أرشيف المقالات

من البعثة إلى الهجرة (6)

مدة قراءة المادة : 29 دقائق .
2الأغصان الندية شرح الخلاصة البهية في ترتيب أحداث السيرة النبوية من البعثة إلى الهجرة (6)
15- وفي السَّنة الحادية عشرة من البعثة: عرَض نفسه الكريمةَ على القبائل في موسم الحجِّ كعادته، فآمن به ستَّةٌ من رؤساء الأنصار، ورجعوا إلى المدينة، ففشا فيهم الإسلام.   الشرح: كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يستغلُّ مواسم الحجِّ وإقبالَ الناس وتوافُدَهم إلى بيت الله الحرام للدَّعوة إلى دينه ورسالته؛ لعلَّ أحدًا يستجيب له، فيُؤْويه ويَنصره بعدما كذبه قومه.   عَن جابِرٍ رضي الله عنه قال: مكث رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم بمكَّة عشر سنين، يتَّبع الناس في منازلهم بعكاظٍ ومجنَّة، وفي المواسم بِمِنًى، يقول: ((مَن يُؤْويني؟ من ينصرني حتَّى أبلغ رسالة ربِّي، وله الجنة؟))، حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أو من مُضَر، فيأتيه قومُه، فيقولون: احذر غُلامَ قريشٍ لا يفتنك! ويمشي بين رجالهم، وهم يشيرون إليه بالأصابع، حتَّى بعثَنا الله إليه من يثرب، فآويناه وصدَّقْناه، فيخرج الرجل منَّا، فيؤمن به ويُقْرِئه القرآن، فينقلب إلى أهله، فيُسْلِمون بإسلامه، حتَّى لم يَبْق دارٌ من دور الأنصار إلاَّ وفيها رهطٌ من المسلمين يُظْهِرون الإسلام[1].   وعنه أيضًا قال: كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يَعْرِض نفسه على الناس بالموقف، فيقول: ((هل مِن رجلٍ يَحْملني إلى قومه؛ فإن قريشًا قد منَعوني أن أبلِّغ كلام ربي))[2].   وعن أبي الزِّناد قال: أخبَرَني رجلٌ يقال له: ربيعة بن عبادٍ من بني الدئل، وكان جاهليًّا فأسلم، قال: رأيتُ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم في الجاهلية في سوق ذي المجاز، وهو يقول: ((يا أيُّها الناس، قولوا: لا إله إلا الله تُفْلِحوا))، والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجلٌ وضيء الوجه أحول، ذو غديرتين[3] يقول: إنَّه صابئٌ كاذبٌ، يتبعه حيث ذهَب، فسألتُ عنه، فذكروا لي نسب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وقالوا: هذا عمُّه أبو لهبٍ[4].   وكان من القبائل التي عرَض النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم نفْسَه عليها؛ قبيلة كِنْدة، وبطنٌ من بني كلب يُقال لهم: بنو عبدالله، وبنو حنيفة، وبنو عامر بن صَعْصعة، ومُحارب بن خصفة، وفَزارة، وغسَّان، ومُرَّة، وسُليم، وعَبْس، وبنو نضر، والحارث بن كعب، وعذرة، والحضارمة، فلم يستَجِب منهم أحد.   وتصدَّى النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم لسويد بن الصامت الذي كان يسمِّيه قومه (الكامل) لِجَلَدِه، وشرفه، ونسبه، فدعاه إلى الإسلام، فقال له سويدٌ: فلعلَّ الذي معك مثل الذي معي؛ فقال له رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((اعرضها عليَّ))، فعرضها عليه؛ فقال له: ((إنَّ هذا لكلام حسن؛ والذي معي أفضل منه؛ قرآنٌ أنزله الله تعالى عليَّ هو هُدًى ونور))، فتلا عليه رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم القرآنَ ودعاه إلى الإسلام، فلم يبعُد منه، وقال: إنَّ هذا لقول حسن، ثم انصرف عنه، فقدم المدينة على قومه، فلم يلبث أن قتله الخزرج، فإن كان رجالٌ من قومه ليقولون: إنا لنراه قد قُتِل وهو مسلم، وكان قتْلُه قبل يوم بعاث[5].   وعرض النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم نفسه على بني عبدالأشهل حيث قَدِموا يلتمسون الحِلْف من قريش على قومهم من الخزرج، فعرض عليهم الإسلام، وقال لهم: ((هل لكم في خيرٍ مِمَّا جئتم له؟)) فقالوا له: وما ذاك؟ قال: ((أنا رسول الله، بعثني إلى العباد، أدعوهم إلى أن يعبدوا الله، ولا يُشْركوا به شيئًا، وأنزل عليَّ الكتاب))، قال: ثم ذَكَر لهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن، قال: فقال إياس بن معاذٍ، وكان غلامًا حدثًا: أيْ قوم، هذا والله خيرٌ مما جئتم له، قال: فأخذ أبو الحيسر أنس بن رافع حفنةً من تراب البطحاء، فضرب بها وجه إياس بن معاذ، وقال: دعنا منك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا، قال: فصمَت إياسٌ، وقام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عنهم، وانصرفوا إلى المدينة، وكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج.   قال: ثم لم يلبث إياس بن معاذٍ أن هلك، قال محمود بن لبيد: فأخبرني مَن حضره من قومه عند موته أنَّهم لم يزالوا يَسمعونه يُهلِّل الله تعالى ويكبِّرُه، ويَحْمده ويسبِّحه، حتَّى مات، فما كانوا يشكُّون أنْ قد مات مسلمًا[6].   فلمَّا أراد الله عزَّ وجلَّ إظهارَ دينه، وإعزاز نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم خرج رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يعرض نفسه على القبائل كعادته، فالتقى برهطٍ من الخزرج أراد الله بهم خيرًا.   فقال لهم النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((من أنتم؟))، قالوا: نفر من الخزرج، قال: ((أمن مَوالي يهود؟)) قالوا: نعم، قال: ((أفلا تَجلسون أُكلِّمكم؟)) قالوا: بلى، فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله عزَّ وجلَّ وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن، قال: وكان مِمَّا صنع الله لهم به في الإسلام: أنَّ يهودَ كانوا معهم في بلادهم، وكانوا أهلَ كتاب وعلم، وكانوا هم أهلَ شِرْك وأصحابَ أوثان، وكانوا قد عزُّوهم[7] ببلادهم، فكانوا إذا كان بينهم شيء، قالوا لهم: إن نبيًّا مبعوثًا الآن قد أظلَّ زمانُه، نتَّبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإِرَم، فلما كلم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أولئك النَّفَر، ودعاهم إلى الله، قال بعضُهم لبعض: يا قوم، تَعْلمون والله إنه لَلنبيُّ الذي توعَّدَكم به يهود، فلا يَسبِقُنَّكم إليه، فأجابوه فيما دعاهم إليه بأنْ صدَّقوه وقَبِلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا: إنا قد تركنا قومَنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشرِّ ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله تعالى بك، فسنَقْدَم عليهم، فندعوهم إلى أمرك، ونَعْرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدِّين، فإنْ يجمعهم الله عليه فلا رجل أعزَّ منك.   ثم انصرفوا عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم راجعين إلى بلادهم، وقد آمنوا وصدَّقوا، وهم ستَّة نفر جميعهم من الخزرج: 1- أسعد بن زرارة بن عُدَي، أبو أُمامة. 2- عوف بن الحارث بن رفاعة، وهو ابن عفراء. 3- رافع بن مالك بن العَجْلان. 4- قطبة بن عامر بن حَديدة. 5- عقبة بن عامر بن نابي. 6- جابر بن عبدالله بن رِئَاب[8].   تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: كان يوم بُعاث يومًا قدَّمه الله لرسوله صلَّى الله عليه وسلَّم وقد افترق ملَؤهم وقُتِلت سَرواتُهم، وجرحوا، فقدمه الله لرسوله صلَّى الله عليه وسلَّم في دخولهم في الإسلام[9].   قال ابن حجر: (كان يوم بُعاث) به وقعةٌ بين الأوس والخزرج, فقُتِل فيها كثيرٌ منهم، وكان رئيس الأوس فيه حضير والد أسيد بن حضير، وكان يُقال له: حضير الكتائب، وبه قتل, وكان رئيس الخزرج يومئذٍ عمرو بن النعمان البياضي، فقتل فيها أيضًا, وكان النصر فيها أولاً للخزرج، ثم ثبَّتهم حضير، فرجعوا، وانتصرت الأوسُ وجُرِح حضير يومئذٍ فمات فيها, وذلك قبل الهجرة بخمس سنين، وقيل: بأربعٍ، وقيل: بأكثر، والأول أصحُّ, وذكر أبو الفرج الأصبهاني أنَّ سبب ذلك أنه كان من قاعدتهم أنَّ الأصيل لا يُقتَل بالحليف, فقتَلَ رجلٌ من الأوس حليفًا للخزرج, فأرادوا أن يقيدوه فامتنعوا, فوقعَتْ عليهم الحرب لأجل ذلك, فقُتِل فيها من أكابرهم مَن كان لا يؤمن؛ أيْ: يتكبَّر ويأنف أن يدخل في الإسلام؛ حتَّى لا يكون تحت حكم غيره, وقد كان بقي منهم من هذا النحو عبدالله بن أُبَيِّ بن سلول، وقصته في ذلك مشهورة، مذكورةٌ في هذا الكتاب وغيره[10]؛ اهـ.   16- وفي السَّنة الثانية عشرة من البعثة: أُسْرِي برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عُرِج به إلى سدرة المنتهى، ففَرض الله عليه وعلى أمَّته الصلوات الخمس.
الشرح: ثم كافأ الله عزَّ وجلَّ رسولَه صلَّى الله عليه وسلَّم وسرَّى عنه برحلة الإسراء والمعراج؛ فأراه من آياته الكبرى ما جعل قلبَه صلَّى الله عليه وسلَّم يطيب ويطمئنُّ ويثبت، وينكشف عنه ما ألَمَّ به من همٍّ وحزن وأسًى بعد وفاة عمِّه وزوجته رضي الله عنها وما لاقاه من إعراض قومه عن دعوته صلَّى الله عليه وسلَّم.   فإن النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم ما كان يحزنه الإيذاء الشخصيُّ له صلَّى الله عليه وسلَّم إنما الذي كان يحزنه صلَّى الله عليه وسلَّم ويكاد يقتله؛ هو إعراضهم عن الدَّعوة ورفضهم لها؛ رحمةً منه صلَّى الله عليه وسلَّم وشفقة عليهم، ولذلك يقول الله - عزَّ وجلَّ - له صلَّى الله عليه وسلَّم: ﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ﴾ [الكهف: 6]، ﴿ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء: 3].   وحادثة الإسراء والمعراج صحيحة ثابتة بالقرآن والسنة: أما ثبوتها بالقرآن ففي قول الله تعالى: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الإسراء: 1].   وقولِه تعالى: ﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ﴾ [النجم: 1 - 18].   وقد فصَّل النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أحداث هذه الرحلة المباركة تفصيلاً دقيقًا، بما ثبت عنه صلَّى الله عليه وسلَّم من أحاديثَ صحيحةٍ، يقول صلَّى الله عليه وسلَّم: ((بينما أنا عند البيت[11] في الحِجْر مُضْطجعًا[12]، بين النَّائم واليَقْظان[13] إذْ أتاني آتٍ، فشقَّ[14] من النَّحْر إلى مَراقِّ البطن[15]، فاستخرج قلبي[16]، ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بِطَسْتٍ من ذهب ممتلئ حكمةً وإيمانًا، فأفرغه في صدري، ثم أطبقه[17]، ثم أُتيت بدابةٍ أبيض، يُقال له: البراق، فوق الحمار ودون البغل، يقع خَطْوُه عند أقصى طرَفِه[18]، فاستصعب عليه، فقال له جبريل: أبمحمدٍ تَفْعل هذا؟ فما ركبك أحدٌ أكرم على الله منه، قال: فارْفَضَّ عرقًا[19]، فركبتُه، حتى أتيت بيت المقدس، قال: فربطْتُه بالحلقة التي يربط به الأنبياء، قال: ثم دخلت المسجد[20]، فصلَّيت بالنبيِّين والمرسلين إمامًا[21]، ثم خرجت، فجاءني جبريل - عليه السَّلام - بإناءٍ من خمرٍ، وإناءٍ من لبنٍ، فاخترت اللبن، فقال جبريل - عليه السَّلام -: اخترتَ الفطرة[22].   • ثم أخذ بيدي، فعرج بي إلى السَّماء الدُّنيا، فلما جئت إلى السماء الدنيا، قال جبريل لخازن السماء: افتح، قال: مَن هذا؟ قال: جبريل، قال: هل معك أحدٌ؟ قال: نعم معي محمدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: أُرْسِل إليه؟ قال: نعم، فلما فتح علَوْنا السماء الدُّنيا، فإذا رجلٌ قاعدٌ، على يمينه أَسْوِدةٌ، وعلى يساره أسودةٌ، إذا نظر قِبَل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل يساره بكى، فقال: مرحبًا بالنبيِّ الصالح، والابن الصالح، قلت لجبريل: من هذا؟ قال: هذا آدم، وهذه الأَسْودة عن يمينه وشماله نَسمُ بَنِيه؛ فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والأَسوِدَة التي عن شماله أهل النار، فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى[23].   • ثم صعد بي حتَّى أتى السماء الثانية، فاستفتَح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمدٌ، قيل: وقد أُرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به؛ فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصتُ إذا يحيى وعيسى، وهما ابنا الخالة، قال: هذا يحيى وعيسى، فسلِّمْ عليهما، فسلَّمتُ، فردَّا، ثم قالا: مرحبًا بالأخ الصالح، والنبي الصالح.   • ثم صعد بي إلى السماء الثالثة، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمدٌ، قيل: وقد أُرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به، فنعم المجيء جاء، ففتح، فلمَّا خلصت إذا يوسف، قال: هذا يوسف فسلِّم عليه، فسلَّمتُ عليه، فرد، ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح.   • ثم صعد بي حتى أتى السماء الرابعة، فاستفتح، قيل: مَن هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمدٌ، قيل: أو قد أُرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به فنعم المجيء جاء، ففتح فلما خلصتُ إلى إدريس، قال: هذا إدريس، فسلِّم عليه، فسلَّمتُ عليه، فرد، ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح.   • ثم صعد بي حتى أتى السماء الخامسة، فاستفتح، قيل: مَن هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومَن معك؟ قال: محمدٌ، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به، فنعم المجيء جاء، ففتح، فلمَّا خلصت، فإذا هارون، قال: هذا هارون فسلِّم عليه، فسلَّمتُ عليه، فرد، ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح.   • ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة، فاستفتح، قيل: مَن هذا؟ قال: جبريل، قيل: مَن معك؟ قال: محمدٌ، قيل: وقد أُرسل إليه؟ قال: نعم، قال: مرحبًا به، فنعم المجيء جاء، فلما خلصتُ فإذا موسى، قال: هذا موسى فسلِّم عليه، فسلمتُ عليه، فردَّ، ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح، فلما تجاوزتُ بكى، قيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي؛ لأنَّ غلامًا بُعِث بعدي، يدخل الجنةَ من أمته أكثرُ ممن يدخلها من أمتي.   • ثم صعد بي إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل، قيل: مَن هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمدٌ، قيل: وقد بُعِث إليه؟ قال: نعم، قال: مرحبًا به فنعم المجيء جاء، فلما خلصتُ فإذا إبراهيم، قال: هذا أبوك فسلِّم عليه، قال: فسلمت عليه، فردَّ السلام، قال: مرحبًا بالابن الصالح والنبي الصالح.   • ثم رُفعَتْ إلَيَّ سِدْرةُ المنتهَى، فإذا نَبقُها مثل قِلال هَجر، وإذا ورقها مثل آذان الفِيَلة، قال: هذه سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهارٍ؛ نهران باطنان، ونهران ظاهران، فقلتُ: ما هذان يا جبريل؟ قال: أمَّا الباطنان فنهرانِ في الجنة، وأمَّا الظاهران فالنِّيل والفُرَات.   • ثم رُفِع لي البيت المعمور، ثم أُتِيت بإناءٍ من خمرٍ وإناءٍ من لبنٍ، وإناءٍ من عسلٍ، فأخذت اللَّبن، فقال: هي الفطرة التي أنت عليها وأمَّتُك، ثم فُرِضَت عليَّ الصلوات خمسين صلاةً كلَّ يومٍ.   فرجعت، فمررتُ على موسى، فقال: بما أُمرتَ؟ قال: أمرت بخمسين صلاةً كل يومٍ، قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاةً كل يومٍ، وإنِّي والله قد جربتُ الناس قبلك، وعالَجْتُ بني إسرائيل أشدَّ المعالجة، فارجع إلى ربِّك فاسأله التخفيف لأمتك، فرجعتُ، فوضع عنِّي عشرًا، فرجعت إلى موسى، فقال مثله، فرجعتُ، فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى، فقال مِثْلَه، فرجعت، فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فأُمِرتُ بعشر صلواتٍ كل يومٍ، فرجعت، فقال مثلَه، فرجعت فأُمِرت بخمس صلواتٍ كلَّ يومٍ، فرجعتُ إلى موسى، فقال: بم أُمِرت؟ قلتُ: أُمِرت بخمس صلواتٍ كلَّ يومٍ، قال: إن أمَّتك لا تستطيع خمس صلواتٍ كلَّ يومٍ، وإنِّي قد جرَّبتُ الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشدَّ المعالجة، فارجع إلى ربِّك فاسأله التخفيف لأمتك، قال: سألتُ ربِّي حتى استحييت، ولكنِّي أرضى وأُسلِّم، قال: فلما جاوزتُ نادى منادٍ: أمضيتُ فريضتي، وخفَّفتُ عن عبادي)) [24].   فلما رجع النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأصبح بمكة، يقول صلَّى الله عليه وسلَّم: ((فظعت بأمري[25] وعرفت أنَّ الناس مُكذِّبِيَّ))، فقعد - بأبي هو وأمِّي ونفسي صلَّى الله عليه وسلَّم معتزلاً حزينًا، فمرَّ عدوُّ الله أبو جهلٍ، فجاء حتى جلس إليه، فقال له كالمستهزئ: هل كان من شيءٍ؟! فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((نعَم))، قال: ما هو؟ قال: ((إنه أُسري بي الليلة))، قال: إلى أين؟ قال: ((إلى بيت المقدس)).   قال: ثم أصبحت بين ظَهْرانينا؟! قال: ((نعم)).   قال: فلم ير أنَّه يَكْذبه، مخافةَ أن يجحده الحديث إذا دعا قومه إليه، قال: أرأيتُ إن دعوت قومك تحدِّثُهم ما حدثتني؟! فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((نعم)).   فقال: هيا معشر بني كعب بن لؤيٍّ! حتى قال: فانتفضَتْ إليه المجالس، وجاؤوا حتى جلسوا إليهما. قال: حدِّثْ قومك بما حدثتني. فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إني أُسري بي الليلة)). قالوا: إلى أين؟ قال: ((إلى بيت المقدس)). قالوا: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ قال: ((نعم)).   قال: فمن بين مصفِّقٍ، ومن بين واضعٍ يده على رأسه متعجبًا للكذب؛ زعَم! قالوا: وهل تستطيعُ أن تنعت لنا المسجد؟ وفي القوم مَن قد سافر إلى ذلك البلد ورأى المسجد.   فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((فذهبتُ أنعت، فما زلت أنعت حتَّى التبسَ عليَّ بعضُ النعت، قال: فجيء بالمسجد وأنا أنظر؛ حتى وُضِع دون دارِ عقالٍ - أو عقيلٍ - فنَعتُّه وأنا أنظر إليه)).   قال: "وكان مع هذا نعتٌ لم أحفَظْه". قال: فقال القوم: أما النعت؛ فوالله لقد أصاب[26].


[1] حسن: أخرجه أحمد 3/ 322، قال ابن حجر في "فتح الباري" 7/ 222: إسناده حسن. [2] صحيح: أخرجه أبو داود (3734)، كتاب: السنة، باب: في القرآن، الترمذي (2934) كتاب: فضائل القرآن، باب: رقم (24)، ابن ماجه (201) في المقدمة، باب: فيما أنكرت الجهمية، أحمد 3/ 390، وصححه الألباني في "صحيح الترمذي". [3] غديرتان: تثنية غديرة؛ أيْ: ذُؤَابة، وهي الشَّعر المضفور الذي أُدخل بعضه في بعض. [4] حسن بمجموع الطرق: أخرجه أحمد 4/ 341، وله شواهد أخرجها ابن هشام في "السيرة" 2/ 18، الطبراني في "الكبير" (4587)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (962)، البيهقي في "السنن" 9/ 7، و "الدلائل" 2/ 185. [5] "سيرة ابن هشام" 2/ 21. [6] "سيرة ابن هشام" 2/ 21. [7] عزوهم: غلبوهم وقهروهم. [8] "سيرة ابن هشام" 2/ 21، 23 مختصرًا. [9] صحيح: أخرجه البخاري (3777)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: مناقب الأنصار، سرواتهم: أشرافهم. [10] "فتح الباري" 7/ 138، 139. [11] البخاري (3207). [12] البخاري (3887). [13] البخاري (3207). [14] البخاري (3887). [15] البخاري (3207)؛ أيْ: إلى ما رقَّ من الجلد، وهو ما يكون أسفلَ البطن. [16] مسلم (164). [17] البخاري (349). [18] مسلم (164). [19] أحمد 3/ 164، الترمذي (3131)، وقال: حسن غريب، وصحح إسناده الألباني في "صحيح الترمذي". [20] مسلم (162). [21] انظر: "الإسراء والمعراج" للألباني (14). [22] مسلم (162). [23] البخاري (349). [24] صحيح: أخرجه البخاري (3887)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: المعراج. [25] أي اشتد عليَّ وهبتُه، (نهاية). [26] صحيح الإسناد: أخرجه أحمد 1/ 309، الطبراني (12782)، وحسنه الحافظ في "الفتح" 7/ 199، وقال الألباني في "الإسراء والمعراج" (82): سنده صحيح. وقد اختلف علماء أهل السُّنة والجماعة في رؤية النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ربَّه في هذه الليلة ليلة الإسراء والمعراج. فنسب بعض العلماء لابن عباس أنه يقول بالرؤية وتبعوه في ذلك. يقول ابن عبَّاس: أتَعْجَبون أن تكون الخلَّة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد صلَّى الله عليه وسلَّم أخرجه عبدالله بن أحمد في "السنة" (577)، النَّسائي في "الكبرى" (11539)، والحاكم 1/ 15 بسند صحيح. وقال أيضًا في قوله تعالى: ﴿ وَلَقَد رَآهُ نَزلَةً أُخرَى * عِندَ سِدرَةِ المُنتَهَى ﴾ [النجم: 13 - 14]. قال: رأى ربَّه، فتدلَّى، فكان قاب قوسين أو أدنى. حسن صحيح: أخرجه الترمذي (3280)، وقال: حديث حسن، وابن حبان (57)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (933)، وقال الألباني في "صحيح الترمذي": حسن صحيح. وقالت أمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها ومن تبعها: لم يره. عن مسروقٍ قال: كنت متكئًا عند عائشة، فقالت: يا أبا عائشة: ثلاثٌ مَن تكلَّم بواحدةٍ منهنَّ فقد أعظم على الله الفِرْية، قلت: ما هن؟ قالت: مَن زعم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، قال: وكنت متكئًا فجلست، فقلت: يا أم المؤمنين أنظِريني ولا تعجليني، ألم يقل الله: ﴿ وَلَقَد رَآهُ بِالأُفُقِ المُبِينِ ﴾ [التكوير: 23]، ﴿ وَلَقَد رَآهُ نَزلَةً أُخرَى ﴾ [النجم: 13]؟! فقالت: أنا أول هذه الأمَّة سألَ عن ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((إنَّما هو جبريل، لم أرَه على صورته التي خُلِق عليها غير هاتين المرَّتين؛ رأيته منهبطًا من السماء، سادًّا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض)) فقالت: أو لم تسمع أن الله يقول: ﴿ لَا تُدرِكُهُ الأَبصَارُ وَهُوَ يُدرِكُ الأَبصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ﴾ [الأنعام: 103]؟ أو لم تسمَع أن الله يقول: ﴿ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحيًا أَو مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَو يُرسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴾ [الشورى: 51]؟! صحيح: أخرجه مسلم (177)، كتاب: الإيمان، وفي لفظٍ لِمُسلم أيضًا: أن مسروقًا سأل عائشة رضي الله عنها هل رأى محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم ربَّه؟ فقالت: سبحان الله لقد قفَّ شعري لِما قلت. والذي عليه الجمهور أنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لم ير ربَّه بعينيه قطُّ، إنما رآه بفؤاده، وأنه لا تَعارُض بين ما ذهب إليه ابن عباس وما ذهبت إليه عائشة  رضي الله عنها وذلك أنه ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: رآه بقلبه؛ مسلم (176)، وفي لفظ أنه قال في قوله تعالى: ﴿ مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى ﴾ [النجم: 11]، وقوله تعالى: ﴿ وَلَقَد رَآهُ نَزلَةً أُخرَى ﴾ [النجم: 13]، قال: رآه بفؤاده مرتين. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: جاءت عن ابن عباس أخبارٌ مطلقة، وأخرى مقيَّدة، فيجب حَمْلُ مطلَقِها على مقيَّدِها...
وعلى هذا فيمكن الجمع بين إثبات ابن عبَّاس ونَفْي عائشة بأن يُحمل نفيها على رؤية البصَر، وإثباته على رؤية القلب، ثم المراد برؤية الفؤاد رؤية القلب، لا مجرَّد حصول العلم؛ لأنه صلَّى الله عليه وسلَّم كان عالِمًا بالله على الدوام، بل مراد مَن أثبت له أنه رآه بقلبه أنَّ الرؤية التي حصلَتْ له خُلِقت في قلبه، كما تخلق الرؤية بالعين لغيره، الرؤية لا يشترط لها شيء مخصوص عقلاً، ولو جرَت العادة خلْقَها في العين؛ اهـ.



شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن