أرشيف المقالات

روضة العبودية

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
2روضة العبودية
قال - تبارك وتعالى -: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 162].   وقال - تبارك وتعالى -: ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ [الحجر: 99].   وقال - تبارك وتعالى -: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5].   وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: ((اللهم لك أسلمت، وبك آمنتُ، وعليك توكَّلت، وإليك أَنبت، وبك خاصمت، اللهم إني أعوذ بعزتك، لا إله إلا أنت أن تُضِلَّني، أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون))؛ متَّفَق عليه واللفظ لمسلم[1].   وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: لما نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾ [البقرة: 284]، اشتدَّ ذلك على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم برَكوا على الرُّكب فقالوا: أي رسول الله، كُلِّفنا من الأعمال ما نُطيق: الصلاة والجهاد والصيام والصدقة، وقد أُنزِلت عليك هذه الآية ولا نطيقها، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: ﴿ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ [البقرة: 285]، فلما اقترأها القوم، وذلَّت بها ألسنتهم، أنزل الله تعالى في إثرها: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ [البقرة: 285]، فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى، فأنزل الله - عز وجل -: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ [البقرة: 286]، قال: نعم، ﴿ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ﴾ [البقرة: 286]، قال: نعم، ﴿ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾ [البقرة: 286]، قال: نعم، ﴿ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 286] قال: نعم))؛ رواه مسلم.   العبودية حقيقة الحياة، بل هي الحياة كلها، غير أنها في رمضان تزدان وتزهر وتخضرُّ وتنمو وترفرف أوراقها وتَنضج ثمارها، ويحلو رحيقها.   روضة عبوديَّة الصائم في رمضان لها مَذاق خاص، ونكهة فردية؛ فالصائم يترك عبودية ويفعل عبودية، ويُعلِن بتسليم وإذعان أنه عبد لله - سبحانه وتعالى - مهما كان حجمه في الدنيا.   تظهر عبودية الصائم بامتثاله لأمر الله - تبارك وتعالى - فيترك لقمة وشربة وشهوة، ولا يمنعه منها أحد إلا أنه عبد لله فيمتثِل أمر الله - تبارك وتعالى.   روضة عز هي روضة العبودية، ومقام فخْر، ودرجة قرْب يعيش فيها المؤمن كل حياته ويتعلَّم من رمضان إذا جَهِل، ويتذكَّر إذا نسي حقيقته وأصْل وجوده، فيقوم بتنفيذ الأمر عبودية للذي أمر، ويترك ما نُهِي عنه عبودية للناهي.   روضة العبودية يدخلها الصائم ليزداد قربًا من الله، ويُعلِن اعترافًا، ويُحقِّق ذلاًّ وخضوعًا لينال عزًّا ومجدًا، ويسمو شرفًا.   روضة العبودية ممتلئة بكل معاني السمو والرِّفعة والعلو في الدنيا والآخرة؛ فهي عبودية للعزيز الغني المجيد الحميد القوي المُبدِئ المعيد، من المخلوق الذليل الضعيف الفقير المحتاج الذي لا حول له ولا قوة ولا يَملِك من أمره شيئًا، فكيف بأمر غيره؟!   روضة العبودية تُعيد الأمور إلى نِصابها والحقائق إلى مواقعها، فكل الخَلْق عبيد للخالق يأمرهم بما شاء ومتى شاء وينهاهم عما يشاء وكيفما شاء، ويُحِل لهم ما يشاء ويمنعهم مما يشاء: ﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 23]، فالخلق خلْقه والأمر أمره: ﴿ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ﴾ [الأعراف: 54] - سبحانه وتعالى.   في العبودية نعرف أن معنى الصوم أكبر من أن يكون مجرد تَرْك لقيمات وشربات هكذا بلا حكمة ولا معنى، ومع ذلك فالعبودية لله الواحد الأحد تَستلزِم أن نقوم بالأمر، وإن جَهِلنا الحكمة أو لم نتصوَّرها فهو أعلم بخلقه؛ ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14]، وهو - سبحانه - لا يأمر إلا لحكمة علِمها من علم وجهِلها مَن جهِل؛ ولأننا عبيده حقَّت علينا الطاعة والامتثال، وخيرنا يقول: ﴿ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾ [البقرة: 285].   روضة العبودية رسالة لعبيد الهوى والنفس والدينار والدرهم والمنصِب والجاه وغيرها، ولكل مَن تعلَّق بغير الله عاش له ومن أجله، أَحبَّ من أجله وأَبغضَ من أجله، حتى أسَره وشغَله ليلاً ونهارًا، حتى صار محبوبه الأوحد ومراده الأول، فهذه عبوديَّة، وإن كان اسمه تعبيدًا فهو عبد لما أعطاه هذه المكانة في قلبه، يَستحِقُّ بذلك دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: ((تَعِس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، تَعِس وانتكس، وإذا شِيك فلا انتقش)).   روضة عبودية الصائم روضة يُخلصها لله يعيش بها شهره ليبقى على ذلك دهره، ويموت عليها ليلقى ربه، وهو عبد ممتثِل لأمره مُنتهٍ عن نهيه، طامعٌ في جنته، خائفٌ من ناره.   اللهم إنا عبيدك، أبناء عبيدك، أبناء إمائك، نواصينا بيدك، ماضٍ فينا حكمك، عدْل فينا قضاؤك، نسألك أن تُصلِح أحوالنا وتُطهِّر قلوبنا، وتُفرِّج همومنا، وتزكِّي أعمالنا يا ربنا.


[1] مسلم رقم (2717).



شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢