أرشيف المقالات

آية وظلال

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
آيةٌ وظلال
 
يقول تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ﴾ [سبأ: 50].
توقفتُ أمام هذه الآية، واستعظمتُ كثيرًا الغفلة التي نحيا فيها في ظلامٍ مهينٍ بعيدًا عن نور الوحي، ولكأني لم أسمعها، ولم تتلقَّها نفسي الضالَّة بهذه العذوبة وهذا الجلال من قبل، أيُّ غفلةٍ تتملكنا والآية نصٌّ صريح يردُّ به القرآنُ ردًّا قاطعًا على الذين يتهوَّكون ويتردَّدون في معاني الدِّين وتُعجبهم عقولهم المريضة فيحاربون نصوص الشرع بهواهم المفضوح؟!
 
إن الذِّكر الحكيم يُرسِل توجيهًا مباشرًا لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو أتقى الخلق ليكون الخطابُ عامًّا إلى أمَّته إلى يوم الدين، وخاصًّا لأولئك الذين يعبدون هواهم ويرَوْن الدِّين بعقولهم الفاسدة، توجيهًا بأن يُعلنها صراحةً أنَّ الهُدى قطعًا وحصرًا هو في الوحي لا في العقول المُتباينة والأهواء الشاردة.
 
يقول الدكتور عبد الكريم الخطيب في قوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ﴾ [سبأ: 48]؛ والمراد بالقذف بالحق: رمي الباطل بالحق حتى يصرعه؛ فالقذف: هو الرمي الشديد، كما يُقذف بالحجر أو نحوه، ليصيب مقتلًا من عدو.
 
وذلك ما يُشير إليه قوله تعالى: ﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ﴾ [الأنبياء: 18]، وقوله تعالى: ﴿ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ﴾ [سبأ: 48] بدل من قوله تعالى: ﴿ يَقْذِفُ بِالْحَقِّ ﴾ [سبأ: 48]؛ أي أنه سبحانه لا يقذف بالحقِّ هكذا خبط عشواء، تعالى الله عن ذلك عُلوًّا كبيرًا، إنه يقذف به عن علم، فيقع حيث يشاء، وحيث يُصيب الباطل في مقاتله.
 
وقوله تعالى: ﴿ قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ﴾ [سبأ: 49]؛ هو تعقيب على الآية السابقة، التي قرَّرت أنَّ الله سبحانه وتعالى لا يُنزِّل إلا ما هو حق، ولا يرمي إلا بما هو حق.
وها هو ذا الحق قد جاء فى هذه الدعوة التي يحملها الرسول الكريم في آيات الله المطهَّرة، وإنَّها لحقٌّ قُذف به هذا الباطل الذي يعيش في مجتمع الجاهلين، وليس بعد هذا القذف إلَّا أن يلقى الباطل مصرعه، وتختفي أشباحُ الضَّلال، وأشياعه.
 
فقوله تعالى: ﴿ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ﴾ [سبأ: 49] إشارة إلى أنَّ الباطل قد أُصيب في مقاتله، وأنه لن تقوم له بعد اليوم قائمة، ولن يكون له بعد اليوم صوتٌ يُسمَع، فالمرادُ بنفي البدء والإعادة لازمها، وهو عدم التأثير؛ أي أنَّه - الباطل - يفقد كل آثاره وأفعاله، بعد أن يُقذَف بالحقِّ، كما يقول سبحانه: ﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ﴾ [الأنبياء: 18]، وقوله تعالى:﴿ قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ﴾ [سبأ: 50]؛ والمعنى: أن هذا الحقَّ الذي جاء، إن ضللت عنه ولم أتَّبع هديه، فإنَّما عاقبة هذا الضلال واقعةٌ عليَّ، وإن اهتديت بهذا الهُدى واستقمت على طريقه، ففي هذا النَّجاة لي والغنيمة التي أغتنمها منه.
 
وفى قوله تعالى: ﴿ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي ﴾ [سبأ: 50]؛ إشارةٌ إلى أن هُدى القرآن هو الهُدى، وأنه لا هُدى إلا منه، وأنَّ مَن التمَسَ الهدى في غيره ضلَّ، وخاب، وخسر.
وفى هذا إشارةٌ أيضًا إلى أنَّ مصدر الهُدى، هو اللهُ سبحانه وتعالى، وأنه من هذا الهدى الإلهي يهتدي النبيُّ، ويهتدي المهتدون، فالنبي - وهو رسول الله - إنَّما يلتمس الهُدى من هذا القرآن، الذي هو حقٌّ للناس جميعًا، ليس للنبيِّ فيه إلا ما للناس جميعًا.
 
ومن هنا، فإنه لا حقَّ له - صلوات الله وسلامه عليه - في أن يطلب أجرًا على شيءٍ هو مُشاعٌ في الناس كالنور، والهواء، والماء، وفى هذا أيضًا دعوة إلى مَن يجدون فى أنفسهم أنفة أو كِبرًا أن يأخذوا من القرآن حظَّهم من الهُدى؛ إذ كان النبيُّ هو الذي يحمله، ويدعو إليه، وفي هذا دعوةٌ لهم أن يتخفَّفوا من هذا الشعور، وأن ينظروا إلى القرآن باعتباره المصدر الذي جاء منه، وأنَّه من عند الله، وليس من عند محمد، وأن محمدًا يأخذ حظَّه من هُدى الله هذا، فليأخذوا هم حظَّهم كذلك - من غير حرج، وليرتووا من هذا النَّبع العذب، وألَّا يُهلِكوا أنفسهم، بسبب أن كان القائم على هذا النبع رجلًا منهم!
 
وقوله تعالى: ﴿ إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ﴾ [سبأ: 50]؛ أي: ليس الله سبحانه وتعالى بعيدًا عن هذا الهُدى الذي يدعوهم إليه رسول الله، إنَّه قريبٌ منهم، سميعٌ لهمسات شفاههم، وخفقات قلوبهم، إنَّه سبحانه أقرب إليهم وإلى هذا الهُدى من رسول الله، وأنَّهم إذا جاؤوا إلى هذا الهُدى وجدوا الله عنده، فما لهم لا يتلقَّون الهُدى من الله، إن أنفوا أن يتلقَّوه من رسول الله؟
إنَّ في هذه الحجة إلزامًا لهم، وقطعًا لكلِّ عذرٍ يعتذرون به، ويبقى للرسول مع هذا مقامه من ربه، ومكانه من الدعوة إلى الله! [1]
 
والسِّياق ابتداءً في خطاب الكافرين، قال البغويُّ: إن كفار مكَّة كانوا يقولون للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: إنَّك قد ضللت حتَّى تركت دين آبائك؛ فأنزل الله تعالى: ﴿ قُلْ ﴾ [سبأ: 50]؛ أي: يا محمد، ﴿ إِنْ ضَلَلْتُ ﴾ [سبأ: 50]؛ يعنى: ما تديَّنت به من الدين إن كان ضلالًا كما تقولون، ﴿ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي ﴾ [سبأ: 50]؛ يعنى: وبال ضلالي إنَّما يعود إلى نفسي، فكيف أختارُ الوبالَ على نفسي مع أنُّه لا جنون بي ولا منفعة دنيويَّة تعود إلي؟! ﴿ وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي ﴾ [سبأ: 50]؛ يعنى: إن كان هذا هدايةً فليس من قِبَل نفسي، ولا من عند أحدٍ من أهل هذا البلد لظهور أني أميٌّ ما كتبتُ ولا قرأتُ على أحدٍ، فليس هو إلَّا مستفادًا من الله وحيًا، فيجب عليكم أن تتَّبِعوني فتهتدوا كما اهتديتُ، فهذا استدلالٌ على النُّبوَّة[2].
 
قلتُ: وهذا في مقام إقامة الحجة والتنزُّل مع الخصم في باب الجدال، والنظم والمعنى، كعادة الجدال في القرآن؛ هو عميقٌ جدًّا وسهلٌ في الوقت نفسه، بحيث لا يستتبعه مراوغةٌ ولا احتيال الخصماء فيه، ففيه الحجة المُقنِعة القاطعة.
أمَّا على مستوى اتساع الخطاب فالحديث عن معيار الهداية والضلال، وأنَّ الهداية التامَّة هي في اتِّباع الوحي من الله تعالى، وإلى استنباط المعنى العامِّ الذي قصدتُ ذهب الزمخشريُّ - بدقيق نظره - في كشَّافه، فقال: فإن قلتَ: أين التقابل بين قوله: ﴿ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي ﴾ [سبأ: 50] وقوله: ﴿ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي ﴾ [سبأ: 50]، وإنَّما كان يُمكن أن يُقال: فإنما أضلُّ على نفسي، وإن اهتديت فإنَّما أهتدي لها؛ كقوله تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ﴾ [فصلت: 46]، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضلَّ فإنما يضلُّ عليها.
 
أو يُقال: فإنما أضلُّ بنفسي في مُقابل، إنَّما أهتدي بما يُوحي إليَّ ربي.
قلتُ: هما متقابلان من جهة المعنى، لأنَّ النفس كل ما عليها فهو به، أعني: أنَّ كلَّ ما هو وبالٌ عليها وضارٌّ لها فهو بها وبسببها؛ لأنَّها الأمَّارة بالسُّوء، وما لها مما ينفعها فبهداية ربِّها وتوفيقه، وهذا حكمٌ عامٌّ لكلِّ مُكلَّف، وإنما أمر رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم أن يسنده إلى نفسه؛ لأن الرسول إذا دخل تحته مع جلالة حمله وسداد طريقته كان غيره أولى به [3].
وبمثل هذا المعنى قال الفخر الرازيُّ في تفسيره [4].
 
قلتُ - جامعه -: وفي هذا كله تقرير أنَّ المعصوم في باب الهداية والضلال هو الوحي المقدَّس، وأن ما سواه ليس بمعصومٍ ولا مسلَّمٍ له مهما بلغ من النَّظر والفَهم، فالمَهديُّ مَن هداه الله إلى نور الكتاب والسُّنَّة، والضالُّ مَن حُرم بركتهما.
وفيه إشارةٌ إلى أن منشأ الضَّلالة نفس الإنسان، فإذا وُكِلت النفس إلى طبعها لا يتولَّد منها إلَّا الضَّلالة، وأن الهداية من مواهب الحقِّ تعالى ليست النَّفسُ منشأها؛ ولذلك قال تعالى: ﴿ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى ﴾ [الضحى: 7] [5].
 
قلتُ: والمقصود من وصف الضلال هنا بعضه؛ أي: عدم اكتمال الهداية، فالهداية الكاملة لا تكون إلا بوحيٍ من الله تعالى، ولذلك ترى في الفلسفة الإغريقيَّة في محاورة (سيمياس) مع فيلسوف فيثاغورثي مثله عن الروح وانقطاع حُجَجهم، وتوقُّف عقولهم، أنَّهم اعترفوا أن محاولة الخوض فيما وراء الطبيعة بالعقول كرَجلٍ تمسَّك في بحرٍ عاتٍ بقطعةِ خشبٍ وطلب الهداية في البحر والنجاة، بينما التمسُّك بوحيٍ ودين ٍكرجلٍ ركب سفينة في ذلك البحر فاهتدى ونجا.
 
قال العلَّامة ابن كثير: فالخير كلُّه من عند الله، وفيما أنزله اللهُ عزَّ وجلَّ من الوحي والحقِّ المبين، فيه الهُدى، والبيان، والرَّشاد، ومَن ضلَّ فإنَّما يضلُّ من تِلقاء نفسه، كما قال عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، لما سُئل عن تلك المسألة في المفوِّضة: أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأً فمنِّي ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه[6].
والحمد لله رب العالمين


[1] التفسير القرآني للقرآن (11/ 843).

[2] التفسير المظهري (8/ 38).

[3] تفسير الزمخشري: الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (3/ 592) بتصرفٍ يسير.

[4] قال الرازي: هذا فيه تقرير الرسالة أيضًا؛ وذلك لأنَّ الله تعالى قال على سبيل العموم: ﴿ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ ﴾ [الزمر: 41]، وقال في حقِّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: ﴿ وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي ﴾ [سبأ: 50]؛ يعني ضلالي على نفسي كضلالكم، وأمَّا اهتدائي فليس بالنَّظر والاستدلال كاهتدائكم، وإنما هو بالوحي المبين؛ انظر تفسير الرازي: مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (25/ 217).


[5] روح البيان (7/ 309)

[6] تفسير ابن كثير ت سلامة (6/ 527).

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١