أرشيف المقالات

تساؤلات وتوضيحات حول الدعاء والإجابة

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
2تساؤلات وتوضيحات حول الدعاء والإجابة
كل شيء يريده الإنسان له سبب لتحصيله، ومن أراد الحصول على شيء معين، فلا بد من الإتيان بسببه، فمن أراد تحصيل الري فعليه بشرب الماء، ومن أراد تحصيل الشِّبع فعليه بالأكل، ومن أراد النجاح فعليه بالجد في المذاكرة، ومن أراد تحصيل المال فعليه بالعمل والسعي، وهكذا، وهذه الأسباب لا تتعلق بفرد دون آخر أو أمة دون أخرى، وقد يتساءل أحدهم: إذا كان الأمر كذلك، فلماذا أدعو ما دمت إذا فعلتُ السبب حصلتُ على النتيجة المترتبة عليه، وقد أرى غير المسلمين لا يدعون الله عز وجل، ومع ذلك يحصِّلون ما يريدونه عن طريق الأخذ بالأسباب، بل كثير من المسلمين الذي وهنت صلتهم بالله عز وجل لا يدعونه؟ هذا هو السؤال الأول، والإجابة هي: إن الدعاء له فوائد كثيرة، وأول هذه الفوائد: 1- تحقيق العبودية الكاملة لله عز وجل: فالله ما أمرنا بالدعاء إلا لكي نحقق العبودية الكاملة له، والتوكل التام عليه، فالدعاء مظهر من مظاهر إظهار ضَعف الإنسان أمام عظمة ربه وقوته، وطريق من طرق الالتجاء إليه، والركون إلى جنابه الكريم، فالدعاء وسيلة من وسائل الاتصال بالله عز وجل، والقرب منه شأنه شأن العبادات المحضة مثل الصلاة والصيام، فنحن نتعبد لله عز وجل بها طلبا لمغفرته ورضاه، والدليل على ذلك قوله تعالى: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾ [غافر: 60]، فالله عز وجل جعل الدعاء هو العبادة في هذه الآية، وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة فقال: (الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ)[1].   فعلى العبد أن يكون ملحًّا في دعائه، منكسرًا بين يدي ربه، منطرحًا على عتبة بابه، وهذا هو منتهى العبودية الحقة لله عز وجل.   2- تيسير الأخذ بالأسباب: قد يحاول الإنسان الأخذ بالأسباب لتحقيق مراده، والوصول إلى بغيته، ولكن لا تواتيه الأسباب، ولا تنقاد له، عندئذ يأتي الدعاء وسيلةً تيسِّر له الأسباب، وتعينه على الأخذ بها، فالنجاح لا بد له من المذاكرة، ولكن قد يحاول الإنسان المذاكرة حتى يحقق النجاح، فتصعب عليه هذه المذاكرة، ويجد من العراقيل ما يحول بينه وبينها، ويحاول التغلب عليها فلا يستطيع، وهنا يكون الدعاء هو الملاذ الوحيد له حتى يتخطى هذه العراقيل، ويتمكن من المذاكرة فيحصل النجاح الذي يبغي ويريد.   3- تحقيقه للمطلوب عند عجز الأسباب: قد يأخذ الإنسان بالأسباب، ويتيسر له العمل بها، ولكن مع ذلك لا يحقق مطلوبه، ولا يدرك بغيته لأسباب خارجة عن إرادته، فهناك من يريد أن يكون له أولاد وذرية، فيتزوج لهذا الغرض، فهنا أخذ بالأسباب، وتيسر له العمل بها ألا وهو الزواج، ولكن عندما تزوج وجد زوجته عقيمًا لا تلد، أو أن عنده هو عذر يمنعه من أن يكون له ولد، عندها يأتي الدعاء سببًا شرعيًّا يمكن أن يترتب عليه تحقيق المقصود، وعلى هذا فقِسْ، فكثيرًا جدًّا ما يقع الإنسان في مصيبة ولا يجد من الأسباب ما يرفع هذه المصيبة، أو يقع في كرب قد أخذ بخناقه ولا يجد سبيلًا لدفعه، فعندئذ يكون الدعاء هو الأمل الوحيد في رفع الضر، وإزالة الكرب؛ قال تعالى: ﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [النمل: 62].   إذًا الأخذ بالأسباب لا يوصل للمطلوب في كل وقت، بل أحيانًا قد يتخلف هذا المطلوب، ويتعسر الوصول للمراد، فيأتي الدعاء لكي يكون هو السبب الأخير في تحقيق ما يرجوه المؤمن ويؤمله.   4- الدعاء فيه تنفيس عن الهموم المضطرمة في القلب، والأحزان التي تكاد تصدع النفس: فالمهموم دائمًا يجد سلوته عندما يجد من يبثه همَّه، ويفضي إليه بشكواه عندها تستريح نفسه، ويطمئن قلبه، فما بالك إذا كان من يبثه همه هو الله عز وجل، لا شك أنه سيجد كمال الراحة وتمام الطمأنينة؛ لأنه سيشعر أنه يأوي إلى ركن ركين وملاذ مكين.   السؤال الثاني: لماذا لا يستجاب دعاؤنا؟ الجواب: هناك أسباب تجعل الدعاء لا يستجاب، ولا يترتب عليه أثره. 1- أكل الحرام: فأكل الحرام من أكبر الأسباب التي تمنع من استجابة الدعاء، والدليل على ذلك ما رواه أَبو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا، إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [المؤمنون: 51]، وَقَالَ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ [البقرة: 172]، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟[2].   2- عدم الأخذ بالأسباب: فهناك من يدعو الله عز وجل بحصول شيء لم يأخذ بأسبابه، وخير مثال على ذلك أن كثيرًا من المسلمين يدعون بطلب النصر ولا يحصُل لهم، والسبب في ذلك أن المسلمين في مجموعهم لم يأخذوا بأسباب النصر، وهي كثيرة أهمها طاعة الله عز وجل فيما أمر واجتناب نواهيه فيما نهى؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ [محمد: 7]، ومن أسباب النصر الاتحاد بين المسلمين وعدم التنازع والاختلاف الذي يتسبب في الفرقة؛ مما يترتب عليه الضَّعف وذَهاب القوة؛ قال تعالى: ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 46]، وقال أيضًا: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [آل عمران: 103]، فهل حقَّقنا هذه الوحدة أم نرى خلافها من التقاطع والتدابر، وكثرة الفرقة والاختلاف؟ إلى غير ذلك من أسباب النصر التي لا بد من تحصيلها والأخذ بها، ثم يكون الدعاء بعد ذلك هو السبب في توفيق الله عز وجل لنا.   إن من يدعو الله لتحقيق شيء لا يأخذ بأسبابه مثله كمثل من يدعو الله أن يرزقه مالًا وهو لا يسعى في تحصيله، أو يدعو أن يحقِّق النجاح، وهو لا يذاكر دروسه ويجد في تحصيلها، وهذا يدل على انخفاض في الوعي.   3- أن تكون الاستجابة فيها ضررٌ عليك: الله سبحانه وتعالى حكيم في أفعاله، لا يفعل إلا ما فيه المصلحة، ولا يقدر إلا ما فيه الخير، وقد يدعو الإنسان بشيء يكون فيه هلاكه، أو ضرر سيقع به، فمن الحكمة ألا يستجيب الله عز وجل له، وأن يعوِّضه بدل هذا الدعاء خيرًا منه؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ، وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ، إِلَّا أَعْطَاهُ اللهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا، قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ، قَالَ: اللهُ أَكْثَرُ)[3]، ففي هذه الأحوال الثلاثة قد استفدت من دعائك ولم يضع هباءً، حتى وإن كانت على غير ما تريد، فلا يشترط في الاستجابة أن تكون كما تريد وتتمنى، بل أن تكون الاستجابة بما فيه مصلحتك والخير لك.   4- تأخير الإجابة: قد يؤخر الله سبحانه وتعالى الإجابة، فيظن العبد أن الله لم يستجب دعاءه، مع أن ميعاد الإجابة لَمَّا يحن بعدُ، وما على العبد إلا أن يواصل دعاءه ولا يمل أو ييئَس، فعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ، يَقُولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي"[4].
السؤال الثالث: هل يرد الدعاء ما قضاه الله عز وجل وقدره؟ الجواب: نعم، والدليل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لَا يَرُدُّ القَضَاءَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي العُمْرِ إِلَّا البِرُّ»[5]، كما أن الواقع يؤكد هذا ويؤيده.   وخلاصة ما سبق ذكره هو أن نأخذ بالأسباب ومنها الدعاء في دفع الكرب وإزالة الضر، ثم نرضى بعد ذلك بما يقضي به الله عز وجل ويقدِّره.



[1] أبو داود (1479 )، وصححه الألباني. [2] مسلم (1015). [3] رواه أحمد في "المسند" (17/ 213)، وقال محققو المسند: إسناده حسن. [4] رواه أحمد في "المسند" (17/ 213)، وقال محققو المسند: إسناده حسن. [5] البخاري (6340).




شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير