أرشيف المقالات

من المولد إلى المبعث (2)

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
2الأغصان الندية شرح الخلاصة البهية في ترتيب أحداث السيرة النبوية من المولد إلى المبعث (2)   5- ولَمَّا بلَغ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أربع سنوات أتاه ملَكان، فشقَّا صدره، وغسلا قلبَه، ثم أعاداه.   الشرح: روى الإمام مسلمٌ في "صحيحه": أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه، فصرَعه، فشقَّ عن قلبه، فاستخرج القلب، فاستخرج منه علَقةً، فقال: هذه حظُّ الشيطان منك، ثم غسَله في طسْتٍ من ذهبٍ بماء زمزم ثم لأَمَه، ثم أعاده في مكانه، قال: وجاء الغلمان يسعَوْن إلى أمِّه - يعني: ظِئْره - فقالوا: إن محمدًا قد قُتِل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون؛ قال أنسٌ: وكنت أرى أثرَ المخيط في صدره[1].   قال ابنُ سعدٍ: وكان عمره حينها أربعَ سنوات[2].   وروى الحاكمُ في "مستدرَكه": عن عُتْبة بن عبدٍ السُّلمي أنَّ رجلاً سأل النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: كيف كان أوَّلُ شأنِك يا رسول الله؟ قال: ((كانت حاضنتي من بني سعدِ بن بكرٍ، فانطلقتُ أنا وابنٌ لها في بَهْمٍ لنا، ولم نأخذ معنا زادًا، فقلتُ: يا أخي، اذهب فأتنا زادًا من عند أمِّنا، فانطلق أخي وكنت عند البَهْم، فأقبل طيران أبيضان كأنَّهما نَسْران، فقال أحدُهما لصاحبه: أهُوَ هو؟ قال: نعم، فأقبلا يبتدراني، فأخَذاني، فبطحاني للقفا، فشقَّا بطني، ثم استخرجا قلبي فشقَّاه، فأخرجا منه علقتَيْن سوداوَيْن، فقال أحدهما لصاحبه: حِصْه - يعني: خُطَّه - واختتم عليه بخاتَم النُّبوة، فقال أحدهما لصاحبه: اجعله في كِفةٍ، واجعل ألفًا من أمته في كِفَّةٍ، فإذا أنا أنظر إلى الألف فوقي أُشفق أن يخرُّوا عليَّ، فقالا: لو أن أمَّته وُزِنَت به لمال بِهم، ثم انطلَقا وتركاني، وفَرِقْتُ فرَقًا شديدًا، ثم انطلقتُ إلى أمي فأخبرتُها بالذي لقيته، فأشفقَتْ أن يكون الْتُبِس بي، فقالت: أُعيذك بالله، فرحَّلَتْ بعيرًا لها، فجعلَتْني على الرَّحل، وركبَتْ خلفي حتى بلَغْنا أمي، فقالت: أوَ أدَّيت أمانتي وذمَّتي، وحدَّثتُها بالذي لَقِيتُ، فلم يَرُعْها ذلك، فقالت: إنِّي رأيتُ خرج منِّي نورٌ أضاءَت منه قصورُ الشام))[3].   6- ولَمَّا بلغ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ستَّ سنوات ماتت أمُّه بالأبواء بين مكَّة والمدينة، فكفَلَه جدُّه عبدالمطلب.   الشرح: قال ابن إسحاق: تُوفِّيت آمنةُ ورسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ابنُ ستِّ سنين بالأبواء[4]، بين مكَّة والمدينة: كانت قد قَدِمَت به على أخواله من بني عديِّ بن النجَّار، تُزيره إيَّاهم، فماتت وهي راجعةٌ به إلى مكة.   قال ابن القيِّم: ولا خلاف أن أمَّه ماتت بين مكة والمدينة بالأبواء؛ مُنصَرَفها من المدينة من زيارة أخواله، ولم يَستكمل إذْ ذاك سبع سنين[5].   فكان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - مع جدِّه عبدالمطلب بن هاشم، وكان يوضع لعبدالمطلب فِراشٌ في ظلِّ الكعبة، فكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتَّى يخرج إليه، لا يجلس عليه أحدٌ من بنيه إجلالاً له، قال: فكان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يأتي وهو غلام جَفْر، حتى يجلس عليه، فيأخذه أعمامه ليؤخِّروه عنه، فيقول عبدالمطلب - إذا رأى ذلك منهم -: دَعُوا ابني؛ فوالله إنَّ له لشأنًا، ثم يُجْلِسه معه على الفراش، ويمسح ظهره بيدِه، ويسرُّه ما يَراه يصنع[6].   7- ولَمَّا بلغ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثماني سنوات تُوفي جده عبدالمطلب، وكفَلَه عمُّه أبو طالب.   الشرح: فلمَّا بلغ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثمانِيَ سنين، هلكَ عبدالمطلب بن هاشم، وذلك بعد عام الفيل بثماني سنين[7].   فكان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بعد عبدالمطَّلِب مع عمِّه أبي طالب، وكان عبدالمطلب - فيما يزعمون - يوصي به عمَّه أبا طالب؛ وذلك لأنَّ عبدالله أبا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأبا طالب أخوان لأبٍ وأم، أمُّهما فاطمةُ بنت عمرو بن عائز بن عبدِ بن عمران بن مخزوم[8].   8- ولَمَّا بلغ - صلَّى الله عليه وسلَّم - الثانية عشرة، خرج به عمُّه أبو طالب إلى الشَّام، فلما بلغوا بُصْرى، رآه بحيرى الرَّاهب، فتحقَّق فيه صفات النبوَّة، فأمر عمَّه بِرَدِّه، فرجع به.   الشرح: عن أبي موسى الأشعريِّ - رضي الله عنه - قال: خرج أبو طالبٍ إلى الشام، وخرج معه النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في أشياخٍ من قريشٍ، فلمَّا أشرفوا على الرَّاهب، وكانوا قبل ذلك يمرُّون به فلا يخرج إليهم، ولا يلتفت، قال: فهم يحلُّون رحالهم، فجعل يتخلَّلُهم الراهب حتى جاء، فأخذ بيد رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: هذا سيِّد العالَمين، هذا رسولُ ربِّ العالمين، يبعثه الله رحمةً للعالمين، فقال له أشياخٌ من قريشٍ: ما عِلمُك؟ فقال: إنَّكم حين أشرفتم من العقَبة لم يبْقَ شجَرٌ ولا حجرٌ إلا خرَّ ساجدًا، ولا يسجدان إلاَّ لنبيٍّ، وإنِّي أعرفه بخاتَم النبوة أسفلَ مِن غضروفِ كتفه، مثل التُّفاحة، ثم رجع فصنع لهم طعامًا، فلما أتاهم به وكان هو في رِعْيَة الإبل، قال: أرسلوا إليه، فأقبل وعليه غمامةٌ تظلُّه، فلما دنا من القوم، وجدَهم قد سبقوه إلى فَيْء الشجرة، فلما جلس مال فيءُ الشجرة عليه، فقال: انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه، قال: فبينما هو قائمٌ عليهم وهو يناشدهم أنْ لا يذهبوا به إلى الرُّوم؛ فإن الروم إذا رأَوه عرفوه بالصِّفة فيقتلونه، فالْتفتَ، فإذا بسبعةٍ قد أقبلوا من الرُّوم فاستقبلهم، فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: جئنا، إنَّ هذا النبي خارجٌ في هذا الشهر، لم يبق طريقٌ إلا بُعِث إليه بأناسٍ، وإنا قد أُخْبِرنا خبرَه، فبُعِثنا إلى طريقك هذا، فقال: هل خلْفَكم أحدٌ خيرٌ منكم؟ قالوا: إنَّما أُخبرنا خبَرَه بطريقك هذا، قال: أفرأيتم أمرًا أراد الله أن يقضيه هل يستطيع أحدٌ من الناس ردَّه؟ قالوا: لا، قال: فبايعوه، وأقاموا معه، قال: أَنشُدكم بالله أيُّكم وليُّه؟ قالوا: أبو طالبٍ، فلم يزل يُناشده حتَّى ردَّه أبو طالبٍ، وبَعث معه أبو بكرٍ بلالاً، وزوَّدَه الراهب من الكعك والزيت[9].   قال الذهبِيُّ[10]: تفرد به قُراد، واسمه عبدالرحمن بن غَزوان، ثقة، احتجَّ به البخاريُّ، والنسائي، ورواه الناسُ عن قُراد، وحسَّنه الترمذيُّ، ثم قال: وهو حديث منكر جدًّا، وأين كان أبو بكر؟ كان ابنَ عشرِ سنين؛ فإنه أصغرُ من رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بسنتين ونصف، وأين كان بلالٌ في هذا الوقت؟ فإنَّ أبا بكر لم يشتَرِه إلاَّ بعد المبعث، ولم يكن وُلِد بعد، وأيضًا فإذا كان عليه غمامةٌ تظلُّه كيف يُتَصوَّر أن يميل فيء الشجرة؟ لأنَّ ظِلَّ الغمامة يعدم فيء الشجرة التي نزل تحتها، ولم نرَ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ذكَّر أبا طالبٍ قطُّ بقول الراهب، ولا تذاكرَتْه قريش، ولا حكَتْه أولئك الأشياخُ مع توافر هَمِّهم ودواعيهم على حكاية مثل ذلك، فلو وقع لاشتهر بينهم أيَّما اشتهار، وبقي عنده - صلَّى الله عليه وسلَّم - حسٌّ من النبوة، ولَمَا أنكر مجيء الوحي إليه أوَّلاً بغار حراء، وأتى خديجة خائفًا على عقله، ولَمَا ذهب إلى شواهق الجبال ليرمي نفسه، وأيضًا فلو أُثِر هذا الخوف في أبي طالب وردّه، كيف كانت تطيب نفسه أن يُمَكِّنه من السفر إلى الشام تاجرًا لخديجة؟!   وفي الحديث ألفاظٌ منكَرة تشبه ألفاظ الطُّرقيَّة، مع أنَّ ابن عائذ قد روى معناه في "مغازيه" دون قوله: "وبعث معه أبو بكر بلالاً..." إلى آخره؛ فقال: حدَّثنا الوليدُ بن مُسْلمٍ، أخبَرَني أبو داود سليمان بن موسى، فذكَره بمعناه؛ اهـ.   وقد أنكر أيضًا ذِكْرَ بلالٍ فيها ابنُ سيِّد الناس[11]، وابنُ القيِّم[12].   قال الألباني[13]: وإعلال الحديث بأنَّ فيه ذِكْر أبي بكرٍ وبلال، وكان عمْرُ أبي بكر إذْ ذاك تسع سنين أو عشر، إنما هي دعوى مبنيَّة على أنَّ عمره - صلَّى الله عليه وسلَّم - يومئذ ثنتا عشرة سنة، وهذا غير محفوظ، فإنه إنَّما ذكَره مقيدًا بهذا الواقديُّ كما قال المؤلِّف، والواقديُّ متروك متَّهَم، فمن الممكن أن تكون القصَّة وقعَتْ بعد ذلك بسنين، فلا يجوز إعلالُها بمثل قول الواقديِّ المنكَر[14].   وذكر ابن عساكر أنَّ بَحيرى كان يسكن قريةً يُقال لها: "الكَفر"، بينها وبين بُصْرى ستَّة أميال، وهي التي يُقال لها: "دَيْر بَحِيرى"، قال: ويقال: إنَّه كان يسكن قرية يقال لها: "مَنْفعة" بالبلقاء وراء "زَيْرا"، والله أعلم[15].


[1] صحيح: أخرجه مسلم (261) كتاب: الإيمان، باب: الإسراء برسول الله - صلى الله عليه وسلم، وأحمد 3/ 88 عن أنس. [2] "الطبقات" 1/ 112. [3] صحيح: أخرجه الحاكم (4230)، كتاب: دلائل النبوة، وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وابن هشام في "السيرة" 1/ 127، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (1545)، و"صحيح السيرة" 16- 18، و"فقه السيرة" (64). [4] الأبواء: قرية من أعمال الضرع من المدينة، بينها وبين الجحفة مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلاً. [5] "زاد المعاد" 1/ 75. [6] "سيرة ابن هشام" 1/ 129 بتصرف يسير. [7] "سيرة ابن هشام" 1/ 129. [8] "سيرة ابن هشام" 1/ 137. [9] أخرجه الترمذي (3620) كتاب: المناقب، باب: ما جاء في بدء نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم، والحاكم في "المستدرك" (4229) وصححه، وقال الحافظ في "الفتح" 8/ 587: إسناده قوي، وقال في "الإصابة": رجاله ثقات وذكر أبي بكر وبلال فيه غير محفوظ، قال الألباني في "ضعيف الترمذي" (745): صحيح، لكن ذكر بلال فيه منكر كما قيل. [10] "سير أعلام النبلاء" 1/ 48، 49. [11] "عيون الأثر" 1/ 43. [12] "زاد المعاد" 1/ 75. [13] "صحيح السيرة النبوية" (31). [14] "صحيح السيرة" (31). [15] "البداية والنهاية" 2/ 254، ط.
ابن رجب.



شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن