خلق ذلك كله ولم يتعب مِنه، ألم يَعلموا أنه ﴿ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ﴾ الذين خَلَقهم أوّلاً مِن نُطفة؟ ﴿ بَلَى ﴾ إنّ ذلك أمْرٌ يسير على الله تعالى﴿ إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ لا يُعجزه شيء.   الآية 34: ﴿ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ ﴾ ليُعَذَّبوا فيها، فيُقال لهم توبيخًا: ﴿ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ ﴾؟ يعني أليس هذا العذاب الذي أنكرتموه حق؟ ﴿ قَالُوا ﴾ - مُقسِمين بالله تعالى -: ﴿ بَلَى وَرَبِّنَا ﴾ إنه حَقّ، ﴿ قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾.
الآية 35: ﴿ فَاصْبِرْ ﴾ - أيها الرسول - على تكذيب قومك وإيذائهم لك ﴿ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ ﴾ أي أصحاب الصبر والعزم ﴿ مِنَ الرُّسُلِ ﴾ وهم (نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد) عليهم جميعاً الصلاة والسلام (وذلك على المشهور من أقوال العلماء)، وعلى هذا يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية أن يقتدي بهؤلاء الأنبياء (نوح وإبراهيم وموسى وعيسى) عليهم الصلاة والسلام، ﴿ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ ﴾: أي لا تستعجل العذاب لقومك أيها الرسول، فإنه آتيهم لا مَحالة، و﴿ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ ﴾ - أي العذاب في الآخرة - ﴿ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ﴾: يعني كأنهم لم يمكثوا في الدنيا (وهم أحياء) ولا في قبورهم (وهم أموات)إلا ساعة من نهار (بسبب رؤيتهم لجهنم التي سيُعذبون فيها) (والإنسانُ إذا عَظُمَ خوفه: نَسِيَ كل ما مَرَّ به من نعيمٍ أو عذاب، خاصةً إذا قارنَ ذلك بعذاب الآخرة الأبدي)، ﴿ بَلَاغٌ ﴾: يعني هذا القرآنُ بلاغٌ لقومك ولغيرهم، ﴿ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ (والسؤال غرضه النفي)، يعني إنه لا يُهْلَكُ بعذاب الله إلا القوم الخارجون عن أمْره وطاعته.


[1] وهي سلسلة تفسير لآيات القرآن الكريم، وذلك بأسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرة من (كتاب: "التفسير المُيَسَّر" (بإشراف التركي)، وأيضًا من "تفسير السّعدي"، وكذلك من كتاب: " أيسر التفاسير" لأبي بكر الجزائري) (بتصرف)، عِلمًا بأنّ ما تحته خط هو نص الآية الكريمة، وأما الكلام الذي ليس تحته خط فهو التفسير.
- واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحدياً لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذا الأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمن أكثر مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم من سِيَاق الآية)، وإننا أحياناً نوضح بعض الكلمات التي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن.




شارك الخبر

مشكاة أسفل ٣