أرشيف المقالات

من البعثة إلى الهجرة (4)

مدة قراءة المادة : 16 دقائق .
2الأغصان الندية شرح الخلاصة البهية في ترتيب أحداث السيرة النبوية من البعثة إلى الهجرة (4)   8 - وفي السَّنة السادسة من البَعْثة: أسلم حمزةُ بن عبدالمطَّلب وعمر بن الخطَّاب - رضي الله عنهما - فعزَّ الإسلامُ بإسلامهما. الشرح: لقد كان إسلامُ الفاروق عمر وأسدِ الله حمزة نصرًا وفتحًا كبيرًا للإسلام والمسلمين.   فهُما لم يكونا مجرَّد رجلين عاديِّين كبقية الرِّجال، ولا شخصين كبقيَّة الأشخاص، إنَّما كانا - رضي الله عنهما - جبلَيْن شامخين، وأسدين جَسُورين، وبطلين كبيرين، دحَض الله بهما جحافِلَ المُشركين، وأذلَّ بهما طوائف الحاقدين والمُعاندين، وأعزَّ بهما الإسلام والمسلمين.   يقول ابن مَسْعودٍ: ما زِلْنا أعزةً منذ أسْلَم عمر[1].   ويقول ابن مسعود أيضًا: ما كنا نَقْدر على أن نصلِّي عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم عمر قاتل قريشًا حتَّى صلى عند الكعبة، وصلينا معه[2].   وقال أيضًا: إنَّ إسلام عمر كان فتحًا، وإن هجرته كانت نصرًا، وإن إمارته كانت رحمة[3].   وأما حمزة فكان فتًى قويَّ الشكيمة، تهابه قريشٌ ويَعْملون له حسابًا، حتى إنَّه لما ضَرب أبا جهل - عليه لعائن الله - على رأسه بالقوس ما استطاع أبو جهلٍ أن يتفوَّه بكلمةٍ مع قوَّة أبي جهل وجبروته.   إسلام حمزة رضي الله عنه: وقد ذكر قصةَ إسلام حمزة رضي الله عنه ابنُ إسحاق، فقال: مرَّ أبو جهل برسول الله عند الصَّفا، فآذاه وشتمه، ونال منه بعض ما يكره؛ من العيب لدينه، والتضعيف لأمره، فلم يكلِّمه رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم ومولاةٌ لعبدالله بن جُدْعان في مسكنٍ لَها تسمع ذلك منه، ثم انصرف عنه، فعمد إلى نادي قريش عند الكعبة، فجلس معهم، فلم يلبث حمزة بن عبدالمطَّلب رضي الله عنه أن أقبل متوشِّحًا قوسه، راجعًا من قنص له، وكان صاحب قنص يرميه، ويخرج له، وكان إذا رجع من قنصه لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالكعبة، وكان إذا فعل ذلك لم يَمُرَّ على نادٍ من قريش إلا وقف وسلَّم، وتحدَّث معهم، وكان أعزَّ فتًى في قريش، وأشدَّهم شكيمة.   فلما مرَّ بالمولاة، وقد رجع رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى بيته، قالت له: يا أبا عمارة، لو رأيتَ ما لقي ابنُ أخيك محمَّد آنفًا من أبي الحكم ابن هشام؟! وَجَدَهُ هاهنا جالسًا، فآذاه وسبَّه، وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه، ولم يُكلِّمه محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم فاحتمل حمزةَ الغضبُ لما أراد الله به من كرامته، فخرج يسعى، ولم يقف على أحد، مُعدًّا لأبي جهل إذا لقيه أن يوقع به، فلمَّا دخل المسجد، نظر إليه جالسًا في القوم، فأقبل نحوه، حتَّى إذا قام على رأسه، رفع القوس فضربه بها، فشجَّه شجة منكرة، ثم قال: أتشتمه وأنا على دينه أقول كما يقول؟ فَرُدَّ ذلك عليَّ إن استطعتَ، فقامت رجالٌ من بني مخزوم إلى حمزة؛ لينصروا أبا جهل، فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة، فإنِّي والله قد سببتُ ابن أخيه سبًّا قبيحًا، وثبت حمزة رضي الله عنه على إسلامه، وعلى ما تابع عليه رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم من قوله.   فلما أسلم حمزةُ عرفت قريشٌ أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قد عزَّ وامتنع، وأنَّ حمزة سيمنعه، فكَفُّوا عن بعض ما كانوا ينالون منه[4].   إسلام عمر رضي الله عنه: روى البخاريُّ - رحمه الله - عن عبدالله بن عمر قال: ما سمعتُ عمر لشيءٍ قطُّ يقول: إنِّي لأظنُّه كذا، إلاَّ كان كما يظن.   بينما عمر جالسٌ إذْ مرَّ به رجلٌ جميلٌ، فقال عمر: لقد أخطأ ظنِّي، أو إن هذا على دينه في الجاهليَّة، أو لقد كان كاهِنَهم، عليَّ الرجل، فدُعِي له، فقال له ذلك: فقال: ما رأيت كاليوم استقبل به رجلٌ مسلمٌ، قال: فإنِّي أعزم عليك إلاَّ ما أخبرتني، قال: كنت كاهنهم في الجاهلية، قال: فما أعجب ما جاءتك به جنيتُك؟ قال: بينما أنا يومًا في السوق، جاءتني، أعرف فيها الفزعَ، فقالت: ألم تر الجنَّ وإبلاسها، وَيَأسها من بعد إنكاسِها، ولحُوقَها بالقلاص وأحلاسِها، قال عمر: بينما أنا نائمٌ عند آلهتهم، إذْ جاء رجلٌ بعجلٍ فذبَحه، فصرخ به صارخٌ لم أسمع صارخًا قطُّ أشدَّ صوتًا منه، يقول: يا جليح، أمرٌ نجيح، رجلٌ فصيح، يقول: لا إله إلاَّ الله، فوثب القوم، قلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا، ثم نادى: يا جليح، أمرٌ نجيح، رجلٌ فصيح، يقول: لا إله إلا الله، فقمتُ، فما نَشبْنا أن قيل: هذا نبِيٌّ[5].   قال الحافظ ابنُ حجر: لمح المصنِّفُ بإيراد هذه القصَّة في باب: إسلام عمر بما جاء عن عائشة وطلحةَ عن عمر من أنَّ هذه القصة كانت سببَ إسلامه, فروى أبو نُعَيم في "الدَّلائل" أنَّ أبا جهل جَعل لمن يقتل محمدًا مائة ناقة, قال عمر: فقلتُ له: يا أبا الحكم، آلضَّمان صحيح؟ قال: نعم، قال: فتقلَّدتُ سيفي أريده, فمررتُ على عِجْلٍ وهم يريدون أن يذبحوه, فقمتُ أنظر إليهم, فإذا صائحٌ يصيح من جوف العجل: يا آل ذريح, أمر نجيح, رجل يصيح، بلسان فصيح.   قال عمر: فقلتُ في نفسي: إنَّ هذا الأمر ما يُراد به إلاَّ أنا[6]، فكان هذا سببَ إسلامه - رضي الله عنه.   فلمَّا أسلم عمر رضي الله عنه كان هذا عزًّا للإسلام؛ استجابةً لدعوة الحبيب المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم: ((اللَّهم أعِزَّ الإسلام بأحبِّ هذين الرَّجُلين إليك؛ بأبي جهلٍ، أو بعمر بن الخطاب))، قال - يعني: ابن عمر - وكان أحبَّهما إليه عمرُ[7].   9 - وفي السَّنة السابعة من البعثة: تعاهدَتْ قريش على قطيعة بني هاشم، إلاَّ أن يسلموا إليهم النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم وكتبوا بذلك صحيفةً، وعلَّقوها في الكعبة. الشرح: ذَكر خبَرَ الصحيفة ابنُ إسحاق، حيث قال: فلما رأَتْ قريش أن أصحابَ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قد نزلوا بلدًا أصابوا به أمنًا وقرارًا، وأن النَّجاشي قد مَنع من لجأ إليه منهم، وأنَّ عمر قد أسلم، فكان هو وحمزةُ بن عبدالمطلب مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابه، وجعل الإسلامُ يفشو في القبائل، اجتمعوا وائتمروا أن يَكتبوا كتابًا يتعاقدون فيه على بني هاشم، وبني المطَّلب، على ألا يَنْكِحوا إليهم ولا يُنكحوهم، ولا يَبيعوهم شيئًا، ولا يبتاعوا منهم، فلما اجتمعوا لذلك كتَبوه في صحيفة، ثم تعاهدوا وتواثَقوا على ذلك، ثم علقوا الصَّحيفة في جوف الكعبة؛ توكيدًا على أنفسهم، وكان كاتب الصحيفة منصور بن عِكْرمة بن عامر بن هاشم بن عبدمناف بن عبدالدار بن قُصَي - قال ابن هشام: ويُقال: النَّضر بن الحارث - فدعا عليه رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم فشُلَّ بعضُ أصابعه[8].   10 - وفي هذه السَّنَة: اعتزل بنو هاشمِ بن عبدمناف وتبعهم إخوانهم بنو المطلب بن عبدمناف مع أبي طالب إلى شِعْب أبي طالب، فأقاموا به ثلاث سنين، إلى أن سعى المُطْعِم بن عديِّ بن نوفل بن عبدمناف، وزمعة بن الأسود بن عبدالمطلب بن أسد في نَقْض الصحيفة، فخرج بنو هاشمٍ وبنو المطلب من الشِّعب في أواخر السنة التاسعة. الشرح: قال ابن إسحاق: فلمَّا فعلَتْ ذلك قريشٌ انحازت بنو هاشمٍ وبنو المطَّلِب إلى أبي طالب بن عبدالمطلب، فدخلوا معه في شِعْبه، واجتمعوا إليه، وخرج من بني هاشمٍ أبو لهب، عبدالعزى بن عبدالمطلب، إلى قريش فَظاهرهم[9].   فأقاموا على ذلك سنتَيْن أو ثلاثًا, وجزم موسى بنُ عقبة بأنَّها كانت ثلاثَ سنين حتَّى جهدوا، ولم يكن يأتيهم شيءٌ من الأقوات إلاَّ خُفْية, حتَّى كانوا يُؤذون مَن اطَّلعوا على أنه أَرسل إلى بعض أقاربه شيئًا من الصِّلات, إلى أن قام في نقض الصَّحيفة نفَرٌ من أشَدِّهم في ذلك صنيعًا هشام بن عمرو بن الحارث العامري, وكانت أمُّ أبيه تحت هاشم بن عبدمنافٍ قبل أن يتزوَّجها جدُّه, فكان يَصِلُهم وهم في الشِّعب, ثم مشى إلى زُهَيْر بن أبي أميَّة، وكانت أمُّه عاتكةَ بنت عبدالمطلب، فكلَّمَه في ذلك، فوافقه, ومشيا جميعًا إلى المطعم بن عدي، وإلى زمعة بن الأسود، فاجتمعوا على ذلك, فلمَّا جلسوا بالحجر، تكلَّموا في ذلك، وأنكروه وتواطَؤوا عليه، فقال أبو جهل: هذا أمرٌ قُضِي بليلٍ، وفي آخر الأمر أخرجوا الصحيفة، فمزَّقوها وأبطلوا حكمها، وذكر ابنُ هشام أنَّهم وجدوا الأرضة قد أكلَت جميع ما فيها إلاَّ اسم الله، وقيل: إنَّها لم تدع اسمًا لله إلا أكلَتْه، والله أعلم[10].   11 - وفي السَّنَة العاشرة من البعثة: مات أبو طالب، ثم ماتت خديجةُ - رضي الله عنها - بعده بثلاثة أيام، فحَزِن رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم لموتهما حزنًا شديدًا، ونالت قريشٌ منه صلَّى الله عليه وسلَّم ما لم تنَلْه في حياة عمِّه أبي طالب. الشرح: روى البخاريُّ عنْ هشامٍ بن عروة، عن أبيه قال: تُوفِّيتْ خديجةُ قبل مخْرج النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم إلى المدينة بثلاثٍ[11].   وكان ذلك بعد وفاة أبي طالب بثلاثة أيَّام فقط[12]، وهما نصيرا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم اللَّذان كانا يصدَّان عنه أذى قريش واعتداءاتهم عليه صلَّى الله عليه وسلَّم لمكانتهما بين قريش.   ولذلك حزن النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم لموتهما حزنًا شديدًا. واشتهر هذا العام عند أهل التاريخ والسِّيَر بعام الحُزْن.   وكان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم حريصًا على إسلام عمِّه أبي طالب أشدَّ الحرص حتى لحظة وفاته، ولكنَّ إرادة الله غالبة.   روى الإمام البخاريُّ عن المسيّب بن حَزْن رضي الله عنه قال: لما حضرَتْ أبا طالبٍ الوفاةُ دخل عليه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم وعنده أبو جهلٍ، فقال: ((أيْ عم، قل: لا إله إلا الله؛ كلمةً أحاجّ لك بها عند الله))، فقال أبو جهلٍ وعبدالله بن أبي أميَّة: يا أبا طالبٍ، ترغب عن ملَّة عبدالمطلب، فلم يزالا يُكلِّمانه، حتَّى قال آخر شيءٍ كلَّمَهم به: "هو على ملَّة عبدالمطلب"، فقال النبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((لأستغفرنَّ لك ما لم أُنْه عنك))، فنَزلتْ: ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾ [التوبة: 113]، ونَزلَتْ: ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ﴾ [القصص: 56][13].   ومع ذلك فقد نفعَه دفاعُه عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم.   عن العباس بن عبدالمطلب عمِّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنه جاء إلى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فقال له: يا رسول الله، هل نفعتَ أبا طالب بشيء؟ فإنه كان يحوطك ويَغْضب لك، فقال: ((نعم هو في ضَحْضاحٍ[14] من نارٍ، ولولا أنا لكان في الدَّرْك الأَسْفل من النار))[15].   فلمَّا مات أبو طالب نالَتْ قريشٌ من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من الأذى ما لم تكن تَطْمع فيه في حياة أبي طالب[16].


[1] صحيح: أخرجه البخاري (3863) كتاب: مناقب الأنصار، باب: إسلام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه. [2] صحيح: أخرجه ابن سعد في "الطَّبقات" 3/ 270، وصححه الشيخ الألبانيُّ في "صحيح السيرة" (188). [3] انظر: "صحيح السِّيرة" (188). [4] "سيرة ابن هشام" 1/ 203، 204. [5] صحيح: أخرجه البخاري (3866)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: إسلام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه. [6] "فتح الباري" 7/ 220. [7] صحيح: أخرجه الترمذي، كتاب: المناقب، باب: في مناقب أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه وصححه الألباني في "صحيح الترمذي" (2907). [8] "سيرة ابن هشام" 1/ 238. [9] "سيرة ابن هشام" 1/ 238. [10] "فتح الباري" 7/ 232، بتصرف يسير. [11] صحيح: أخرجه البخاري (3896) كتاب: مناقب الأنصار، باب: تزويج النبي صلَّى الله عليه وسلَّم عائشة، وقدومها المدينة، وبنائه عليها. [12] ذكر ذلك البيهقي في "دلائل النبوة" 2/ 352، 353 وغيره، ونقله ابن سيد الناس في "عيون الأثر" 1/ 227. [13] متفق عليه: أخرجه البخاري (3884) كتاب: مناقب الأنصار، باب: قصة أبي طالب، ومسلم (24) كتاب: الإيمان. [14] الضَّحْضاح: ما رقَّ من الماء على وجه الأرض إلى نحو الكعبين. [15] متفق عليه: أخرجه البخاري (3885)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: قصة أبي طالب، عن أبي سعيد الخدري، ومسلم (209) كتاب: الإيمان، باب: شفاعة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لأبي طالب والتخفيف عنه بسببه. [16] "عيون الأثر" 1/ 227.



شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن