أرشيف المقالات

شكرًا يا رب

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
2شكرًا يا رب   الحمدُ والشُّكر لله وحْده، الذي يؤمِّن بعد خوف، ويُطمئِن بعدَ قلق وحيْرة، ويُفرِّج الهموم بعد غمٍّ وكرْب، ويَشرح الصدورَ ويَهدي القلوب، ويُحرِّر بعد استعباد، ويُعز بعد ذِلَّة، ويُذل بعد عزة، ومَن يذل فإنَّما بما قدَّمتْ يداه؛ ﴿ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [آل عمران: 182].   كم مِن رؤُوس رُفِعتْ بغَير حقٍّ، وأخرى خفضتْ - أيضًا - بغير حق! كم مِن طُغاة ظنُّوا أنَّ الدُّنيا لهم؛ يعطون مَن يشاؤون ويَمنعون مَن يشاؤون، فسلبتْ منهم دُنياهم، وهَلَك عنهم سُلطانهم، وكأنَّما الآن قبل الآخِرة يقولون بصوتٍ واحد: ﴿ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ﴾ [الحاقة: 29]، وسيسمعون الآن - أيضًا - قبلَ الآخِرة: ﴿ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ﴾ [الحاقة: 30 - 31]. إنَّها سُنَّة إلهيَّة متواترة أكثر مِن تواتر أحداث التاريخ، إنَّها سُنَّة ماضية باقية، لن يستطيع الظالمون محوَ آثارها، إنَّها سُنة: لأنصُرنَّك ولو بعدَ حين، ولقد حُبس خالد بن برمك وولده في نكبة البَرامكة المعروفة، قال ولده: "يا أبتِ، بعد العزِّ صِرْنا في القيْد والحبس!"، فقال: "يا بُني، دعوةُ مظلوم سرَتْ بليل، غفلنا عنها ولَم يغفلِ الله عنها"!   وكان يَزيد بن حكيم يقول: "ما هِبتُ أحدًا قطُّ هيبتي رجلاً ظلمتُه، وأنا أعلم أنه لا ناصرَ له إلا الله، يقول: حسْبي الله، الله بيني وبينك"! إنَّنا جعلنا بيننا وبين الظالمين: حسبنا الله، الله بيننا وبينكم.   وها نحن قد رأيْنا بأعيننا ممالكَ وعروشَ الظالمين تسقُط، ممالك وعروش ظلَّت جاثمةً على صدور الضعفاء سنواتٍ عديدةً، حتى ألفتْ صدور الضعفاء ضغْطة وحمل الظالمين، وسكتَتْ أصواتهم، وحُبستْ أنفاسهم، فلا تسمع لهم هَمسًا، حتى تيقَّنوا مواتهم عندما لم يشعروا بحراكهم، ولكن سرعان ما تحرَّكتِ الأجساد وخرجتْ مِن كُهُوفها؛ لتُسمع العالَم كله بصوت واضح وقوَّة الأسد الهصور: ها نحن قدْ قوَّتْنا الصدمات وشدَّت ظهورنا، خرجْنا لنقول لكم - بل ولكل طاغية -: ها نحن ما زِلنا أحياء، وما زِلنا شُرفاء، نهتِف بصوتٍ عالٍ: ما زلنا أحرارًا، وقد جاء يوم لتُصبحوا أنتم العبيد، تسمعون لنا وتلبون طلباتنا، وتقولون: سَمِعْنا وأطعنا.   وكل ذلك ليس بِمَحْضِ قوَّتنا ولا كثرة حِيلتنا، ولكن بقوَّة مَن له المُلك، الذي يُعز مَن يشاء ويُذل مَن يشاء: ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 26].   يقول صاحب المنار: "ألاَ وإنَّ مشيئته في إيتاء الملْك ونزْعه، وخفْض الملك ورفْعه، واعتزاز السلطان وإذلاله، ليستْ مشيئةً استبداديَّة مغيِّرة لسُننه الاجتماعيَّة، وإنما جعَل لكلِّ شيءٍ سببًا، ولكلِّ أمر مقاديرَ وسُننًا، فما مِن أمَّة تفرَّقتْ كلمتُها، وغلَب عليها الجهلُ بحقوقها، واعتقاد وجوب التقديس لأُمرائها وملوكها، وكثُر فيها المنافِقون، وقلَّ فيها الصادقون - إلا وابتليتْ بالمستبدِّين، ومُنِيت بالظالمين، يسومونها سوءَ العذاب، ويَقطعون عنها الأسباب، فيأكلون الأموال، ويستذلُّون الرِّجال، ويجعلون الحرائرَ إماءً؛ ليتمتَّعوا بالمِئات من النساء، ويعبثون بالشريعة، ويجنون على الأخلاقِ والآداب، فيذلُّون أُمَّتهم، ويُضعِفون دولتهم، فإذا استيقظتِ الأمَّة من سُباتها، واجتمعتْ بعدَ شتاتها، وعرفَتْ حقوقها، وغيَّرت ما بأنفُسها مِن تقديس السلاطين، وأرادتْ أن تجعل الحُكم فيها للشريعة، فإنَّ الله يغيِّر ما بها من الذُّلِّ والعبودية، فتستبدل بهما العِزَّ والحرية، من حيث يُذل ظالميها، ويُهلك مذلِّيها؛ ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ﴾ [الرعد: 11].   لقدْ صدَقَنا وعْدَه ووعيده، وأرانا بأعيننا مصداقَ كتابه، ورأينا الحصونَ التي تحصَّن بها الطغاة تهوي وتتهاوى: ﴿ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [الحشر: 2].   نعمْ، إنَّ في ذلك لكُبْرى العِبر، لمن يعقل ويتدبَّر؛ ﴿ كَلاَّ وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ * إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ * نَذِيرًا لِلْبَشَرِ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ﴾ [المدثر: 32 - 37]، فقد أدْبر ليلُ الظُّلم والاستبداد، وأسْفَر صبحُ العدل والحريَّة، فمُيِّز بيْن الإصلاح والإفساد، وذهَب الغي وجاء الرَّشاد، فما أشبهَ الليلةَ بالبارحة!   فشكرًا لك يا رب، شكرًا لك يا رب، الذي بنعمته تتمُّ الصالحات، وبمحض فضْله نصول ونجول، لقدْ أعطيتَنا يا ربَّنا فوق ما نُريد وما لا نُريد، فشكرًا لك يا رب، ولكن الاعتراف بنِعمة الله والشُّكر على هذه النِّعمة دون ترْجَمة عملية قد يُحوِّل النِّعمة إلى نِقمة، فلا بدَّ أن نعرِف مَن الذي وهبَنا النِّعم ونصرَنا؟ ولماذا نصرَنا؟ وكيف نحافظ على هذا النَّصر؟ وهل تَحقَّق النصرُ الكامل؟ وكيف نصِل إلى نصر كامل تقرُّ به العيون؟   إنها أسئلةٌ كثيرة تحتاج إلى إجابات، والإجابات تحتاج إلى وقفات ووقفات، تحتاج إلى رُجوعٍ كامل إلى الله بكلِّ ما نملِك، نرجع إلى الله بقلوبنا ليطهرَها لنا، ونرجِع بأنفسنا إليه - سبحانه - ليزكِّيَنا مِن كلِّ مخالفة عقديَّة وأخلاقيَّة وسلوكيَّة، نرجِع إلى حُكمه وشَرْعه، وإلى عدْله، نحتاج أن نرجِع إليه أفرادًا وجماعات، لا نعمل إلا لَه، ولا نَتَوَكَّل إلا عليه، نُخلِص في وجهتِنا، ونتناصح فيما بيننا، يا أمَّة الإسلام، اعْتَصِموا بالقُلُوب والأرواح والأجساد، لا نُريد اعتصامَ اللسان الذي يظهر في كلمات باهتة لا تُسمِن ولا تُغني من جوع.



شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير