أرشيف المقالات

شعار الإسلام

مدة قراءة المادة : 47 دقائق .
2شعار الإسلام   نِداء نسمعه كلَّ يوم خمسَ مرَّات، معلِمًا بدخول وقت الصلاة المفروضة؛ إنَّه صوت الحق، وعنوان التوحيد، وشعار الإسلام، إنَّه "الأذان". هذا النِّداء له أهميَّة عظيمة في دِين الإسلام، فهو علامةٌ بارزة للتفريق بيْن دار الكُفر ودار الإسلام؛ لذلك فقد أحببتُ أن نقِف وقفاتٍ سريعةً حول هذا الموضوع، والله نسأل أن ينفعنا بما علَّمنا، وأن يُعلِّمنا ما ينفعُنا.   الوقفة الأولى: القصة الأولى للأذان: في بدايةِ الأمر كان المسلمون إذا حان وقتُ الصلاة اتَّجهوا إلى بيوت الله - عزَّ وجلَّ - تلقائيًّا، بلا نداء ولا أذان؛ فعن ابن عمرَ - رضي الله عنهما - قال: "كان المسلمون حين قدِموا المدينة يجتمعون، فيتحيَّنون الصلاة، ليس يُنادَى لها، فتَكلَّموا يومًا في ذلك، فقال بعضُهم: اتَّخذوا ناقوسًا مِثل ناقوس النَّصارَى، وقال بعضهم: بل بُوقًا مثل قرن اليهود، فقال عمر: أوَلا تبعثون رجلاً يُنادي بالصلاة، فقال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يا بلالُ، قم فنادِ بالصلاة))[1].   وعن محمَّد بن عبدالله بن زيد عن أبيه قال: "كان رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد همَّ بالبوق، وأمَر بالناقوس فنُحِت، فأري عبدالله بن زيد في المنام، قال: رأيتُ رجلاً عليه ثوبان أخضران يحمل ناقوسًا، فقلت له: يا عبدَالله، تبيع الناقوس؟ قال: وما تصْنَع به؟ قلت: أُنادي به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلُّك على خيرٍ مِن ذلك؟ قلت: وما هو؟ قال: تقول: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلاَّ الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أنَّ محمدًا رسولُ الله، أشهد أنَّ محمَّدًا رسولُ الله، حيَّ على الصلاة حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح حيَّ على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، قال: فخرَج عبدُالله بن زيد، حتى أتى رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأخبره بما رأى، قال: يا رسولَ الله رأيتُ رجلاً عليه ثوبانِ أخضرانِ يحمل ناقوسًا، فقصَّ عليه الخَبر، فقال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ صاحبكم قد رأى رُؤيا، فاخْرُج مع بلال إلى المسجد فألْقِها عليه، ولينادِ بلالٌ؛ فإنَّه أنْدَى صوتًا منك))، قال: فخرجت مع بلالٍ إلى المسجد، فجعلتُ ألقيها عليه وهو يُنادي بها، قال: فسمِع عمر بن الخطَّاب بالصوت، فخرج فقال: يا رسولَ الله، واللهِ لقد رأيت مثل الذي رأى، فقال أبو عبيد: فأخبرني أبو بكر الحكميُّ أنَّ عبدَالله بن زيدٍ الأنصاري قال في ذلك: أَحْمَدُ اللَّهَ ذَا الْجَلاَلِ وَذَا الْإِكْ رَامِ حَمْدًا عَلَى الْأَذَانِ كَثِيرَا إِذْ أَتَانِي بِهِ البَشِيرُ مِنَ اللَّ هِ فَأَكْرِمْ بِهِ لَدَيَّ بَشِيرَا فِي لَيَالٍ وَالَى بِهِنَّ ثَلاَثٍ كُلَّمَا جَاءَ زَادَنِي تَوْقِيرًا"[2]   الوقفة الثانية: تعريف الأذان والإقامة: الأذان لغة: الإعلام؛ قال تعالى: ﴿ وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [التوبة: 3]؛ أي: إعلام. وشرعًا: الإعلام بدخولِ وقت الصلاة بذِكْر مخصوص. والإقامة لغة هي: مصدر أقام، وحقيقتُها إقامة القاعد.
وشرعًا: الإعلام بالقيام إلى الصلاة بذِكْر مخصوص، ورَد به الشارع[3].   وسُمِّي الأذان بذلك؛ لأنَّ المؤذِّنَ يُعلِم الناس بمواقيت الصلاة، ويُسمَّى النداء؛ لأنَّ المؤذن ينادي الناس، ويدعوهم إلى الصلاة؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾ [المائدة: 58]، وقال: ﴿ إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [الجمعة: 9].   الوقفة الثالثة: حكمهما: الأذان والإقامة مشروعان في حقِّ الرِّجال للصلوات الخمس دون غيرها، وهما مِن فروض الكفايات؛ إذا قام بهما مَن يكفي سقط الإثمُ عن الباقين؛ وهما مِن شعائر الإسلام الظاهرة، فلا يجوز تعطيلهما، وقد أمَر بهما النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في عِدَّة أحاديث، منها: حديث مالك بن الحُوَيرث - رضي الله عنه - وفيه قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إذا حضرتِ الصلاة فليؤذِّنْ لكم أحدُكم))[4]. ولملازمته - عليه الصلاة والسلام - لهما في الحضَر والسَّفَر؛ ولأنَّه لا يتم العِلم بالوقتِ إلا بهما غالبًا، ولتعين المصلحة بهما؛ قال ابنُ تيميَّة - رحمه الله -: "وفي السُّنة المتواترة أنَّه كان يُنادَى للصلوات الخمس على عهد رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وبإجماع الأمَّة، وعملها المتواتر خَلَفًا عن سلَف"[5].   الوقفة الرابعة: الحِكمة من مشروعية الأذان: شرع الأذان لحِكم عدَّة، منها: 1- إظهار شعار الإسلام والتوحيد. 2- الإعلام بدخول وقت الصلاة. 3- الإعلام بمكان الصلاة. 4- الحثّ على صلاة الجماعة، والدعاء إليها، وغير ذلك مِن الحِكم التي لأجلها شُرِع الأذان.   الوقفة الخامسة: بعض فضائل الأذان: للأذان فضائل عديدةٌ، ومنها الآتي: أولاً: به تُحَقن الدِّماء وتُصان، ويميز بيْن دار الكفر والإيمان؛ فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يغير إذا طلع الفجر، وكان يستمع الأذان، فإن سمع أذانًا أمسك وإلا أغار، فسمع رجلاً يقول: الله أكبر الله أكبر، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: على الفطرة، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، فقال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((خرجتَ من النار))، فنظروا فإذا هو راعي مِعزًى[6]. قال الخطَّابي - رحمه الله -: "فيه مِن الفقه أنَّ إظهار شعار الإسلام في القِتال، وعندَ شنِّ الغارة يحقن به الدَّم، وليس كذلك حال السلامة والطُّمأنينة التي يتَّسع فيها معرفةُ الأمور على حقائقها، واستيفاء الشُّروط اللازمة فيها"[7].   ثانيًا: أنه لا أحسن قولاً منه؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [فصلت: 33]. قال ابنُ عمر - رضي الله عنهما - وعكرمة - رحمه الله -: "إنَّها نزلتْ في المؤذِّنين"[8].   ثالثًا: عِظم الأجْر عند الله؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لو يعلمُ الناس ما في النِّداءِ والصفِّ الأوَّل، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاسْتَهموا عليه، ولو يعلمون ما في التهجيرِ لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمةِ والصُّبح لأتوهما ولو حبوًا))[9]. قال النووي - رحمه الله -: "النِّداء هو الأذان، والاستهام الاقتراع، ومعناه: أنَّهم لو علِموا فضيلةَ الأذان وقدره، وعظيم جزائه، ثم لم يجدوا طريقًا يحصلونه به لضيقِ الوقت عن أذانٍ بعد أذان، أو لكونه لا يُؤذِّن للمسجد إلا واحدٌ، لاقْتَرعوا في تحصيله"[10].   رابعًا: أنَّ المؤذن يشهد له كلُّ مَن سمعه؛ فعن عبدالله بن عبدالرحمن بن أبي صَعْصعةَ أنَّ أبا سعيد الخُدري - رضي الله عنه - قال له: ((إنِّي أراك تحبُّ الغنم والبادية، فإذا كنتَ في غنمِك أو باديتك فأذَّنْتَ للصلاة فارفعْ صوتَك بالنِّداء، فإنَّه لا يسمع مدَى صوت المؤذِّن جِنٌّ ولا إنس ولا شيءٌ إلا شهِد له يومَ القيامة))، قال أبو سعيد: سمعتُه من رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم[11]. قال ابن عبدالبرِّ - رحمه الله -: "فالمدى الغاية حيث ينتهي الصوت، فأمَّا فَهْم الجماد والموات، فلا يُدرك كيفيةَ ذلك إلاَّ الله، وفي قوله تعالى: ﴿ يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ﴾ [سبأ: 10]؛ أي: سبِّحي معه، وقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ﴾ [الإسراء: 44]، وقوله: ﴿ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ ﴾ [الدخان: 29] ما يشهد لهذا المعنى"[12]. ففي هذا الحديث: دليلٌ على استحباب أذان المنفرِد ورفْع الصوت بالنداء، والسر في هذه الشهادة مع أنَّها تقَع عند عالِم الغيب والشهادة اشتهار المشهود له يومَ القيامة بالفضل وعلوِّ الدرجة، وكما أنَّ الله يفضَح بالشهادة قومًا، فكذلك يكرم بالشهادة آخرين.   خامسًا: مِن أعظم الأسلحة الطاردة للشيطان؛ فعن أبي هُرَيرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إذا نُودي بالصلاة أدْبَر الشيطان وله ضراط؛ حتى لا يسمع التأذين، فإذا قُضي النِّداء أقبل، حتى إذا ثوَّب للصلاة أدْبَر، حتى إذا قُضي التثويب أقبل، حتى يخطرَ بيْن المرء ونفسه يقول: اذكر كذا، واذكر كذا، لما لم يذكُر من قبل، حتى يظلَّ الرجل ما يَدري كم صلَّى))[13]، والتثويب: الإقامة. قال ابنُ عثيمين - رحمه الله -: "في هذا الحديثِ فائدتان عظيمتان: بيان فضْل الأذان، وأنَّه يطرد الشياطين"[14]. وقال ابنُ الجوزي - رحمه الله -: "على الأذان هيبةٌ يشتدُّ انزعاج الشيطان بسببها؛ لأنَّه لا يكاد يقَع في الأذان رِياء ولا غفلة عندَ النُّطق به بخلافِ الصلاة، فإنَّ النفس تحضُر فيها، فيفتح لها الشيطان أبوابَ الوسوسة". وقال ابن بطَّال: "يشبه أن يكونَ الزجرُ عن خروجِ المرء مِن المسجد بعد أن يؤذِّن المؤذن مِن هذا المعنى؛ لئلاَّ يكون متشبهًا بالشيطان، الذي يفرُّ عند سماع الأذان"[15].   سادسًا: المؤذِّنون أطولُ الناس أعناقًا يوم القيامة؛ فعن معاوية - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((المؤذِّنون أطولُ الناس أعناقًا يومَ القيامة))[16]. قال ابنُ الأمير الصنعاني - رحمه الله -: "واختلف السَّلَفُ والخلَف في معناه، فقيل: معناه أكثر الناس تشوفًا إلى رحمةِ الله؛ لأنَّ المتشوفَ يُطيل عنقَه لما يتطلَّع إليه، فمعناه كثرةُ ما يرونه مِن الثواب، وقال النضرُ بن شُميل: إذا ألجم الناسَ العرقُ يوم القيامة طالتْ أعناقهم؛ لئلاَّ ينالهم ذلك الكربُ والعرق. وقيل: معناه أنَّهم سادةٌ ورؤساء، والعرَب تصف السادةَ بطول العنق. وقيل: معناه أكثرُ أتباعًا، وقال ابن الأعرابي: أكثر الناس أعمالاً، قال القاضي عياض وغيره: ورَوى بعضهم إعناقًا بكسر الهمزة، أي إسراعًا إلى الجنة، وهو من سير العنق، قال ابنُ أبي داود: سمعتُ أبي يقول: معناه أنَّ الناس يعطشون يومَ القيامة، فإذا عطش الإنسانُ انطوت عُنقُه، والمؤذِّنون لا يعطشون، فأعناقهم قائمة، وفي صحيحِ ابن حبَّان من حديثِ أبي هريرة - رضي الله عنه -: "يُعرَفون بطول أعناقهم يومَ القيامة"، زاد السراج: لقولهم "لا إله إلا الله"، وظاهره الطول الحقيقي، فلا يجوز المصيرُ إلى التفسير بغيره إلا لملجئ، والحديث يدلُّ على فضيلة الأذان، وأنَّ صاحبه يومَ القيامة يمتازُ عن غيره"[17].   سابعًا: دعاء النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - له بالمغفرة، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الإمامُ ضامِن، والمؤذِّن مؤتمَن، اللهمَّ أرْشِد الأئمة، واغفرْ للمؤذنين))[18]. ففي هذه الحديث دعَا النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - للمؤذِّنين بقوله: ((واغفرْ للمؤذِّنين))، قال المباركفوري - رحمه الله -: "أي ما عسَى يكون لهم تفريطٌ في الأمانة التي حملوها مِن جهة تقديم على الوقْت، أو تأخير عنه سهوًا، والحديث يستدلُّ به على فضْل الأذان على الإمامة؛ لأنَّ حال الأمين أفضلُ مِن حال الضمين"[19]، وهذه مسألة خلافيَّة بيْن العلماء، أيهما أفضل المؤذِّن أو الإمام، للعلماء كلامٌ طويل هذه المسألة، ليس المقام مقامَ تفصيل ذلك.   ثامنًا: استغفار كلِّ رطب ويابس للمؤذِّن؛ فعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يُغفرُ للمؤذِّن أذانه، ويستغفرُ له كُلُّ رطبٍ ويابس))[20]. قال فيصل بن عبدالعزيز النجدي: "والسرُّ في هذه الشهادة مع أنَّها تقَع عند عالم الغيب والشهادة اشتهارُ المشهود له يومَ القيامة بالفضل وعلوِّ الدرجة، وكما أنَّ الله يفضح بالشهادة قومًا، فكذلك يكرم بالشهادة آخرين"[21].   تاسعًا: سبب مِن أسباب مغفرة الذنوب؛ فعن عُقْبةَ بن عامر - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((يَعْجَب ربُّك - عزَّ وجلَّ - مِن راعي غنَم في شظية بجبل، يؤذِّن للصلاة ويصلِّي، فيقول الله - عزَّ وجلَّ -: انظروا إلى عبْدِي هذا، يؤذِّن ويقيم الصلاة يخاف منِّي، فقد غفرتُ لعبدي، وأدخلتُه الجنة))[22].   عاشرًا: يغفر للمؤذن مدَى صوته، وله مِثل أجر مَن صلَّى معه، فعن حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - أنَّ نبي الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنَّ الله وملائكته يصلُّون على الصفِّ المقدَّم، والمؤذنُ يُغْفَرُ له مدَّ صوته، ويصدقه مَن سمعه مِن رطبٍ ويابسٍ، وله مثلُ أجْر مَن صلى معه))[23].   الحادي عشر: أنَّ مَن أذَّن محتسبًا ثنتي عشرة سنة وَجَبتْ له الجنة؛ فعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مَن أذَّن اثنتي عشرة سَنةً وجبتْ له الجنة، وكُتِب له بتأذينه في كُلِّ يومٍ ستُّون حَسَنة، وبكلِّ إقامة ثلاثُون حَسَنة))[24]، إنها الجنة! إنها أعظمُ جائزةٍ على الإطلاق!   الثاني عشر: أنَّ المؤذِّن إذا أذَّن وأقام صلَّى خلفه مِن جنود الله ما لا يُرى طرفاه؛ فعن سلمانَ الفارسي - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إذا كان الرجلُ بأرض قِيٍّ[25]، فحانتِ الصلاة، فليتوضأ، فإنْ لم يجد ماءً فليتيمم، فإنْ أقام صلى معه ملكاه، وإنْ أذَّن وأقام صلى خلْفَه من جنود الله ما لا يُرى طرفاه))[26].   الوقفة السادسة: صفات الأذان الواردة في السُّنة النبويَّة: جاءتِ السُّنة النبويَّة الصحيحة ببيان صفة الأذان الشرعيَّة، وحدَّدتْ ألفاظهما، ومِن ذلك ما يلي: 1- الصفة الأولى: أذان بلال - رضي الله عنه - الذي كان يؤذِّن به في عهدِ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو خمس عشرة جُملةً: 1- الله أكبر. 2- الله أكبر. 3- الله أكبر. 4- الله أكبر. 5- أشهد أن لا إله إلا الله. 6- أشهد أن لا إله إلا الله. 7- أشهد أنَّ محمدًا رسول الله. 8- أشهد أنَّ محمدًا رسول الله. 9- حيَّ على الصلاة. 10- حيَّ على الصلاة. 11- حيَّ على الفلاح. 12- حيَّ على الفلاح. 13- الله أكبر. 14- الله أكبر. 15- لا إله إلا الله.   2- الصفة الثانية: أذان أبي مَحْذورة - رضي الله عنه - وهو تِسع عشرة جملة، التكبير أربعًا في أوَّله مع الترجيع؛ فعن أبي محذورة - رضي الله عنه - قال: ألْقَى عليَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - التأذينَ هو بنفسه، فقال: (قل: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أنَّ محمدًا رسولُ الله، أشهد أنَّ محمدًا رسولُ الله (مرَّتين، مرَّتين) قال: ثم ارْجِع فمدَّ من صوتك: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أنَّ محمدًا رسول الله، أشهد أنَّ محمدًا رسول الله، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، حيَّ على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله))[27].   3- الصفة الثالثة: مِثل أذان أبي محذورة - رضي الله عنه - السابق، إلاَّ أنَّ التكبير في أوله مرَّتان فقط، فيكون سبع عشرة جملة.   4- الصفة الرابعة: أن يكونَ الأذانُ كلُّه مثْنَى مثْنى، وكلمة التوحيد في آخِره مفردة، فيكون ثلاث عشرة جملة؛ فعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "كان الأذان على عهدِ رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - مثْنَى مثنى، والإقامة مرَّةً مرة، إلاَّ أنَّك تقول: قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة"[28].   الوقفة السابعة: معاني الأذان: قال الإمامُ القرطبي - رحمه الله - وغيره: "اعلمْ أنَّ الأذان على قلَّة ألفاظِه مشتملٌ على مسائل العقيدة؛ لأنَّه بدأ بالأكبرية، وهي تتضمَّن وجودَ الله تعالى ووجوبه، وكماله، ثم ثنَّى بالتوحيد ونفْي الشريك، ثم ثلَّث برسالة رسولِه - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثم ناداهم لما أراد مِن طاعته المخصوصة عقِبَ الشهادة بالرِّسالة؛ لأنَّها لا تعرف إلا مِن جهة الرسول، ثم دعَا إلى الفلاح وهو البَقاء الدائم، وفيه الإشارة إلى المعاد، ثم أعاد ما أعاد توكيدًا"[29].   الوقفة الثامنة: ألفاظ زِيدت في الأذان والإقامة، وليستْ منهما: في العُصُور المتأخِّرة زاد الناس في الأذن والإقامة ألفاظًا ليستْ منهما، ابتدعوها مِن تلقاء أنفسهم، ولم تأتِ بها السُّنة النبويَّة الصحيحة، ومِن أشهر هذه الألفاظ ما يأتي: 1- قراءة بعضِ المؤذِّنين لبعض الآيات مِن القرآن، أو بعض الأدعية. 2- قول: الفاتحة إلى رُوح نبيِّنا...
إلخ، بعدَ الفراغ من الأذان، أو الصلاة والسلام على رسولِ الله وآله، أو ما أشبه ذلك. 3- ما يُسمِّيه البعض بالتسابيح، أو التواشيح، وما أشبه ذلك، قبل الأذان الثاني لصلاة الفجر، وقبل صعود الإمام إلى المنبر يومَ الجمعة؛ قال ابن الجوزي - رحمه الله تعالى - وهو يبيِّن تلبيس إبليس في الأذان: "ومنه أنَّهم يخلطون أذانَ الفجر بالتذكير والتسبيح والمواعِظ، ويجعلون الأذانَ وسطًا فيختلط، وقد كرِه العلماء كلَّ ما يُضاف إلى الأذان، وقد رأينا مَن يقوم بالليل كثيرًا على المنارة فيعظ ويذكِّر، ومنهم مَن يقرأ سورًا من القرآن بصوت مرتفِع، فيمنع الناس مِن نومهم، ويخلط على المتهجدين قراءتَهم، وكل ذلك مِن المنكرات"[30]. وقال ابنُ الحاج في "المدخل": "ويُنهى المؤذِّنون عمَّا أحدثوه مِن التسبيح بالليل، وإنْ كان ذكرُ الله - تعالى - حسنًا سرًّا وعلنًا، لكن في المواضع التي تركها الشارع - صلوات الله وسلامه عليه - ولم يعيِّن فيها شيئًا معلومًا". وقال أيضًا: "ويُنهى المؤذِّنون عمَّا أحدثوه مِن التذكار يومَ الجمعة؛ لأنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لم يفْعله، ولا أمَر به، ولا فعله أحدٌ مِن بعده من السَّلف الماضين - رضي الله عنهم - بل هو قريبُ العهد بالحدوث"[31].   4- زيادة قول: "حي على خير العمل" في الأذان والإقامة، وكذلك زيادة "سيِّدنا" في الإقامة.   5- زيادة: "أشهد أنَّ عليًّا وليُّ الله"؛ يقول ابن الحاج وهو يتحدَّث عمَّا ينهى فعله في المسجد: "وأمَّا في أثناء الأذان فقدْ أضاف الناسُ كلماتٍ وألفاظًا ليس عليها دليل، وليس عندَهم مِن الله فيها برهان، ومنها زيادة لفظة "سيدنا" في ألفاظ الإقامة، وزيادة "حيَّ على خير العمل" عندَ الأذان والإقامة، وزِيادة بعضهم جملة كاملة في ألفاظ الأذان: "أشهد أنَّ عليًّا ولي الله"، وهذا ممَّا لا يجوز زيادته في الأذان، وكأنَّهم يتَّهمون النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بعدمِ البيان، والدِّينَ بالنقصان؛ ولأن الأذان عبادةٌ مستقلَّة، لا يجوز الزيادة فيها ولا النقصان. يقول القاسمي في "إصلاح المساجد": "إنَّ ألفاظ الأذانين مأثورةٌ متعبَّد بها، رُويت بالتواتر خلفًا عن سلَف، في كتب الحديث الصحاح والحسان والمسانيد والمعاجم، ولم يروِ أحدٌ قط استحبابَ هذه الزِّيادة - يقصد لفظة "سيدنا" - عن صحابي ولا تابعي، بل ولا فقيهٍ مِن فقهاء الأئمَّة ولا أتْباعهم"[32]. فهذه ألفاظ مبتدَعة زِيدت في الأذان والإقامة، وليستْ منهما، فيجب على المؤذِّن أن يتقيَّد بألفاظ الأذان المشروعة، وألا يزيد عليها، ولا ينقُص منها؛ لأنَّ الأذان عبادة، والعبادة متوقِّفة على ما جاء في كتاب الله أو في سُنة رسوله الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - كما هو معلوم، وهذه الألفاظ لم ترِدْ في كتاب الله ولا في سُنَّة رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بل جاء عن الأئمَّة قديمًا وحديثًا النهي عنها، والتحذير منها.   الوقفة التاسعة: متابَعة المؤذن: يُستحبُّ لمَن سمِع الأذان أن يتابع المؤذِّن كما أرشدتْ إلى ذلك السُّنة النبويَّة الصحيحة، وذلك مِن خلال الأمور التالية: 1- أن يقول مِثل ما يقول المؤذِّن إلا في لفظ: "حيَّ على الصلاة، وحيَّ على الفلاح"، فيقول: "لا حولَ ولا قوَّة إلا بالله"، فعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إذا سمعتُم النِّداء فقولوا كما يقول المؤذِّن))[33]. وعن عُمرَ بن الخطَّاب - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إذا قال المؤذِّن: الله أكبر الله أكبر، فقال أحدُكم: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ثم قال: أشهد أنَّ محمدًا رسولُ الله قال: أشهد أنَّ محمدًا رسولُ الله، ثم قال: حيَّ على الصلاة قال: لا حولَ ولا قوَّة إلا بالله، ثم قال: حيَّ على الفلاح قال: لا حولَ ولا قوَّةَ إلا بالله، ثم قال: الله أكبر الله أكبر، قال: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: لا إله إلا الله قال: لا إله إلا الله مِن قلْبه دخَل الجنة))[34].   والحِكمة مِن قول المتابِع للمؤذِّن: "لا حولَ ولا قوَّة إلا بالله" أنَّ ذلك مناسِب لحال السامِع؛ قال الشوكاني - رحمه الله -: "ولأنَّ المعنى مناسِب لإجابة الحيْعَلة مِن السامع بالحوقَلة، فإنَّه لما دُعي إلى ما فيه الفوز والفلاح والنجاة وإصابة الخير ناسَب أن يقول: هذا أمرٌ عظيم لا أستطيع مع ضعْفي القيامَ به، إلا إذا وفَّقني الله بحوله وقوته؛ ولأنَّ ألفاظَ الأذان ذِكرٌ لله، فناسب أن يُجيب بها إذ هو ذكْر له تعالى، وأمَّا الحيعلة فإنَّما هي دعاءٌ إلى الصلاة، والذي يدعو إليها هو المؤذِّن، وأما السامع فإنَّما عليه الامتثال والإقبال على ما دُعي إليه، وإجابته في ذِكْر الله لا فيما عداه"[35]. وقيل: لأنَّ كثيرًا مِن الناس يسمعون المؤذِّن يصدح بألفاظ الأذان، ومنها تلك العبارات حيَّ على الصلاة؛ أي: تعالوا وهلمُّوا إلى الصلاة، ففيها الفوزُ والفلاح، فلا يلبُّون، ولا يجيبون؛ فناسَب أن يقول السامِع: "لا حولَ ولا قوَّة إلا بالله"، بل هم ساهون لاهون عن ذلك كله!   2- أن يقول عقِب تشهد المؤذِّن: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحْدَه لا شريكَ له، وأنَّ محمدًا عبدُه ورسوله، رضيتُ بالله ربًّا، وبمحمدٍ رسولاً، وبالإسلام دينًا؛ فعن سعد بن أبى وقَّاص عن رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مَن قال حين يسمع المؤذِّن: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، رضيتُ بالله ربًّا، وبمحمد رسولاً، وبالإسلام دينا، غُفِر له))[36]، وفي رواية: ((مَن قال حين يسمع المؤذِّن وأنا أشهد...))[37].   3- أن يصلِّي على النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بعدَ فراغه من إجابةِ المؤذِّن؛ فعن عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أنَّه سمِع رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((إذا سمعتُم المؤذِّن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلُّوا عليَّ، فإنَّه مَن صلى عليَّ صلاة صلَّى الله عليه بها عشرًا، ثم سلُوا الله لي الوسيلة، فإنَّها منزلةٌ في الجنة لا تَنبغي إلا لعبدٍ مِن عباد الله، وأرجو أن أكونَ أنا هو، فمَن سأل لي الوسيلةَ حلَّت له الشفاعة))[38].   4- أن يقولَ بعد صلاته على النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ما جاء في حديثِ جابر - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مَن قال حين يسمع النِّداء: اللهمَّ ربَّ هذه الدَّعوة التامَّة، والصلاة القائمة، آتِ محمدًا الوسيلةَ والفضيلة، وابعثْهُ مَقامًا محمودًا الذي وعدتَه؛ حلَّتْ له شفاعتي يوم القيامة))[39].   5- أن يدعوَ لنفْسه بعدَ ذلك، ويسأل الله مِن فضله؛ فإنَّه يُستجَاب له؛ لما جاء في حديثِ أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (الدعاء لا يردُّ بين الأذان والإقامة))[40].   الوقفة العاشرة: شروط إقامة الأذان: يُشترط لإقامةِ الأذان في مجتمعٍ ما شروط عدَّة، منها ما يلي: 1- أن يكونوا رجالاً، فلا يشرع للنِّساء أذانٌ ولا إقامة، بل يُصلِّين بلا أذان ولا إقامة[41]. 2- أن يكون الأذان للصلوات الخمس فقط، وأمَّا غيرها مِن الصلوات فلا يؤذن لها، وإنما يُنادَى: "الصلاة جامعة" في صلاتي الخسوف أو الكسوف، وأمَّا صلاة العيدين فلا يؤذَّن لها، ولا ينادى. 3- أن يكونوا جماعةً، بخلاف المنفرد، فإنَّ الأذان في حقِّه سُنَّة، وليس واجبًا.   الوقفة الحادية عشرة: شُرُوط صحة الأذان والإقامة: يُشترط لصحَّة الأذان والإقامة شروطٌ عدَّة، منها: 1- أن يكونَا مرتبين؛ أي: أن يكون الأذان سابقًا للإقامة، وكذلك الترتيب بين ألفاظ كلٍّ منهما، فلا يُقدَّم لفظٌ على آخر، بل على الصفة الواردة في السنة النبويَّة الصحيحة. 2- أن تكون جُملُ الأذان والإقامة متوالية، والمقصود بذلك التتابع بين ألفاظ الأذان، وكذلك بيْن جُمل الإقامة، وألا يكونَ بين جُمل الأذان أو الإقامة فاصلٌ مُخِل. 3- أن يكون المؤذِّن واحدًا؛ أي: في الآذن للفريضة الواحدة، فلا يصح أن يؤذِّن مؤذن نصف الأذان، ويكمِّله آخَر؛ إلا لضرورة. 4- أن يكون المؤذِّن ذكرًا، فلا يصح من أنثى. 5- أن يكون عاقلاً، فلا يُجزئ أذان المجنون. 6- أن يكون مميزًا، فلا يصح أذان الصبي الذي لا يميز. 7- أن يكون أمينًا، فالمؤذِّن مؤتمن على صلاة الناس، وفطورهم وسحورهم. 8- أن يكون عادلاً، لا فاسقًا، وهذا شرطٌ اشترَطه بعض العلماء. 9- أن يكون الأذان بعدَ دخول الوقت، فلا يصحُّ قبل دخول الوقت، ما عدا الأذان الأوَّل لصلاةِ الفجر، أو أذان الجُمُعة الأول. 10- ألاَّ ينقص فيهما عنِ الجُمل المشروعة، ولا يُزاد عليها. 11- ألاَّ يكون فيهما لحنٌ جلي يحيل المعنى أو يغيِّره.   الوقفة الثانية عشرة: مستحبات الأذان والإقامة: يُستحبُّ في الأذان والإقامة عِدَّةُ أشياء، منها ما يلي: 1- أن يكون المؤذِّنُ حسنَ الصوت؛ فعن عبدالله بن زيد: ((فقُمْ مع بلال فألْقِ عليه ما رأيتَ به، فإنَّه أنْدَى منك صوتًا))[42]؛ أي: أبعد، ولزيادة الإبلاغ، وليرقَّ قلب السامع، ويميل إلى الإجابة. 2- أن يؤذِّن قائمًا؛ فعن أبي قتادة أنَّ النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم - قال لبلال: ((قُمْ فأذِّن))[43]. قال ابن المنذر - رحمه الله -: "أجْمَع كلُّ مَن أحفظ عنه مِن أهل العلم أنَّ السُّنة أن يؤذِّن قائمًا"[44]. 3- أن يكون متوضئًا؛ قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: "إنَّ الأذان متَّصل بالصلاة، فلا يؤذِّنْ أحدُكم إلا وهو طاهِر"[45]، ولأنَّ ذلك أكملُ الأحوال. 4- أن يستقبلَ القِبلة؛ لأنَّ مؤذني النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كانوا يؤذِّنون مستقبلي القِبلة، ولأنَّ فيه مناجاةً فيتوجه بها إلى القِبلة. 5- أن يلتفِت يمينًا عندَ قوله: "حيَّ على الصلاة"، وشمالاً عند قوله: "حيَّ على الفلاح"؛ فعن عون بن أبي جُحَيفة، عن أبيه، قال: أتيتُ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بمكةَ وهو بالأبطح[46] في قبَّة له حمراء مِن أدم، قال: فخرَج بلال بوضوئه، فمِن نائل وناضح، قال: "فخرَج النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عليه حُلَّة حمراء كأنِّي أنظر إلى بياض ساقيه"، قال: فتوضَّأَ، وأذَّن بلال، قال: فجعلتُ أتتبَّع فاه ها هنا وها هنا - يقول: يمينًا وشمالاً - يقول: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح[47]. 6- أن يقول بعد: "حي على الفلاح" مِن أذان الفجر خاصَّة: "الصلاة خيرٌ مِن النوم"؛ مرَّتين؛ لأمْره - صلَّى الله عليه وسلَّم - بذلك؛ ولأنَّه وقتٌ ينام فيه الناس غالبًا. 7- أن يكونَ المؤذِّن محتسبًا؛ فعن عُثْمانَ بن أبي العاصِ قال: قلتُ - وقال مُوسَى في موضِع آخَر: إنَّ عثمان بن أبي العاص قال -: يا رسولَ الله اجْعلني إمامَ قومي، قال: ((أنت إمامُهم، واقتدِ بأضعفِهم، واتَّخذ مؤذِّنًا لا يأخُذ على أذانه أجْرًا))[48]. 8- يستحب أن يكونَ للجماعة مؤذِّنان؛ فعن ابن عُمَرَ - رضي الله عنهما - قال: "كان لِرَسولِ اللَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: مُؤَذِّنان: بِلالٌ وابن أُمِّ مَكْتومٍ الأَعْمَى"[49]. 9- أن يؤذِّن المؤذِّن في أوَّل الوقت؛ ليُعلِمَ الناس فيستعدُّوا للصلاة، فعن جابر بن سمرة قال: "كان بلالٌ لا يؤخِّر الأذان عن الوقت، وربما أخَّر الإقامة شيئًا"[50]. وفي رواية: "كان بِلالٌ يُؤَذِّنُ إذا دَحَضتْ، فلا يُقِيم حتى يَخرُجَ النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فإذا خرجَ أقام الصَّلاةَ حين يَراهُ"[51].   الوقفة الثالثة عشرة: مسائل متفرقة: المسألة الأولى: حكم الخروج من المسجد بعد الأذان: يحرُم الخروج مِن المسجد بعدَ الأذان بلا عُذر، أو نيَّة رجوع؛ لما جاءَ في حديث أبي الشعثاء، قال: "كنَّا قعودًا في المسجد مع أبي هريرة، فأذَّن المؤذِّن، فقام رجل من المسجد يمشي، فأتْبَعه أبو هريرة بصرَه، حتى خرج مِن المسجد، فقال أبو هريرة: "أما هذا فقدْ عصَى أبا القاسم - صلَّى الله عليه وسلَّم -"[52]، وهذا له حكم المرفوع؛ لأنَّ قول الصحابي: "فقد عصَى أبا القاسم" ممَّا له حُكم المرفوع عندَ علماء الحديث؛ فكأنَّه يقول: قدْ نهى عن ذلك رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم. قال ابنُ عُثيمين - رحمه الله تعالى -: "وقد استدلَّ العلماءُ بهذا الحديث على أنه يحرُم الخروج مِن المسجد بعدَ الأذان لمَن تلزمه الصلاة إلا لعُذر، فمِن العذر أن يكون حاقنًا يعني يحتاج إلى بولٍ، أو حاقدًا يحتاج إلى غائط، أو معه ريح محتبَسة يحتاج إلى أن ينقض الوضوء، أو أصابه مرضٌ يحتاج إلى أن يخرُج معه، أو كان إمامًا لمسجد آخَر، أو مؤذِّنًا في مسجد آخَر، وأمَّا إذا خرَج من هذا المسجد ليصلِّيَ في مسجد آخَر، فهذا فيه توقف، قد يقول قائل: الحديث عام، وقد يقول قائل: إنَّ الحديث فيمَن خرَج لئلاَّ يصلي مع جماعة، وأمَّا مَن خرَج من مسجد ليصلي في آخَر، فهذا لم يفرَّ مِن صلاة الجماعة، ولكنه أراد أن يصلِّي في مسجد آخر، وعلى كلٍّ لا ينبغي أن يخرج حتى وإنْ كان يريد أن يصلِّي في مسجد آخَر إلا لسببٍ شرعي، مثل أن يكونَ في المسجد الثاني جنازةٌ يريد أن يصلِّي عليها، أو يكونَ المسجد الثاني أحسنَ قراءةً من المسجد الذي هو فيه، أو ما أشبه ذلك مِن الأسباب الشرعيَّة، فهنا نقول: لا بأس أن يخرُج"[53].   المسألة الثانية: حكم أذان وإقامة المنفرد: يُشرَع الأذان والإقامة للمنفرِد، لكن لو اقتصَر على الإقامة دون الأذان صحَّ ذلك، والجمْعُ بينهما أفضل؛ لما ورد في حديثِ عُقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((يَعْجَب ربُّك من راعي غنمٍ على رأس الشظية[54] للجبل يؤذِّن للصلاة ويصلِّي، فيقول الله: انظروا إلى عبدي هذا، يؤذِّن ويُقيم للصلاة، يخاف منِّي، قد غفرتُ لعبدي وأدخلته الجَنَّة))[55].   المسألة الثالثة: حُكم الأذان قبل دخول الوقت: لا يُجزِئ الأذان قبل الوقت؛ لأنَّه شُرِع للإعلام بدخوله؛ فلا يحصُل به المقصود، ولأنَّ فيه تغريرًا لمن يسمعه، والمشروع أن يكون الأذانُ العام أوَّلَ الوقت؛ لأنَّ هذا هو أذان مؤذِّنيه - صلَّى الله عليه وسلَّم. والحمدُ الله الذي بنِعمته تتمُّ الصالحات، وصلَّى الله وسلَّم على خيرِ البريَّات، نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحْبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.  

[1] رواه البخاري (579) ومسلم (377). [2] رواه ابن ماجه (706 )، وحسَّنه الألباني في صحيح ابن ماجه (580). [3] "الفقه الميسر في ضوء الكتاب والسنة" (1/ 45). [4] رواه البخاري (628). [5] شرح العمدة لابن تيمية (2/ 96)، وانظر: فتاوى ابن تيميَّة (22/ 64). [6] رواه مسلم (382). [7] معالم السنن (2/ 268) الخطَّابي. [8] تفسير القرآن العظيم (7/ 165). [9] رواه البخاري (615)، ومسلم (437). [10] المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجَّاج (4/ 158). [11] رواه البخاري (2396). [12] الاستذكار (1/ 386). [13] رواه البخاري (608)، ومسلم (389). [14] شرح رياض الصالحين (5/ 35). [15] انظر: حاشية السِّندي على سنن النسائي (2/ 22). [16] رواه مسلم (387). [17] نيل الأوطار (2/ 40). [18] رواه أبو داود (517)، والترمذي (207)، وأحمد (7129)، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود (530)، وفي صحيح الترغيب والترهيب (237). [19] مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (2/ 370). [20] رواه أحمد (9619)، وصحَّحه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (233). [21] تطريز رياض الصالحين، (ص: 606). [22] رواه أبو داود (1203)، والنسائي (666)، وأحمد (16989)، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود (1086)، وصحيح الترغيب والترهيب (247). [23] رواه النسائي، (646)، وقال الألباني: "صحيح لغيره" كما في صحيح الترغيب والترهيب (235). [24] رواه ابن ماجه (728)، وقال الألباني: "صحيح لغيره" كما في صحيح الترغيب (248). [25] القِيّ - بكسر القاف وتشديد الياء -: الفلاة. [26] رواه عبدالرزَّاق في مصنَّفه (1955)، والطبراني في الكبير (6120)، وصحَّحه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (249). [27] رواه أبو داود (503)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (518). [28] رواه أبو داود (510 ) وأحمد (5570)، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود (527). [29] عون المعبود شرح سنن أبي داود (2/ 118). [30] تلبيس إبليس، (ص: 168). [31] إصلاح المساجد، (ص: 134) القاسمي. [32] إصلاح المساجد، (ص: 139). [33] رواه البخاري (611) ومسلم (383). [34] رواه مسلم (385). [35] سبل السلام (1/ 189). [36] رواه أبو داود (525 )، والترمذي (210 )، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (537)، وفي صحيح الترغيب والترهيب (254). [37] رواه مسلم (386). [38] رواه مسلم (384). [39] رواه البخاري (614). [40] رواه الترمذي (212)، وقال: "حديث حسن"، وأبو داود (512) وأحمد (11790)، وضعَّفه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب (1978). [41] مجموع فتاوى ومقالات متنوِّعة (10/ 356). [42] رواه أبو داود (499)، وحسَّنه الألباني في صحيح أبي داود (469). [43] رواه البخاري (570). [44] المغني (1/ 253). [45] سبل السلام (1/ 192). [46] الموضع المعروف على باب مكَّة، ويقال له البطحاء، وهي في اللُّغة مسيل واسع فيه دقاق الحصَى، صار علمًا للمسيل الذي ينتهي إليه السيل مِن وادي مِنى، وهو الموضع الذي يُسمَّى محصبًا أيضًا. [47] رواه مسلم (503). [48] رواه أبو داود (531)، والترمذي (209)، وقال: "حديث حسن"، وصحَّح الألباني في صحيح أبي داود (541)، ومشكاة المصابيح (668). [49] رواه مسلم (380). [50] رواه ابن ماجه (713)، وحسنه الألباني في إرواء الغليل (227). [51] رواه مسلم (606). [52] رواه مسلم (655). [53] شرْح رياض الصالحين (6/ 559). [54] الشظية هي: القطعة مِن رأس الجبل. [55] رواه أبو داود (1203)، والنسائي (666)، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود، رقم (1086).



شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن