أرشيف المقالات

درجات الاستغفار

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
2درجات الاستغفار   الاستغفار يختلف من حال إلى أخرى، ومن شخص إلى آخر، ولذلك فقد ذكر العلماء أن للاستغفار أحوالاً ودرجات، بعضها أفضل من بعض، وهي كما يأتي: الدرجة الأولى: الاستغفار باللِّسان: وهو أدنى الدَّرجات، وله فوائدُ عديدة، ومنافعُ كثيرة، ومنها: أنَّه خيرٌ من السُّكوت، ومنها: أنه يتعوَّد صاحِبُه على الخير، والمداومةِ عليه، ومنها: أنَّه يدعو العبد إلى الطَّاعات، والابتعاد عن الشَّر، ومنها: أنه يُرجَى به حصولُ الاستجابة من الله الكريم الغفَّار، ولكن إن كان مع الإصرارِ على الذَّنب فقد يكون مانِعًا من الإجابة؛ لِما جاء في الحديث: عن عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - عن النبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال وهو على المنبر: ((ارحَمُوا تُرحَموا، واغفِروا يَغفر الله لكم، ويلٌ لأقماع)) جمع قمع، وهو الإناء الذي يترك في رؤوس الظُّروف؛ لتملأ بالمائعات، ((القولِ، ويلٌ للمُصرِّين، الذين يصرُّون على ما فعلوا، وهم يَعلمون))[1]. ورُوِي في الأثر عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((التائب مِن الذَّنْب كمَن لا ذنب له، والمستغفِرُ من الذنب وهو مُقيمٌ، كالمُستهزئ بربِّه، ومن آذى مسلمًا كان عليه من الإثم مثلُ كذا وكذا)) ذكر شيئًا[2].   ورُوي عن الضحَّاك - رحمه الله - أنه قال: "ثلاثةٌ لا يَسمع الله لهم دعاءً: رجل معه امرأة زنا، كلَّما قضى شهوتَه منها، قال: ربِّ اغفر لي، فيقول الربُّ: تحوَّلْ عنها وأنا أغفِر لك وإلاَّ فلا. ورجل باع بيعًا إلى أجَلٍ مسمًّى، ولَم يُشهِد، ولَم يكتب، فكابره الرجل بِماله، فيقول: يا ربِّ، كابرَنِي بِمالي، فيقول الربُّ: لا آجرُك ولا أنجيك، إنِّي أمرْتُك بالكتاب والشُّهود، فعصَيْتَني. ورجلٌ يأكل مالَ قوم وهو ينظر إليهم، ويقول: يا ربِّ، اغفر لي ما أكلْتُ من مالِهم، فيقول الربُّ: رُدَّ إليهم مالَهم، فأغفر لك، وإلاَّ فلا"[3].   قال ابن رجب - رحمه الله -: "وإن قال بلسانه: أستغفِرُ الله، وهو غير مُقلِع بقلبه فهو داعٍ لله بالمغفرة، كما يقول: "اللَّهمَّ اغفر لي"، وهو حسَنٌ، وقد يُرجى له الإجابة، وأمَّا من قال توبة الكذَّابين فمراده أنَّه ليس بتوبةٍ كما يعتقده بعض النَّاس، وهذا حق؛ فإنَّ التوبة لا تكون مع الإصرار"[4]. وقال أيضًا: "ومُجرَّد قول القائل: "اللَّهم اغفِر لي" طلَبٌ منه للمغفرة، ودعاءٌ بِها، فيكون حكمه حُكْمَ سائر الدُّعاء؛ فإنْ شاء الله أجابه وغفر لصاحبه، لا سيَّما إذا خرج عن قلبٍ منكسِر بالذُّنوب، أو صادف ساعةً من ساعات الإجابة كالأسحار، وأدبار الصَّلوات"[5].   فالاستغفار باللِّسان إن لَم يتبعه توبةٌ وإنابة، فهو استغفارُ الكذَّابين؛ كما قال بعض العارِفين: "مَن لَم تكن ثَمرةُ استغفارِه تصحيحَ توبته، فهو كاذبٌ في استغفاره". وقال بعضُهم: "استغفارُنا هذا يَحتاج إلى استغفارٍ كثير".   وأنشد بعضهم شعرًا حول هذا المعنى فقال: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ لَفْظَةٍ بَدَرَتْ خَالَفْتُ مَعْنَاهَا وَكَيْفَ أَرْجُو إِجَابَاتِ الدُّعَاءِ وَقَدْ سَدَدْتُ بِالذَّنْبِ عِنْدَ اللَّهِ مَجْرَاهَا[6] الدرجةُ الثانية: الاستغفار بالقلب: فهو قويُّ الأثرِ في تصفية القلوب من الكدر، وجزيل النَّفع، وبه تفرج الهُموم، والغموم والكروب، وبه تَنْزل الرحمات والبركات، وتفيض النفحات، وهو أعلى درجةً من الدرجة الأولى.   الدرجة الثالثة: الاستغفار بالقلب واللسان: وهذا أفضل الدرجات، وأعلاها وأكمَلُها، وهي درجة الخواصِّ والكُمَّل من عباد الله، وبه تَجتمع الفضائل، ويصلح العباد، وبه تُغفَر الزلاَّت، وتكفَّر الخطيئات، وتضاعف الحسنات. ومذهب أهل السُّنة الجزمُ بترتُّب المغفرة على الاستغفار المقرون بالتَّوبة الصحيحة، المتوفِّرة للشروط المعتبَرَة فيها، قال بعضُهم: "الاستغفار جامعٌ لِمعانٍ: أوَّلُها الندم على ما مضى، الثاني: العزم على التَّرك، الثالث: أداءُ ما ضيَّعت من فرض لله، الرابع: ردُّ المظالم في الأموال والأعراض، والمُصالحةُ عليها، الخامس: إذابةُ كلِّ لحم ودمٍ نبت على الحرام، السادس: إذاقةُ ألَمِ الطاعة كما وجدت حلاوة المعصية"[7].   وهذه هي شروط التوبة النصوح؛ كما تدل على ذلك نصوص الكتاب والسنة الصحيحة، ومِن ذلك: قولُه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((التَّائب من الذَّنب كمن لا ذنب له))، ولِمَا جاء في الحديث الصحيح عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنَّ الشيطان قال: وعزَّتِك يا رب، لا أبرح أُغْوِي عبادك ما دامَتْ أرواحهم في أجسادهم, فقال الربُّ - تبارك وتعالى -: وعزَّتِي وجلالي، لا أزال أغفِرُ لَهم ما استغفروني))[8].   فيَنبغي للمسلم أن يَسعى للمعالي، وأن يُبادر بالتوبة قبل انقطاع الأيام واللَّيالي، وأن تكون هامتُه تناطحُ القِمم العوالي؛ حتَّى يفوز بالمغفرة للذُّنوب الخوالي، مِمَّن وعده بذلك، فقال: ((يا بنَ آدم، إنَّك ما دعوتني ورجوتني غفرتُ لك على ما كان فيك، ولا أبالي، يا بن آدم، لو بلغَتْ ذنوبُك عنانَ السماء، ثم استغفرتني غفرتُ لك، ولا أبالي، يا بن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تُشرِك بي شيئًا، لأتيتُك بقرابها مغفرة))[9]. جعلنا الله من أهل عفوه ومغفرته، وصلَّى الله وسلَّم على سيِّد المستغفرين، وحبيب ربِّ العالَمين، والمبعوث رحمةً للعالَمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.  

[1] رواه أحمد في "المسند"، وصححه الألبانيُّ في "صحيح الجامع". [2] رواه البيهقيُّ في "شُعَب الإيمان"، وقد ضعَّفه الألباني في "ضعيف الجامع" 2498. [3] "الزهد" لهناد بن السري (2/ 455). [4] "جامع العلوم والحكم"، ص(2/ 410). [5] "جامع العلوم والحكم"، ص(2/ 408). [6] "جامع العلوم والحكم"، ص(2/ 410). [7] "سِيَر أعلام النبلاء" (11/ 535). [8] رواه أحمد وأبو يعلى والحاكم، وقال: "صحيح الإسناد"، وحسَّنَه الأرناؤوط. [9] رواه الترمذي في "جامعه"، وصححه الألبانيُّ.



شارك الخبر

مشكاة أسفل ٣