أرشيف المقالات

كيف أتوب؟ (2)

مدة قراءة المادة : 17 دقائق .
2كيف أتوب؟ (2)
الحمد لله ربِّ العالمين، أشهد أنْ لا إله إلا الله وحْدَه لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصَحْبه، ومَن تَبِعهم بإحسان إلى يوم الدِّين.   أمَّا بعدُ: نتابع حجج أهْل المعاصي، وهي كثيرة، ولكنْ نكتفي هنا بذِكْر حجة ثالثة غير ما ذكرناهما بالمقالة الأولى، وفيهما الكفاية؛ ليُدْرِك القارئ الكريم بفِطْنته زَيْفَها وضحالتها جميعًا، والله المستعَان.   الحجة الثالثة: أنا أريدُ أن أتوبَ ولكنَّ النساء أخطرُ الفِتَن على الشباب غير المتزوِّج، وتبرُّجهن وكَشْفهن ما يجب إخفاؤه، مع صعوبة تكاليف الزواج، وخوف الفتاة من تقدُّم السِّنِّ دون زواج، أدَّى إلى وقوعهما معًا في الْحرام بجَهْلٍ بالشرع، أو تعمُّد وقَصْدٍ، والحال مستمر باستمرار السبب، والغريزة الجنسيَّة من أخطر غرائز الإنسان، فهل يكفي ما نسمعه من مواعظَ عن الصوم وغَضِّ البصر؟ وإلى متى؟ وماذا عن الشيطان والنفس الأمَّارة بالسوء؟ فكيف أتوبُ ودوام الطاعة مع هذه الفِتن والانفلات الذي لا يردعه دينٌ أو قانون من المحال أن تستمرَّ؟   وللردِّ على هذه الحجة نقول: إنَّ الغريزة الجنسيَّة حقًّا من أخطر غرائز الإنسان، ولقد أباحَ الله - تعالى - لنا إرواءَ هذه الغريزة بالزواج الحلال؛ لحِفْظ النَّسْل، وإنشاء جِيلٍ جديدٍ، واستمرار تعمير الأرض، وقيام الإنسان بمسؤوليَّته في تحمُّل واجبات الخلافة ومسؤوليَّاتها الجسيمة.   وبَدهي أنَّ الوضْع الفِطري أنَّ المرأة هي المطلوبة، والرجل هو الطالب لها، والقائم على مُتطلَّبات الزواج كلِّها، اللهم إلا إذا شاركتْه المرأة في بعض هذه الأشياء من باب العُرف السائد في دنيا الناس، وهو أمرٌ غير مُلزم لها، ولكنَّه محمودٌ في ذاته؛ لقوله - تعالى -: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [المائدة: 2].   إنَّ النساء - كما هو معلوم - من أخْطَر الفِتن؛ لأنها المرغوبة؛ ولهذا جعَلَها الله - تعالى - أوَّل مَراتب الشهوات وأخطرها على الإطلاق؛ قال - تعالى -: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾ [آل عمران: 14]، والزواج هو الحلُّ الجذري لقَطْع دابر الفتنة التي نشأتْ بسبب هذا الانفلات؛ ولكن، بكل مصداقيَّة وحِياد أقول: ساعَدَ على هذا الانفلات تبرُّج النساء، وكَشْفُهن ما يجب إخفاؤه، مع صعوبة تكاليف الزواج، وإعراض الشباب عنه؛ لعجزهم عن مُؤْنته، ورُبَّما لخوف الفتاة من تقدُّم السِّنِّ دون زواج، ورُبَّما لِمَيْلها الغريزي للتزيُّن وجَذْب انتباه الشباب؛ لإرضاء أنوثتها ونفسها الأمَّارة بالسوء، ورُبَّما لغير ذلك.   وقد أدَّى ذلك كلُّه إلى إشعال الفتنة، وتهيُّج الغريزة الجنسيَّة للجنسيين إلى أقصى حَدٍّ، ومع زيادة العُري والاختلاط الفاحش بحجة المساواة، والْخَلوة المدمِّرة للشَّرف والفضيلة بلا حسيب أو رقيب، أو رادعٍ من دِين أو أهْل بحجة الحريَّة الشخصيَّة، ومُحَاولة إرضاء النفْس بالحرام الميسور بعد أن صارَ الحلال صعبًا.   وكانت النتيجة الطبيعيَّة لهذا الهبوط والانفلات أنْ تراجَعَ الوازع الديني وما تعارَفَ عليه الناس من قِيمٍ وأخلاقيَّات بين الشباب والفتيات معًا، إلاَّ مَن رَحِم ربِّي، ولَجَأ الشبابُ من الجنسيين إلى إرضاء ذاته وشَهَواته بطُرقٍ مَزالقُها خَطِرة، أدَّتْ إلى تفَشِّي الفجور في المجتمع،  فانتشرَ بينهم الزواج السِّرِّي، والزواج العُرْفي الذي لا يستندُ إلى أركان الزواج الصحيح؛ من موافقة الوَلِي، والشهود، والصَّدَاق، والإشهار، وإنما هو زواجٌ "مودرن" على هوى النفْس؛ لإشباع الغرائز المكبوتة؛ لارتفاعِ تكاليف الزواج وصعوبته.   ورغم كل ذلك، فليس صلاح النفس وتقواها وبُعْدها عن عوامل الإثارة المهيجة للشهوة - حتى يقضي الله  تعالى أمرًا كان مفعولاً - بمستحيل، فقط ما علينا إلا أنْ نتَّبِع الصراط المستقيم؛ قال - تعالى -: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾ [الأنعام: 153].   ولذا فمقولة: إنَّ الصوم وغَض البصر لا ينفعان في هذا الزمان، مَقولةٌ غير صائبة بالمرة، بل هي حجة ضعفاء الإيمان والإرادة، الذين أسلموا قِيادتهم للشيطان وأوليائه، ولو تمهَّلوا وتدبَّروا لوجدوا في "غَضِّ البصر والصوم" الملاذَ من فتنة النساء، ولو زادوا عليهما أمرًا ثالثًا، وهو أمرٌ جَوْهَري يتقدَّم الصوم وغَض البصر، بل هو العمود الفقري لهما، ولا فائدة منهما إنْ أهْمَله المرءُ، وها هي الأمور الثلاثة لِمَن أراد النجاةَ والفلاح بشيءٍ من البيان والتوضيح.
  الأمر الأول والجوهري: قوة الإرادة والعزيمة: يقول ابنُ القَيِّم (ص182) في كتابه "طريق الهجرتين" ما مُختصره: وكذلك النفس: فما يحصل لها من شَرٍّ، فهو منها ومن طبيعتها، ولوازم نَقْصها وعَدمها، وما يحصل لها من خَيْرٍ، فهو من فَضْل الله ورحمته، والله خالقُها وخَالقُ كل شيءٍ قامَ بها؛ من قُدْرة وإرادة، وعِلْم  وعمل، وغير ذلك...
إلى أنْ قال: فالنفس لا تكون إلا مُريدة عاملة، فإن لم توفَّق للإرادة الصالحة، وإلا وقعتْ في الإرادة الفاسدة، والعمل الضار، وقد قال - تعالى -: ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ ﴾ [المعارج: 19 - 22].   فأخبر - سبحانه - أنَّ الإنسان خُلِق على هذه الصفة، وأنَّ مَن كان على غيرها فلأجْل ما زكاه الله به من فَضْله وإحسانه، وقال  - تعالى -: ﴿ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 28].   قال طاوس ومُقاتل وغيرهما: لا يصبر عن النساء، وقال الحسن: هو خَلْقُه من ماءٍ مهين، وقال الزجَّاج: ضَعف عَزْمه عن قَهْر الهوى، والصواب: أنَّ ضَعْفه يعم هذا كله، وضعفه أَعظم من هذا وأَكثر؛ فإنَّه: ضعيف البنْيِة، ضَعيف القوَّة، ضعيف الإرادة، ضعيف العِلم، ضعيف الصبر، والآفاتُ إليه مع هذا الضَّعف أسرعُ من السيل في صيب الحدور، فبالاضطرار لا بدَّ له مِن حافظٍ مُعين، يُقَوِّيه ويُعينه، وينصره ويساعده، فإن تخلَّى عنه هذا المساعد المعين، فالهلاك أقربُ إليه من نفسه...
ثم قال: فالقدرة إن لم يكنْ معها حِكمة، بل كان القادر يفعل ما يريده بلا نظرٍ في العاقبة، ولا حِكمة محمودة يَطْلبها بإرادته، ويَقْصدها بفِعْله، كان فِعْلُه فسادًا، كصاحب شهوات الغَي والظلم، الذي يفعل بقوَّته ما يريده من شهوات الغَي في بَطْنه وفَرْجِه ومِن ظُلْم الناس، فإن هذا وإنْ كان له قوَّة وعِزَّة، لكنْ لَمَّا لَم يقْتَرن بها حِكمة، كان ذلك معونة على شَرِّه وفساده، وكذلك العِلم كماله أن تَقترن به الحِكمة، وإلاَّ فالعالم الذي لا يريد ما تَقتضيه الْحِكمة وتوجبه، بل يريد ما يهواه، سَفِيهٌ غاوٍ، وعِلمه عَونٌ على الشرِّ والفساد، هذا إذا كان عالِمًا، قادرًا، مُريدًا، له إرادة من غير حِكْمة، وإن قُدِّرَ أنَّه لا إرادة له بحال، فهذا أولاً مُمتنع من الحي، فإن وجودَ الشعور دون حبٍّ ولا بُغض ولا إرادة ممتنعٌ، كوجود إرادة دون الشعور، وأمَّا القُدرة والقوَّة إذا قُدِّر وجودُها دون إرادة، فهي كقوة الجماد، فإن القوة الطبيعيَّة التي هي مبدأ الفِعْل والحركة لا إرادة لها، وقد قال بعضُ الناس: إنَّ للجماد شعورًا يليق به، واحْتَجَّ بقوله - تعالى -: ﴿ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 74]، وبقوله - تعالى -: ﴿ فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ ﴾ [الكهف: 77].   وهذه المسألة كبيرة تحتاج إلى كلامٍ لا يَليق بهذا الموضِع، والمقصود أنَّ العلم والقُدرة المجرَّدين عن الحِكمة لا يحصل بها الكمال والصلاح، وإنَّما يحصل ذلك بالْحِكمة معها، واسمه - سبحانه - ((الحكيم)) يتضمَّن حِكْمته في خَلْقه وأمْره في إرادته الدينيَّة والكونيَّة، وهو حكيمٌ في كلِّ ما خَلَقه وأمَرَ به"؛ أ .هـ.   ولعلَّنا لو ذَكَّرْنا القارئ بقصة مراودة امرأة العزيز ليوسف - عليه السلام - لكُفِي وشُفِي، وأدْرَكَ المقصود بقوَّة الإرادة هنا؛ قال الشوكاني في تفسير الجزء :3/ 23، لقوله - تعالى -: ﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾ [يوسف: 23].   المراودة: الإرادة والطلب برِفْقٍ ولِين، وقيل: هي مأخوذة من الرَّود؛ أي: الرِّفْق والتأنِّي، يُقال: أَرْوِدْنِي: أمْهِلني، وقيل: المراودة مأخوذة مِن رادَ يَرود: إذا جاء وذَهَب، كأن المعنى: أنَّها فعلتْ في مراودتها له فِعْل المخادِع، ومنه الرائد لِمَن يطلبُ الماء والكَلأ، وقد يخصُّ بمحاولة الوِقَاع، فيُقال: رَاوَدَ فلانٌ جاريته عن نفسها، ورَاوَدَتْه هي عن نفسه: إذا حاول كلٌّ منهما الوطء والْجِماع، وهي مفاعَلة، وأصلُها أن تكونَ من الجانبين، فجعل السببَ هنا في أحد الجانبين قائمًا مقامَ المسبب، فكأن يوسف - عليه السلام - لما كان ما أُعطيه من كمال الْخَلق، والزيادة في الْحُسن سببًا لمراوَدَة امرأة العزيز له - مُراوِدٌ، وإنَّما قال: ﴿ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا ﴾، ولم يَقل: امرأة العزيز أو زليخا؛ قصْدًا إلى زيادة التقرير، مع استهجان التصريح باسمِ المرأة، والمحافظة على الستر عليها، ﴿ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ ﴾، قيل: في هذه الصيغة ما يدلُّ على التكثير، فيُقال: غَلَّق الأبواب، ولا يُقال: غَلَق الباب، بل يُقال أغْلَق الباب، وقد يُقال: أغْلَق الأبواب، ومنه قول الفرزدق في أبي عمرو بن العلاء: مَا زِلْتُ أُغْلِقُ أَبْوَابًا وَأَفْتَحُهَا حَتَّى أَتَيْتُ أَبَا عَمْرِو بْنَ عَمَّارِ قيل: وكانتِ الأبواب سبعة.   قوله: ﴿ هَيْتَ لَكَ ﴾: ومعنى هَيْتَ على جميع القراءات معنى هَلُمَّ وتَعالَ؛ لأنها من أسماء الأفعال، ثم قال: وقد رُوي عن ابن عباس والْحَسن أنَّها كلمة سريانيَّة، معناها: أنها تدعوه إلى نفسها، قال أبو عبيدة: كان الكِسائي يقول: هي لغة لأهل "حوران" وقعتْ إلى أهل الحجاز، معناها: "تعالَ"، قال أبو عبيدة: فسألتُ شيخًا عالِمًا من "حوران"، فذَكَر أنها لغتهم.   ﴿ قال معاذ الله ﴾؛ أي: أعوذ بالله معاذًا مما دعوتِني إليه، فهو مصدر منتصبٌ بفِعْلٍ محذوف مُضاف إلى اسم الله - سبحانه - وجملة ﴿ إنَّه ربِّي أحسن مثواي ﴾: تعليل للامتناع الكائن منه ببعضِ الأسباب التي هي أقربُ إلى فَهم امرأة العزيز، والضمير للشأْن؛ أي إن الشأْنَ ربِّي؛ يعني: العزيز؛ أي: سيِّدي الذي ربَّاني وأحْسَن مثواي؛ حيث أمَرَكِ بقوله: ﴿ أكْرِمي مثواه، ﴾ فكيف أخُونُه في أهْله، وأجيبك إلى ما تريدين من ذلك؟! وقال الزجاج: إنَّ الضمير لله - سبحانه - أي: إن الله ربِّي تولاَّني بلُطْفِه، فلا أركب ما حَرَّمه، وجملة ﴿ إنَّه لا يفلح الظالمون ﴾ تعليل آخرُ للامتناع منه عن إجابتها، والفلاح: الظفر، والمعنى: أنه لا يظفر الظالمون بمطالبهم، ومِن جملة الظالمين الواقعون في مثل هذه المعصية التي تَطلبها امرأة العزيز من يوسف"؛ ا.
هـ.   الأمر الثاني والثالث: الصوم وغَض البصر: بعد هذا الكلام القَيِّم ندركُ أنَّ الإرادة السليمة حقًّا مَن لَجَأ صاحبُها إلى خالقه يلتمس عنده الدواء، والرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم - بيَّن لنا العلاج والدواء، فقد أخْرَجَ البخاري في النكاح وغيرُه أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((يا معشر الشباب، مَن استطاع منكم الباءَة فليتزوَّج، ومَن لَم يستطعْ فعليه بالصوم؛ فإنَّه له وِجَاءٌ)).   قال الحافظ ابن حجر عند شَرْح الحديث: ((فعليه بالصوم فإنَّه له وِجَاء))؛ بكَسْر الواو وبجيم ومَدٍّ، وهو رَضُّ الْخُصْيَتين، وقيل: رَضُّ عُروقهما، ومَن يُفْعَل به ذلك تنقطع شهوتُه، ومقتضاه أنَّ الصوم قامعٌ لشهوة النكاح، واستشكلَ بأنَّ الصوم يزيد في تهييج الحرارة، وذلك مما يُثير الشهوة، لكن ذلك إنَّما يقع في مبدأ الأمر، فإذا تمادَى عليه واعتادَه، سَكَن ذلك، والله أعلم".   وأما غَضُّ البصر، فقد قال - تعالى -: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ﴾ [النور: 30 - 31].   وفيما أخرجه أبو داود وغيره في النكاح عن جرير قال: سألتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نظرة الفَجْأة، فقال: ((اصرفْ بَصَرك)).   وقال ابن القَيِّم في "زاد المعاد"، الجزء :2/ 27: "لَمَّا كان المقصود من الصيام حَبْسَ النفس عن الشهوات، وفطامها عن المألوفات، وتعديل قُوَّتها الشهوانيَّة؛ لتستعدَّ لطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها، وقَبول ما تزكو به مما فيه حياتها الأبديَّة، ويَكسر الجوع والظمأ من حِدَّتها وسَوْرتها، ويذكِّرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين.   وتُضَيَّق مَجاري الشيطان من العبد بتضييق مَجاري الطعام والشراب، وتُحْبَس قُوَى الأعضاء عن استرسالها لِحُكم الطبيعة فيما يضرُّها في معاشها ومعادها، ويُسَكّن كل عضو منها، وكل قَوَّة عن جِماحه، وتُلْجَم بلجامه، فهو لِجام المتقين، وجُنَّة المحاربين، ورياضة الأبرار والمقرَّبين، وهو لربِّ العالمين من بين سائر الأعمال، فإنَّ الصائم لا يفعل شيئًا، وإنما يتركُ شهوتَه وطعامه وشرابه من أجْل معبوده، فهو تَرْكُ محبوبات النفس وتلذُّذاتها؛ إيثارًا لمحبَّة الله ومَرْضاته، وهو سرٌّ بين العبد ورَبِّه، لا يطلع عليه سواه، والعباد قد يطلعون منه على تَرْك المفطِّرات الظاهرة، وأما كونُه تَرَك طعامَه وشَرابَه وشهوتَه من أجل معبوده، فهو أمرٌ لا يطَّلع عليه بَشَرٌ، وذلك حقيقة الصوم، وللصوم تأثيرٌ عجيب في حِفْظ الجوارح الظاهرة والقُوَى الباطنة، وحِمايتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التي إذا استولتْ عليها أفسدتها، واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صِحَّتها، فالصوم يحفظُ على القلب والجوارح صِحَّتها، ويعيدُ إليها ما استلبتْه منها أيدي الشهوات، فهو من أكبر العون على التقوى؛ كما قال - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183].   وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الصوم جُنَّة))، وأمر من اشتدَّتْ عليه شهوة النكاح ولا قُدرة له عليه بالصيام، وجعله وِجَاءَ هذه الشهوة.   والمقصود: أنَّ مصالح الصوم لَمَّا كانتْ مشهودة بالعقول السليمة، والفِطَر المستقيمة، شَرَعه الله لعباده؛ رحمةً بهم، وإحسانًا إليهم، وحِمْيَة لهم وجُنَّة.   وكان هَدْي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه أكملَ الهدي، وأعظم تحصيل للمقصود، وأسهله على النفوس، ولَمَّا كان فَطْمُ النفوس عن مألوفاتها وشهواتها من أشقِّ الأمور وأصعبها، تأخَّر فرضُه إلى وسط الإسلام بعد الهجرة، لَمَّا توطَّنتِ النفوس على التوحيد والصلاة، وألِفَتْ أوامر القرآن، فنُقِلَتْ إليه بالتدريج"؛ ا.هـ.   والحجج - كما قلتُ سلفًا - كثيرة، ولكن يَكفي ما ذكرناه من حجج وتبريرات لبيان مقصودنا من المقالة، والله من وراء القَصْد وهو يهدي السبيل.



شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢