أرشيف المقالات

ارجع فصل فإنك لم تصل

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
2ارجع فصل فإنك لم تصل   عن أبي هُرَيرةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رجلاً دخل المسجد فصلَّى ورسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في ناحية المسجد، فجاءَ فسلَّم عليه، فقال: ((وعليك، ارجع فصلِّ؛ فإنَّك لم تُصلِّ بعدُ))، فرجع فسلَّم عليه، فقال: ((ارجعْ؛ فإنَّك لم تُصلِّ بعدُ))، فقال في الثالثة: فعَلِّمني يا رسولَ الله، فقال: ((إذا قُمتَ إلى الصلاة، فأسْبِغ الوضوء، ثم استقبل القِبلة فكَبِّر، ثم اقرأ بما تيسَّر معك مِن القرآن، ثم اركعْ حتى تطمئنَّ راكعًا، ثم ارفعْ حتى تعتدلَ قائمًا، ثم اسجدْ حتى تطمئنَّ ساجدًا، ثم ارْفعْ حتى تستوي قائمًا - أو قال: قاعدًا - ثم افعلْ ذلك في صلاتك كلِّها)). هذا الحديثُ قاله النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - منذُ أربعةَ عشر قرْنًا، وما زال حالنا يردِّد: ((ارجِعْ فَصَلِّ؛ فإنَّك لم تصلِّ)).   الصلاة رُوح الإسلام يعرُج بها الإنسان إلى ربِّه في اليوم خمسَ مرَّات، في صِلة ووُدٍّ، ومحبَّة ورحمة، في ظل سِياج القرآن والذِّكر، إنها الصلاة التي فرَضها الله في السماء؛ ليسموَ الإنسان بها عن كلِّ خُلق ينافي أخلاق الإسلام، ليسمو برُوحه وعقله وقلْبه إلى جوار ربه، بعيدًا عن الشهوات الإنسانية التي تهبط بالإنسان إلى الرذائل، يسمو بنفسه بعيدًا عن الشيطان وشركه، إنَّها رُوح الحياة، وذلك إذا أقيمتْ بأركانها وخشوعها.   فالحياة لا فلاحَ فيها في ظلِّ التكاسل عن الصلاة التي تربط العبدَ بربه، وتجعله في حالة صِلة دائمة لا تنقطع حتى عندَ نومه، فهو قد أدَّى صلاة - صلاة العَشاء - وينتظر صلاة - صلاة الفجر - وبينهما صلاة - قِيام الليل - فهو في صلاةٍ ما انتظر الصلاة، فصِلته بربِّه لا تنقطع أبدًا، ويظلُّ في صلاة ما عمِل بهذه الصلاة وحوَّلها إلى برنامج عملي يحيَا بها طِيلةَ يومه، فالذين لا تنهاهم صلاتهم عن الفحشاء والمنكَر، فهُم في انقطاع عن الصلاة وإنْ ركعوا وسَجَدوا.   وعندما يتأمَّل الإنسان في حالِ كثير من الذين يغشُّون ويخدعون، ويَكذبون ويُخلفون العهود والمواثيق، الذين لا يرحمون صغيرًا ولا كبيرًا، الذين يظلمون ولا يَعْدِلون مع رعاياهم، يجد أنَّهم لم يُصلُّوا بالكلية، أو أنَّهم مُسيئون في صلاتهم كحالِ المسيء في صلاته الذي أدَّى حركات الصلاة وهو أبعدُ الناس عن الصلاة، حتَّى وهو متلبِّس بها، فكيف إذا خرَج منها؟! بالطبع سيكون الحالُ أسوأَ وأسوأ، وسنرى فسادَه في الأرض ليلَ نهارَ.   فصلاة العبد بالجسد دون حضور الرُّوح واستشعارِ الآيات التي تُتلى عليه، والأذكارِ التي يُردِّدها في ركوعه وسجوده، وعندَ انتقاله من رُكن إلى آخَر - صلاةُ خِداع؛ لأنَّ صاحبها ما زال في نِطاق ((ارجعْ فصلِّ؛ فإنَّك لم تصلِّ))، وبعد ذلك يصير العبد خارجَ نِطاق الخِدمة، بمعنى أنه يصلي ويُهمل حقوقَ الله وحقوق العباد.   إنَّ الصلاة التي ضيَّعها كثير من الناس بتركها بالكلية، أو بالغشِّ في تأديتها، هذه الصلاة هي عينُ فلاح الأمة وتقدمها؛ قال - تعالى -: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴾ [المؤمنون: 1 - 9].   ويَنبغي للمصلِّي أن يخشَع في كلِّ صلاته بقلْبه وبجوارحه، وذلك بمراعاة ما يلي: أ- ألاَّ يحضر فيه غير ما هو فيه من الصلاة. ب- وأن يخشَع بجوارحه بألاَّ يعبثَ بشيء من جسده كلِحيته، أو من غير جسده كتسويةِ رِدائه أو عمامته، بحيث يتَّصف ظاهره وباطنه بالخشوع، ويستحضر أنَّه واقف بين يدي ملك الملوك الذي يعلم السرَّ وأخْفَى يناجيه، وأنَّ صلاته معروضةٌ عليه. جـ- أن يتدبَّر القراءة؛ لأنَّه بذلك يكمل مقصود الخشوع. د - أن يُفرِّغ قلبه عن الشواغل الأخرى؛ لأنَّ هذا أعونُ على الخشوع، ولا يسترسل مع حديثِ النفس، قال ابن عابدين: واعلم أنَّ حضور القلب فراغه مِن غير ما هو ملابس له، والأصل في طلبِ الخشوع في الصلاة قوله - تعالى -: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾ [المؤمنون: 1 - 2]، فسَّرَ عليٌّ - رضي الله عنه - الخشوع في الآية: بلِين القلْب وكفِّ الجوارح، وقول النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما مِن مسلمٍ يتوضأ فيُحسِن وُضوءَه، ثم يقوم فيصلي ركعتين مُقْبِل عليهما بقَلْبه ووجهه، إلاَّ وجَبَتْ له الجنة))، وما رَوى أبو هريرة - رضي الله عنه: أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - رأى رجلاً يعبث بلحيته في الصلاة، فقال: ((لو خشَع قلبُ هذا، لخشعتْ جوارحه))، (الموسوعة الكويتية 117/39).   إنَّ هذا الخشوع في الصلاة هو مِفتاحُ الأمل، بل مِفتاح النجاة، حيث يترتَّب على الخشوع الآتي - كما ذكرت الآيات -: 1- الفلاح: والفلاح أعمُّ مِن النجاح؛ لأنَّ النجاح قد يكون جزءًا في الشيء الذي يكون الإنسانُ بصددِه، أمَّا الفلاح فيكون شاملاً لكل أمور الحياة، بل شاملاً لأمور الدنيا والآخِرة، فخشوع الإنسان في صلاته يَضمن له السعادةَ في الدنيا والآخرة. 2- الخشوع يحفَظُ الإنسان مِن اللَّغو، ومِن الوقوع في الحرام؛ لأنَّه حفِظ الله وهو واقفٌ بين يديه، فحفظه الله مِن الشيطان ومِن نفسه الأمَّارة بالسوء، فمهما راودتْه الفواحشُ، فهو مستعصم بالله. 3- الخشوع يَمْنَع الإنسانَ مِن البخل، فيؤدِّي زكاةَ ماله، بل ويكثر مِن الصدقات؛ لذا ذَكَر الله صِفة ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ﴾ [المؤمنون: 4] بعدَ ذِكر صفة الخشوع. 4- كما أنَّ الخشوع يحفظ المالَ العام؛ لذا ذَكَر الله من صفاتِ الخاشعين أنَّهم ﴿ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾ [المؤمنون: 8]. 5- المِنحة الأخيرة في الآيات للخاشعين الجَنَّةُ، بل عبَّر الله عن هذه المنحة بقوله: ﴿ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [المؤمنون: 11].   فحَبيبي في اللهِ، هل تريد أن تكونَ مع الوارثين، أم أنَّك تريد أن يُقال لك: ((ارجعْ فصلِّ؛ فإنَّك لم تُصلِّ))؟!



شارك الخبر

مشكاة أسفل ٣