أرشيف المقالات

الخيانة في الإسلام

مدة قراءة المادة : 34 دقائق .
الخيانة في الإسلام
 
• جاء في لسان العرب لابن منظور: "الخَوْن: أن يؤتمن الإنسان فلا ينصح، خانَه يخونه خونًا وخيانة، وخانَةً ومخانة".
 
• قال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره: "والخيانة: الغَدر وإخفاء الشيء، ومنه: ﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ ﴾ [غافر: 19]، وكان عليه الصلاة والسلام يقول: ((اللهمَّ إني أعوذ بك من الجوع؛ فإنَّه بئس الضَّجيع، ومن الخيانة؛ فإنَّها بئست البطانة))؛ (خرجه النسائي عن أبي هريرة)".
 
• والخيانة هي عَكس الأمانة، وهي نقصان في الوَفاء، وتفريط الإنسان في حقوق الغير التي تحت يديه؛ ماديَّة كانت أو معنوية، أو تبديدها، أو إفشاؤها وإذاعتها.
 
• قال الجاحظ: الخيانة هي الاستِبداد بما يؤتمَن الإنسان عليه من الأموال والأعراض والحرم، وتملك ما يستودع ومُجاحدة مُودعه، وفيها أيضًا طيُّ الأخبار إذا نُدِب لتأديتها، وتحريف الرسائل إذا تحمَّلها فصرفها عن وجوهها".
 
• قال الراغب: الخيانة والنِّفاق واحد، إلَّا أن الخيانة تُقال اعتبارًا بالعهد والأمانة، والنفاق يُقال اعتبارًا بالدِّين، ثمَّ يتداخلان؛ فالخيانة: مُخالفة الحقِّ بنقض العهد في السِّر، ونقيض الخيانة الأمانة.
 
• لقد عدَّ الإمام الذهبي الخيانةَ من الكبائر؛ بدليل قول النَّبي صلى الله عليه وسلم: ((آية المنافِق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعَد أخلَف، وإذا اؤتمِن خان))، ولقوله أيضًا: ((أدِّ الأمانةَ إلى من ائتمنك، ولا تخُن مَن خانك)).
 
• وقال: الخيانة قَبيحة في كلِّ شيء، وبعضها شرٌّ من بعض، وليس مَن خانك في فَلْس كمَن خانك في أهلك ومالك وارتكب العظائمَ.
 
• قال ابن عاشور: حقيقة الخيانة عمَل مَن اؤتمن على شيءٍ بضدِّ ما اؤتمن لأجله، بدون عِلم صاحب الأمانة.
 
• وفي العصر الحديث يتم إطلاق مُصطلح (الطابور الخامس)، أو (الخيانة العظمى) على الخوَنة وأعوانهم؛ حيث يصِف المصطلح مجموعةً من الناس تتعامل غالبًا مع أعداء داخليِّين أو خارجيين، بغرَض التخريب والتضليل، وإشاعةِ الفوضى، وزعزعةِ أمور البلاد.
 
وتقوم أركان الخيانة العُظمى عند قيام شخصٍ بخدمة دولة أجنبيَّة، وتعهُّد مصالحها على حساب مَصلحة دولته التي يَنتمي إليها، ما يؤدِّي إلى المساس بأمن بلَده واستقراره، أو الإضرار بمركزه السياسي.
 
أولًا: ذكر بعض الآيات التي تحدَّثَت عن الخيانة والخائنين في القرآن الكريم:
لقد وردَت في القرآن الكريم العديد من الآيات التي تحذِّرنا من صِفة الخيانة، ومن الميل إلى الخائنين أو الركون إليهم، أو الدِّفاع عنهم؛ فالله تعالى يُبطِل خيانتهم ولا يُصلِح لهم عملًا.
 
• قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ﴾ [النساء: 105].
• قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [الأنفال: 27].
• قال تعالى: ﴿ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الخَائِنِينَ ﴾ [الأنفال: 58].
• قال تعالى: ﴿ وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [الأنفال: 71].
• قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ﴾ [يوسف: 52].
• قال تعالى: ﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴾ [غافر: 19].
• وهكذا رأَينا الآيات التي تربِّي مجتمعًا نظيفًا خاليًا من هذه الآفَة؛ بل تسد كلَّ الأبواب الموصلة إليها، ولم يرخِّص الله تعالى استعمالَها حتى مع أعداء الإسلام.
 
ثانيًا: ذكر بعض الأحاديث النبوية التي حذَّرت من الخيانة:
إنَّ الأحاديث النبوية المُطهرة بها ما يسدُّ الذرائع أمام هذه الآفَة الخطيرة بكلِّ أشكالها، ما صغر منها وما كبر، وما قلَّ منها وما كثر:
1- عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((آيَة المنافق ثلاثٌ: إذا حدَّث كذب، وإذا وعَد أخلَف، وإذا اؤتمن خان))؛ (رواه البخاري ومسلم).
 
2- عن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ خيركم قرني، ثمَّ الذين يَلونهم، ثمَّ الذين يلونهم، ثمَّ يكون قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويَخونون ولا يؤتمنون، ويَنذرون ولا يُوفُون، ويظهر فيهم السِّمن))؛ (متفق عليه)، السِّمَن: البدانة، وكثرة اللَّحم والشحم.
 
3- عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سيأتي على النَّاس سنوات خدَّاعات؛ يُصدَّق فيها الكاذب، ويُكذب فيها الصَّادق، ويُؤتمن فيها الخائنُ، ويُخون فيها الأمين، وينطِق فيها الرُّوَيْبِضة))، قيل: وما الرُّويبِضة؟ قال: ((الرجل التَّافِه في أمر العامَّة))؛ (رواه ابن ماجه).
 
4- عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((من تقوَّل عليَّ ما لم أقل، فليتبوَّأ مقعده من النَّار، ومَن أُفتيَ بفتيا بغير علمٍ، كان إثم ذلك على مَن أفتاه، ومَن استشاره أخوه المسلم فأشار عليه بغير رُشد، فقد خانه))؛ (صحيح الجامع الصغير).
 
5- عن أبي سعيد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لكلِّ غادرٍ لواء عند استِه يوم القيامة))، وفي رواية: ((لكلِّ غادر لواءٌ يوم القيامة، يُرفع له بقدر غدره، ألَا ولا غادر أعظم غدرًا من أمير عامَّة))؛ (رواه مسلم)، است: مؤخَّرُ الشَّخص، حلْقة الدُّبُر (مؤنَّثة).
 
6- عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: بعَث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا من الأزد يقال: له ابن اللُّتْبِيَّةِ على الصَّدقة، فقال: هذا لكم، وهذا أُهدي إليَّ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم: فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ((ما بال العامِل نبعثه، فيجيء فيقول: هذا لكم، وهذا أهدي إليَّ؟! ألا جلَس في بيت أبيه فينظر أيُهدى إليه أم لا؟! والذي نفسُ محمد بيده، لا نَبعث أحدًا منكم فيأخذ شيئًا إلَّا جاء يوم القيامة يَحمله على رقبته، إن كان بعيرًا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تَيعِر))، فرفع يديه حتى رأيتُ عفرة إبطيه فقال: ((اللهمَّ هل بلَّغت؟ ثلاثًا))؛ (رواه البخاري ومسلم)، تيعر: يعَرتِ الشَّاةُ أو المعزى: صاحت.
 
7- روى أحمد في الزُّهد والمسند والبيهقي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "القتل في سبيل الله يكفِّر الذنوب كلها إلَّا الأمانة"، ثم قال: "يُؤتى بالعبد يوم القيامة وإن قُتل في سبيل الله فيقال: أدِّ أمانتَك، فيقول: أيْ رب، كيف وقد ذهبَت الدنيا؟ قال: فيقال: انطلِقوا به إلى الهاوية، فينطلق به إلى الهاوية، وتمثَّل له أمانته كهيئتها يومَ دُفعَت إليه، فيراها فيعرفها، فيَهوي في أثرها حتى يدرِكها، فيحملها على منكبيه، حتى إذا نظر ظنَّ أنه خارج، زلَّت عن منكبيه، فهو يَهوي في أثرها أبدَ الآبدين"، ثمَّ قال: "الصَّلاة أمانة، والوضوء أمانة، والوزنُ أمانة، والكَيل أمانة، وأشياء عدَّها، وأشد ذلك الودائع".
 
• قال - يعني زاذان -: فأتيتُ البراءَ بن عازب فقلتُ: ألا ترى إلى ما قال ابن مسعود؟ قال: كذا، قال: كذا، قال: صدَق، أما سمعتَ اللهَ يقول: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾ [النساء: 58]؟
 
8- عن قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما قال: "لولا أنِّي سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((المكر والخديعة في النَّار)) لكُنت من أمكَر النَّاس"؛ (صححه الألباني).
• والأحاديث في هذا المجال أكثر من أن تُحصى، وما ذُكِر ما هو إلا غيض من فَيضِ أحاديثه صلى الله عليه وسلم.
 
ثالثًا: أشكال الخيانة:
كلمة الخيانة من الكلمات التي تلقي ظِلالًا بشعة ومُفزعة داخل النفس؛ وذلك لأنه بمجرد ذكرها تتوارد على النفس جرائم التآمر والقتل والجاسوسية...
إلخ، ولكنْ هناك أنواع عَديدة من الخيانات، يقَع فيها الناس استهانة بأمرها، وهم لا يُدركون أنَّها من أبشَع أنواع الخيانة؛ فالخيانة لها أشكال متعدِّدة، نذكرها دون الخوض في التفاصيل:
1- خيانة الله ورسولِه من خلال: تعدِّي الحدود، وتعطيلِ الفرائض، وانتهاك الحرمات.
2- خيانة الوطن عن طريق: موالاة أعداء الله تعالى ومداهنتهم، والميل والركون إليهم.
3- خيانة الأعراض، وإفشاء الأسرار الزوجية.
4- الخيانة في البيع والشراء والكسب غير المشروع، بأيِّ وسيلة كانت.
5- خيانة المجالس وإفشاء أسرارها.
6- خيانة العلم؛ بأن يُحرِّف العلماء كلامَ الله تعالى، أو يقولوا ما لا يعلمون، أو بكتمان ما أنزل الله تعالى.
7- خيانة الودائع؛ بعدم ردِّها، أو بإتلافها، أو بالمماطلة في أدائها.
8- خيانة تضييع الأهل؛ بإهمالهم، وعدم تعهدهم بالتربية والنصح والإرشاد.
• حقيقة: إنَّ أبواب الخيانة مُتعددة، ومداخلها مُتشعبة، وعلى كلِّ عاقل أن يحترز لنفسه حتى لا يورِدها المهالك، والخيانة لا تتجزَّأ؛ فهي صفة مَذمومة ومشؤومة بكلِّ المقاييس والأحوال، ولكن تخفُّ حدَّتها حسب ما هو مترتب عليها، قال الإمام الذهبي: "الخيانة قَبيحة في كلِّ شيء، وبعضها شرٌّ من بعض، وليس مَن خانك في فَلْسٍ كمَن خانك في أهلك ومالك وارتكب العظائم".
 
رابعًا: نماذج لمن اشتهرت عنهم الخيانة:
إنَّ التاريخ حافل بنماذج الخيانة والخائنين على مرِّ العصور، وجسَد الأمَّة الإسلاميَّة بصِفة خاصَّة ليس به موضع إصبع إلَّا وتجد تحته أثرًا لخيانات متعدِّدة، تارة من أعدائها، وتارات - وهو أنكى وأشد ألمًا - من بني جلدتها؛ وذلك لأنَّ أعداء هذه الأمة عندما يَيئسون من القضاء عليها في مَجال من المجالات يَقومون بزراعة ورَم سرَطاني خبيث، ينهك هذا الجسَد ويودِي به؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم سَمَّته يهود، وعمر الفاروق رضي الله عنه قتلَه أبو لؤلؤة المجوسي، وعثمان قتلَتْه يدُ الغدر، وفي بئر معونة قُتِلَ سبعون من خيار الصحابة...
إلخ.
• جاء في الأثر: "لا تقوم السَّاعة حتى لا يَأمن المرء جليسَه...".
 
إنَّ الخيانة موجودة في كلِّ الأمم في وقت السلم، وتشتدُّ في الحرب، ولم يَسلم منهم زمان دون زَمان، ولا مكان دون مكان، بل لم يَسلم منهم أفضَل زمان بوجود أفضل رجل ورجال، زمَن النبي وصحابته الكرام، فكيف بمن بعده؟!
 
1- أبو رغال: يعدُّ أبو رغال الخائنَ الأكبر، الذي جعَل من نفسه دليلًا وعميلًا لأبرهةَ الأشرم عندما عزم على هدم الكعبة، ولقد مرَّ الرسول صلى الله عليه وسلم بقبره فرجَمه، فأصبح رَجمُه سنَّة.
 
2- عبدالله بن أُبي بن سلول: حيث خان النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم في غزوة أُحد؛ عندما خرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في ألفٍ من أصحابه، انخزل عنه عبدالله بن أُبي بن سلول بثُلث الجيش، وقال قولته المشهورة: "أطاعهم وعصاني!"، يقول: "ما ندري علامَ نَقتل أنفسَنا هاهنا أيها الناس؟".
 
3- المرجِفون في غزوة تبوك: قال ابن إسحاق: وقد كان رَهط من المنافقين؛ منهم وديعة بن ثابت أخو بني عمرو بن عوف، ومنهم رجل من أشجَع حليف لبني سلمة يقال له: مخشن بن حمير (قال ابن هشام: ويقال: مخشي)، يشيرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلِق إلى تبوك، فقال بعضهم لبعض: أتحسبون جِلاد بني الأصفر (يعنون الروم) كقِتال العرب بعضهم بعضًا؟ والله لكأنَّا بكم غدًا مُقرنين في الحبال؛ إرجافًا وترهيبًا للمؤمنين.
 
4- عبدالله بن سبأ المعروف بـ (ابن السوداء): لقد كان لابن سبَأ الخائن الدور الكبير في الفِتنة العظمى التي حصلَت بين الصحابة رضوان الله عليهم في موقعة الجمل.
• جاء في البداية والنِّهاية: أنَّ عبدالله بن سبأ قال لبعض أصحابه: "يا قوم، إنَّ عزَّكم في خلطة النَّاس، فإذا التقى الناس فأنشِبوا الحربَ والقتال بين الناس، ولا تدعوهم يجتمعون...".
 
5- ابن العلقمي: كان ابن العلقمي وزيرًا للخليفة العباسي المستعصِم بالله محمد الظاهر، وكان لابن العلقمي الدَّورُ الكبير في دخول التتار إلى بغداد، وسقوط الخلافة العباسية فيها.
• كتَب ابن العلقمي إلى هولاكو قائد التَّتار أنَّه على استِعداد أن يُسلِّمه بغداد إذا قام بالهجوم عليها، فكتب هولاكو لابن العلقمي: "إنَّ عساكر بغداد كثيرة؛ فإن كنت صادقًا فيما قلتَ لنا وداخلًا تحت طاعتنا، ففرِّق العسكر"، فلمَّا وصَل الكتاب إلى ابن العلقمي، أخذ يتحايَل على المعتصم ويقنعه بعدَم جدوى هذه الأعداد الكبيرة من الجنود؛ حيث إنَّ التتار قد رجعوا إلى بلادهم، ولا حاجة لتكليف الدولة كلفة هؤلاء الجند، فاستجاب الخليفةُ لرأيه، وبالفعل تمَّ تسريح أعداد غَفيرة من أفضل عناصر الجيش، يقول المؤرِّخون: إنَّ ما تمَّ تسريحه يقارب مائتي ألف فارس.
ولما أتمَّ حيلتَه، كتب إلى هولاكو بما فعل، فركب هولاكو وقدِم بجيشه إلى بغداد، وأثناء المعركة أرسل ابن العلقمي جماعةً من أنصاره، فحبسوا مياهَ دجلة؛ حتى تعوق تفوُّق جيش بغداد، وبالفعل انتصر التَّتار، وقَتَلوا الخليفةَ وابنه، وأفسدوا في البلاد أشدَّ الفساد، ثم دعا هولاكو بابن العلقمي ليكافئه، فحضر بين يديه، فوبَّخه على خيانَته لسيِّده الذي وثِق به، ثم قال: "لو أعطيناك كلَّ ما نملِك، ما نرجو منك خيرًا، فما نرى إلا قتلَك"، وقتله بالفعل.
 
6- الوزير شاور وخيانته للمصريين ضد الصليبيين: حيث عاوَن شاور الصَّليبيين ضدَّ نور الدين محمود وصلاح الدين في الفترة من 562 هـ إلى 564 هـ، وحاول تمهيدَ الطَّريق لهم للاستيلاء على مصر؛ عن طريق الخيانة تارة، وعن طريق إشعالِ الحرائق في أنحاء القاهرة تارةً أخرى؛ حتى يضطرَّ الناس لمغادرتها، ويكون الطريق ممهدًا للصليبيين، وظلَّت نار الخيانة تَستعر إلى أن تمَّ قتل شاور، ومكَّن الله تعالى للمسلمين.
 
7- خيانة الناصر يوسف الأيوبي: من أحفاد صلاح الدين الأيوبي، وآخر ملوك الدولة الأيوبيَّة، وكان من خيانته أن قام النَّاصر يوسف الأيوبي بمَنع الإمدادات والمساعدات عن الكامِل محمد الأيوبي، وساعَد كذلك في حصار مدينة ميافارقين (بين دجلة والفرات)، وساعد هولاكو في الهجوم على مصر لتخليصها من بين يدي المماليك، والأكثر من ذلك أنَّ العزيز بن الناصر يوسف آثَر أن يَبقى في عسكر هولاكو ليهاجم معه المسلمين.
وبالرغم من كلِّ ذلك أرسل هولاكو رسالةً إلى الناصر يوسف الأيوبي يهدِّده ويتوعَّده؛ بل ويأمره أن يأتيه هو وجنوده، وفي نهاية رسالة التهديد والوعيد هذه كتب قائلًا: "...
وقد بلَغنا أنَّ تجَّار الشام وغيرهم انهزموا بحريمهم إلى مصر؛ فإن كانوا في الجبال نسفناها، وإن كانوا في الأرض خسفناها".
بعد هذه الرسالة التي يُفهم منها تجريد الناصر يوسف من كلِّ شيء والقضاء على حلمه، قرَّر الناصر يوسف أن يتَّخذ قرارًا بإعلان الجِهاد ضد التتار، قوبلَت هذه الدَّعوة للجهاد باستهتار واستخفافٍ شديدين؛ لأنَّ الجميع يعلم أن الناصر يوسف ليس من أهل الجهاد، وليس عنده أي حميَّة للدين ولا للعقيدة، ولا يغار عليهما، فمن المعروف عنه أنَّه اعتاد أن يتنازل عن كلِّ شيء، وأي شيء، من أجل الحكم.
استجاب بعض المتحمِّسين للناصر يوسف، وجاؤوا يقاتلون تحت رايته الجديدة، وضرب معسكرًا لجيشه في شمال دِمشق عند قرية (برزة)، وبدأ الناصر يوسف يراسِل الأمراءَ من حوله لينضمُّوا إليه لقتال التتار، وبدأ كذلك استمالة النَّصارى، ووعدهم بتوليهم إدارةَ شؤون البلاد بعد المعركة.
تقدَّم جيش هولاكو واستولى على ما بَقي من بلاد الشام، فقرَّر الناصر يوسف الهربَ إلى مصر، لكن السلطان (قطز) سلطان مصر كان له بالمِرصاد، ورفض دخولَه، وبقي النَّاصر يوسف في الصحراء إلى أن أمسكَته جنودُ المغول، وقام هولاكو بقتله بعد هزيمة المغول في معركة عين جالوت.
 
8- الضابط المصري علي يوسف الشهير بـ (خنفس باشا): وهو من بين الضبَّاط الذين خانوا أحمد عرابي في معركة التل الكبير؛ ممَّا أدَّى إلى هزيمة جيش عرابي، واحتلال القوات الإنجليزية لمصر.
وكان من خيانة (خنفس) أنْ طمأَنَ جيشَ عرابي بأن الإنجليز لن يهجموا في ذلك اليوم، فاطمأن الجيش، غير أنَّ القائد الإنجليزي (ولسلي) شنَّ هجومًا مُباغتًا ترتَّب عليه هزيمة جيش عرابي في معركة التل الكبير، وسيطرة الإنجليز على زمام الأمور.
• وجاء في كتاب "فصل في تاريخ الثورة العرابية"؛ للمؤرِّخ (محمود خفيف) أنه: "في 15 سبتمبر بلغ الإنجليز منطقه العباسيَّة، ومنها ساروا إلى القلعة، وكان بها أربعة آلاف جندي، فسلَّمهم خنفس مفاتيحها".
 
9- المعلم يعقوب يوحنا ودوره في تسهيل الاحتلال الفرنسي لمصر: عندما غزَت الحملة الفرنسية مصرَ بقيادة نابليون بونابرت عام 1798، استعانت بالمعلم يعقوب يوحنا لإخضاع الصَّعيد ومطاردةِ جيش مراد بك، وبالفعل أدَّى دورًا بارزًا في خدمة الحملة الفرنسيَّة على مصر؛ وذلك لخبرته بطبيعة المكان وبطبيعةِ قادة المماليك في ذلك الوقت.
كتب الجنرال جاك فرانسوا مينو إلى بونابرت رسالة يقول فيها: "إنِّي وجدتُ رجلًا ذا دراية ومَعرفة واسعة، اسمه (المعلم يعقوب)، وهو الذي يؤدِّي لنا خدمات باهرة؛ منها تعزيز قوة الجيش الفرنسي بجنود إضافية من القبط لمساعدتنا".
ويذكر أنَّ الكنيسة قد تبرَّأَت من تصرُّفاته ومن خيانته للوطن، جاء في كتاب "تاريخ الأمة القبطية"؛ لمؤلِّفه المؤرخ (يعقوب نخلة): "وتسجِّل كتب التاريخ القبطي تبرُّؤ الكنيسة المصرية من الشخص الذي يَنحرف عن هذا التقليد العَريق؛ يعني: الولاء للوطن، ممثلًا بالجنرال يعقوب، الذي عاش أيام الحملة الفرنسية، وسار في خطَّةٍ تُخالِف أبناء جنسه".
ومع نهاية الحملة الفرنسية على مصر، قرَّر المعلم يعقوب أن يسافر إلى فرنسا، وفي عرض البحر أُصيب يعقوب بعد يومين من ركوبه السفينة بالحمَّي ومات، وتقول بعضُ الروايات: إنَّ الفرنسيين قد قاموا بإلقاء جثَّته في البحر.
• إنَّ النماذج على مرِّ العصور أكثر من أن تُحصى، وستستمر المعركة سِجالًا، والأيام دُول، إلى أن يرث الله تعالى الأرضَ ومَن عليها.
 
خامسًا: مصارع بعض الخونة ونهايتهم:
إنَّ الخونة مصيرهم مَعروف، ونهايتهم نكراء، وما أن يُذكر اسمهم إلا تبعَته اللَّعنات، سواء في مَحياهم أو بعد مماتهم؛ وذلك لأن الخونة إنَّما يصنعون أمجادَهم على أشلاء الضَّحايا وأطلال الوطن؛ فهم الحصان الأسود الذي يراهِن عليه أعداء كلِّ أمَّة، وبعد أن يَقضي العدوُّ منهم وطَرَه يلفظهم لفظ النواة.
 
• لقد رأينا كيف تعامَل النَّبي صلى الله عليه وسلم مع (قبر أبي رغال)؛ حيث رجمه النَّبي صلى الله عليه وسلم، فأصبحَت سُنَّة باقية إلى يوم الدين.
 
• ولقد رأينا كيف تعامل الفرنسيون مع جثمان الخائن (المعلم يعقوب حنا)؛ عندما مرض ومات في عرض البحرِ، فما كان منهم إلَّا أن تخلَّصوا من جثَّته بإلقائها في البحر.
 
• يُذكر أنَّ أحد الخونة أراد يومًا أن ينافِق نابليون بونابرت قائد الحملة الفرنسيَّة على مصر، فنقل إليه أسرارًا عسكريَّة عن جيش مصر، وبعد أن حقَّق نابليون انتصارَه، أساء نابليون استقبال ذلك الرجل، وعامله بحدَّة وغلظة، ثمَّ أعطاه مبلغًا من المال، فقال له المنافق: "لا حاجة بي إلى المال، وأمنيَّتي هي أن أصافح الإمبراطور"، فقال له نابليون: "من يخون وطنه وينافِق أعداءه على حساب شعبه، له المال فقط، أمَّا يد الإمبراطور، فإنها لا تصافِح إلا الأشراف المخلِصين".
 
• إن الخائن يعيش مُهانًا ذليلًا مَنبوذًا من أقرب الناس إليه، وليس له أي مَكانة، مهما انتفَش وانتفخت أوداجُه؛ فهو لا يَرتفع إلَّا كما ترتفع الجيفة على سَطح الماء، ولا يعلو إلَّا أن يكون خائنًا خان الأمانة وبنى مجدًا زائفًا من خياله وخيالِ أمثاله.
 
سادسًا: بعض نماذج الخونة عبر التاريخ:
إنَّ ذكرنا لأمثلة من الخوَنة في الأمَّة العربية والإسلامية لا يعفي باقي الأمم من وجود هذه الآفة، فهم من تمرَّسوا عليها، وتلطَّخوا بأوحالها، فكانوا مثالًا يُحتذى للخونة في العالم بأسره.
1- يهوذا الإسخريوطي: يقال: إنَّه كان أحد تلاميذ المسيح الاثني عشر، ولكنْ ذُكر عنه الخيانة وعدَم مراعاة الأمانة، كما ذُكر أنَّه تآمَر مع رؤساء الكهنة ضدَّ المسيح عليه السلام ليُسلمه إليهم ليَقتلوه حسب اعتقادهم، وفي نهاية حياته قام بخَنق نفسه، ومات منتحرًا غير مأسوف عليه.
 
2- ماركوس جونيوس بروتس: كان بروتس من رجال السياسة في الجمهورية الرومانية، وعضوًا في مجلس الشيوخ الروماني قبل الميلاد، وما أن تُذكر الخيانة إلَّا ذُكر (بروتس)؛ حيث إنَّه قام باغتيال يوليوس قيصر، الذي قام بالعديد من الإصلاحات لنهضة الإمبراطورية الرومانيَّة، ولكن الطَّمع وحبَّ الرئاسة جعَلا أعداءه يدبِّرون لقتله، واختاروا لهذه المهمَّة أقرب رجاله إليه (بروتس)، وعندما طعنه نظر حينها (يوليوس قيصر) في عيني صَديقه وقال له: "حتى أنت يا بروتس؟!"، فأجابه: "إنِّي أحبك، لكنِّي أحب روما أكثر"، فكان جواب قيصر له: "إذًا، فليمت قيصر".
 
3- جاي فوكس والمعروف بجيدو فوكس: وهو الاسم الذي تبنَّاه أثناء الحرب في صفوف الإسبان، كان عضوًا في فرقة من الكاثوليك الإنجليز الذين خطَّطوا لمؤامرة البارود سنة 1605.
قام (فوكس) بتغيير ديانته إلى كاثوليكي، وغادَر بلدَه؛ ليحارِب في حرب الثمانين عامًا بجانب الإسبان الكاثوليك ضدَّ البروتستانت الهولنديين، قام برحلة إلى إسبانيا طلبًا لدعم تمرُّد كاثوليكي في إنجلترا، ولكنه لم يوفَّق في ذلك، التقى فيما بعد بـ (توماس وينتور) وعادا معًا إلى إنجلترا.
تعرَّف (فوكس) على (روبرت كاتسبي) الذي خطَّط لقتل (جيمس الأول) ملك إنجلترا، وإعادة ملك كاثوليكي إلى الحكم.
حفر المتآمرون سِردابًا تحت مجلس اللوردات، وأوكلوا مهمَّة إشعال البارود فيه إلى (فوكس)، تلقَّت السلطات رسالةً مجهولة المصدر تخبِرهم بالمؤامرة، فقامت السلطات على الفور بالبحث في قصر (وستمنستر)؛ حيث وجدوا (فوكس)، ووجدوا المتفجرات.
تمَّ القبض على (فوكس) وإعدامه، وأصبح اسم (فوكس) مُرادفًا لمؤامرة البارود، والتي يتمُّ الاحتفال بها منذ 5 نوفمبر 1605، يتمَّ في هذه الاحتفالات حرق دميته في موقد كبير من النيران.
 
4- بينيدكت أرنولد: هو عسكري أَمريكي، وأحد رموز حرب الاستقلال، قام بعدَّة حملات ضد البريطانيِّين إلَّا أنه غيَّر موقفه وانضمَّ للبريطانيين، وهو يعتبر الآن رمزَ الخيانة في أمريكا.
أراد (أرنولد) بخيانته أن يضَع نهر هادسون تحت السيطرة البريطانيَّة؛ وذلك لإضعاف موقف الثَّورة، وفتح الباب للمفاوضات لعودة أمريكا للتاج البريطاني، عندما علِم (أرنولد) بأنَّ أمره قد افتضح وخيانته قد كُشفَت - وذلك بعد اعتقال (أندري) أحد المقرَّبين منه - قام بالهروب نحو الخطوط البريطانية.
تمَّ تفويض أرنولد برتبة عميد في الجيش البريطاني، وتلقى تعويضًا عن خسارة أملاكه في أمريكا.
كان طموح (أرنولد) أكبر من ذلك، فخاب أمله بسبَب فشَل خططه، وشعر بالمرارة؛ بسبب الإهمال والازدراء الذي لاقاه في إنجلترا؛ ممَّا أصابه بالاكتئاب، وأُصيب بمرض عصبي، ومات في لندن في 14 يونيو 1801 عن ستين عامًا.
 
• إن ما ذكر من نماذج الخيانة هذه ما هو إلَّا غيض من فَيض من هذا المستنقع الآسن، الذي يزكم الأنوف، وتعافه الفطرةُ السويَّة السليمة.
 
سابعًا: بعض صور الوفاء والأمانة وتقدير المسؤولية:
بعد ذِكرنا لهذه النَّماذج من الخوَنة والخائنين، قد يظنُّ البعض أنَّ الصورة سوداويَّة مُعتمة، وأن وضع الأمَّة كئيب، ويدعو إلى التشاؤم أو اليأس والعياذُ بالله؛ لذا وجب ذِكر بعض الصوَر المُشرقة للوفاء والأمانة وتقدير المسؤولية، هذه الصور التي تبرهِن على أنَّ الخير في هذه الأمَّة إلى يوم القيامة.
1- الصحابي الجليل كعب بن مالك: عندما تخلَّف الصَّحابي الجليل كعب بن مالك عن غزوة تَبوك دون عذر يَعتذر به أمامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، غير أنَّه أخذ يُسوِّف في موعد الخروج إلى أن فاتَه الوقت، وأصبح من المخلَّفين الذين أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بمقاطعتهم، ظلَّت المقاطعة ما يقرب من الشهرين، حتى ضاقت عليهم أنفسهم.
ظلَّ الحال كذلك إلى أن أرسَل ملك غسَّان رسالةً إلى الصَّحابي الجليل كعب بن مالك، يقول فيها: "أمَّا بعد، فقد بلَغنا أنَّ صاحبك قد جفاك، وإنَّ الله لم يجعلك في دار هوان ولا مضيعة، فالحقْ بنا نُواسِك".
وحين قرأ سيدنا كعب الرسالةَ، قال: "وهذا أيضًا من البلاء"، وقال: فتيمَّمتُ التنُّور فسجرتُه بها.
ثمَّ لما أتمَّ أربعين ليلة من الخمسين، جاءه أمرُ رسولٍ من رسول الله أن يَعتزل امرأتَه، فلما أتمَّ الخمسين ليلة، جاءه البَشير بالفرج من الله والتوبة.
وفي قصة كعب وصاحبيه نزل قوله تعالى: ﴿ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [التوبة: 118].
إنَّ هذا الصحابي الجليل لم يتغيَّر قلبه لتعزير النَّبي صلى الله عليه وسلم له، ولم تَخُر عزيمته أو يتزعزَع إيمانه أمام ما جاءه من إغراءٍ من أعداء الله تعالى.
 
2- سلطان العلماء وبائع الأمراء العز بن عبدالسلام: إنَّ حياة العز بن عبدالسلام زاخِرة بالمواقف التي ينحني الزَّمان أمام عظمتها وروعتها، فلم تأخذه في الحقِّ لومة لائم، ولم يخُر له عَزم، ولم تلِن له قَناة أمام التصدِّي لتراكماتٍ وموروثاتٍ من الفساد في عصره.
• إن العزَّ بن عبدالسلام هو الذي تصدَّى بفتواه للخوَنة الذين كانوا يقومون ببَيع السلاح للصليبيِّين في ذلك الوقت؛ حيث إنَّهم كانوا لا يَزالون يحتلُّون أجزاء من بلاد الشام، بعد أن ثبتَ عنده أنَّ هذه الأسلحة يستخدمها الفرنج في محاربة المسلمين، وبالرغم أنَّ هذه الفتوى ترتَّب عليها منعُه من الفتوى ومنعه من الخطابة، فإنه لم يرضخ، ولم يتراجَع، ولم يداهِن.
 
3- السلطان عبدالحميد الثاني: حاول "تيودور هرتزل" مساومةَ السلطان عبدالحميد وإغراءه بالمال مقابل أن يَسمح لأفواج المهاجرين اليَهود أن تسافِر إلى فلسطين، والسماح لهم بإقامة مستوطنات بها، فما كان من السلطان عبدالحميد إلَّا أن ردَّ ردًّا حاسمًا ومزلزِلًا على هذا الطَّلب، وكتب رسالةً قال فيها: "انصحوا الدكتور هرتزل بألَّا يتَّخذ خطوات جدِّية في هذا الموضوع؛ فإنِّي لا أستطيع أن أتخلَّى عن شِبر واحد من أرض فلسطين؛ فهي ليست ملك يميني، بل ملك الأمَّة الإسلامية، ولقد جاهَد شَعبي في سبيل هذه الأرض، ورواها بدمه، فليحتفظ اليَهود بملايينهم، وإذا مزقَت دولة الخلافة يومًا، فإنَّهم يستطيعون آنذاك أن يَأخذوا فلسطينَ بلا ثمَن، أمَّا وأنا حيٌّ، فإن عمَل المبضع في بدني لأهوَنُ عليَّ من أن أرى فلسطين قد بُترَت من دولة الخلافة، وهذا أمر لا يكون، إنِّي لا أستطيع الموافقةَ على تشريح أجسادنا ونحن على قيد الحياة".
نتيجة لهذا الرَّفض القاطِع تمَّت المؤامرات اليهودية ضد السلطان عبدالحميد، إلى أن تمكَّنوا من استصدار أمرٍ بعزل السلطان عبدالحميد، وإحاطته بحِراسة مشدَّدة، بعد أن جُرِّد من كلِّ ممتلكاته، إلى أن توفِّي في 10 فبراير 1918م، عن عمرٍ يناهز 76 عامًا.
إنَّ هذه الأمانة وعدم الانصياع لمطالب الخيانة، جعلَت العلماءَ والمفكِّرين ورجال السياسة يُمجِّدون السلطانَ عبدالحميد بأحرف من نور، ستظلُّ باقية ما بقي الزمان.
• يقول جمال الدين الأفغاني في حق السلطان عبدالحميد: "إنَّ السلطان عبدالحميد لو وُزِن مع أربعة من نوابِغ رجال العَصر، لرجَحَهم ذكاءً ودهاءً وسياسة".
• وأنصفه البطريرك الماروني إلياس الحويك قائلًا: "لقد عاش لبنان وعاشَت طائفتنا المارونيَّة بألف خير وطمأنينة في عهد السلطان عبدالحميد الثاني، ولا نَعرف ماذا تخبئ لنا الأيام بعده".
• هذه ما هي إلَّا نماذج من أُناس عَرفوا معنى الأمانة التي أبَت السموات والأرض والجبال أن يَحمِلْنَها وأشفقنَ منها، والخير في هذه الأمَّة مَوصول إلى أن يرِث الله تعالى الأرضَ ومَن عليها.
 
ثامنًا: أقوال مأثورة عن الخيانة: لفَداحة هذه الآفة وشناعتها وبشاعتها، توارثَت الأجيال أقوالًا وحِكمًا وأمثالًا للتَّحذير منها، ومن مَغبَّة الوقوع فيها أو التلطُّخ بأوحالها.
1- يقول أبو بكر الصدِّيق رضي الله عنه: "أكيس الكيْس التَّقوى، وأحمق الحمق الفجور، وأصدق الصِّدْق الأمانة، وأكذب الكذب الخيانة".
2- قال الإمام علي رضي الله عنه: "مَن ضيَّع الأمانة ورضي بالخيانة، فقد تبرَّأ من الديانة".
3- كما يقول أيضًا:
أدِّ الأمانةَ، والخيانةَ فاجتنِبْ = واعدِل ولا تظلِم يطيب المكسَبُ
4- قال الأعور الشني:
لا تأمنَنَّ امرأً خان امرأً أبدًا ♦♦♦ إن من الناس ذا وَجهين خوَّانَا
5- قال الفيلسوف الفرنسي دنيس ديدرو: "الراعي الذي يَفتخر بالذئب لا يحبُّ الخراف".
6- يقول المثل الأيرلندي: "من الأفضل أن يكون أمامك أسَد مفترس، على أن يكون وراءك كلبٌ خائن".
7- قال نابليون بونابرت: "مثل الذي خان وطنَه وباع بلادَه، مثل الذي يَسرِق من مال أبيه ليطعم اللُّصوص؛ فلا أبوه يسامحه، ولا اللِّص يكافئه".
8- قال الشاعر معن بن أوس:






أُعَلِّمُه الرمايةَ كُلَّ يَومٍ
فلمَّا اشتدَّ ساعِدهُ رَماني


وَكَم علَّمتُه نظمَ القوافِي
فَلمَّا قالَ قافيةً هجاني


أعلمه الفُتُوَّة كلَّ وَقتٍ
فلمَّا طَرَّ شارِبُه جَفاني






(طَرَّ: نبت).
9- يقول المثل الفرنسي: "الخيانة تُغفر، ولا تُنسى".
10- يقول المفكِّر الإسلامي عبدالكريم بكار: "إن انشغال النَّاس بالجزئيات والأمَّةُ تُجتثُّ من جذورها، من أعظم الخيانة لها وللمنهجِ الربَّاني الذي كُلِّفنا بحمله".
11- يقول المثل الروماني: "كفى بالمرء خيانة أن يكون أمينًا للخونة".
12- قال أحد الشعراء:
إنَّ الخيانةَ ليس يغسلُها ♦♦♦ مِنْ خاطئٍ دمعٌ ولا ندمُ
• ومن المؤكد أنَّ هناك الكثير والكثير من الأدبيَّات في هذا الجانب، ولكن نكتفي بما ذُكِر للدلالة والتذكير.
 
تاسعًا: جزاء خيانة الوطن في الإسلام:
إنَّ خيانة الأوطان كما يُطلق عليها: هي (الخيانة العظمى)؛ وذلك لما يترتَّب عليها من إهلاك للحَرث والنَّسل، وتهديدٍ لكيان الوطَن بأكمله؛ فهي ليست كغيرها من الخيانات، وبالتالي لا بدَّ وأن تكون عقوبتها من أغلَظ العقوبات.
 
وسبق أن ذكَرنا قولَ الإمام الذهبي حين قال: "الخيانة قَبيحة في كلِّ شيء، وبعضها شرٌّ من بعض، وليس مَن خانك في فَلْس كمَن خانك في أهلك ومالك وارتكب العظائم".
 
• قال الإمام القرطبي في تفسير قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ...
[الممتحنة: 1]، قال: "من كثر تطلُّعه على عورات المسلمين، وينبِّه عليهم ويعرِّف عدوَّهم بأخبارهم، لم يكن بذلك كافرًا إذا كان فِعله لغرَض دنيوي، واعتقاده على ذلك سَليم؛ كما فعل حاطِب حين قصد بذلك اتِّخاذ اليَد، ولم يَنوِ الردَّة عن الدِّين".
 
وقال أيضًا: "إذا قلنا: لا يكون بذلك كافرًا، فهل يُقتل بذلك حدًّا أم لا؟ اختلف الناس فيه؛ فقال مالك وابن القاسم وأشهب: يَجتهد في ذلك الإمامُ، وقال عبدالملك: إذا كانت عادته تلك، قُتل؛ لأنَّه جاسوس، وقد قال مالك بقَتل الجاسوس، وهو صحيح؛ لإضراره بالمسلمين، وسعيِه بالفساد في الأرض، ولعلَّ ابن الماجشون إنما اتَّخذ التكرار في هذا؛ لأنَّ حاطبًا أُخذ في أول فعله"؛ والله أعلم.
 
عاشرًا: ختام وتوصيات: إنَّ ما يَقي الأفراد والشعوبَ والأمم من مَغبَّة هذه الآفة المشؤومة التي تفرِّق الشَّملَ، وتضيِّع الجهود، وتبدِّد الطاقات، وتضيِّع النَّسل والثروات، هو:
1- الانتصار على النَّفس وهواها بزيادة الإيمان بالله تعالى.
2- حُسن اللُّجوء إلى الله عزَّ وجل حين يَضعف الإيمان ويوسوس الشيطان.
3- تقديم المصلحة العامة على أيِّ مصلحة أو نفع شخصي.
4- نَشر العدل، واحترام كَرامة الفرد، وتوفير ضروريات الحياة؛ حتى لا يكون ضعاف النفوس من الأفراد لقمةً سائغة لأعداء الأمة.
5- تربية النَّشء وكافَّة المجتمع على معنى الانتماء وحبِّ الوطن.
6- إبراز نَماذج المخلصين من أبناء الأمَّة، وكيف مجَّدهم التاريخ ورفَع من شأنهم.
7- إبراز نماذج الخائنين من أبناء الأمَّة، وكيف لعَنهم التاريخ وحطَّ من قدرهم.
8- التفكُّر في نتائج هذا الأمر الذي تعافُه الفِطرة السليمة؛ فالخائن مهما انتفَش فهو في نفسه وضيع، وفي أنفس الناس كذلك؛ فهو سيِّئ السُّمعة في حياته وبعدَ مماته، بل يُخلف عارًا تتوارثه ذرِّيته من بعده، فتعيش مُنكسرةً ذليلة مَنبوذة، فالتاريخ لا يُمجِّد خائنًا، ولا يُعلي له قدرًا، علاوة على المصير الذي ينتظره بين يدي الله تعالى.
 
نسأل اللهَ تعالى أن يحفظ أمَّتنا من كيد الكائدين، وتدبيرِ الخائنين، إنَّه سبحانه وليُّ ذلك والقادر عليه.

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير