أرشيف المقالات

الغاية من تشريع الحدود الإسلامية

مدة قراءة المادة : 15 دقائق .
2الغاية من تشريع الحدود الإسلامية
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، اللهم إنا نعوذ بك من الهم والحَزَن، ونعوذ بك من العجز والكسل، ونعوذ بك من الجبن والبخل، ونعوذ بك من غلبة الدَّين وقهر الرجال.   نعني بالحدود الإسلامية: العقوبات التي شَرَعها الإسلام على الجناة؛ كقطع يد السارق، وجلد الزاني أو رجمه.   ويشيع الغربيُّون أن هذه الحدود قاسية، وهذا كلامٌ يصدر منهم إما عن سوء نية، وإما عن جهلهم بالحقائق الآتية: أولاها: يتصور الغربيون أنه إذا حكم الإسلامُ بلادهم، وطبِّقت فيهم حدودُه، لَحَكَم على رجالهم ونسائهم جميعًا إما بقطع أيديهم أو جلدهم أو رجمهم؛ لأن شرب الخمر والسرقة والقتل والزنا شائعٌ عندهم، ولا تمر ساعة دون أن يُرتَكب خلالها عشراتُ الجرائم، والحقيقة أن الإسلام إذا حكم مثل هذه المجتمعات، فإنه لا يبدأ بتطبيق حدوده فيها إلا بعد تحويلها إلى مجتمعات إسلامية، يربَّى أفرادها على العفة، ثم يزيل دافع كل رذيلة.   فالإسلام ينفِّذ حدوده في المجتمع الذي ينشئه هو، الذي تندُرُ فيه الجريمة، ولا ينفِّذها في المجتمعات التي ينشئها نظام آخر، التي تشيع وتطغى فيها الجرائمُ.   من هذه الحدود مثلاً أن حكم المحصَن المتزوِّج إذا زنا الرجمُ، وكذلك المحصنة المتزوجة إذا زنتْ، أما حكم الأعزب غير المتزوج والعزباء غير المتزوجة، فهو الجلد مائة جلدة، قال الله - تعالى -: ﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ﴾ [النور: 2].   والإسلام لا يقيم هذا الحدَّ إلا بعد أن يزيل دوافعه كافَّة، فيمنع التبرُّجَ، وخروج النساء كاسيات عاريات، ويمنع الاختلاط بين الجنسين من غير مسوِّغ، كما تقوم الدولة الإسلامية بتشجيع الشباب على الزواج المبكر، ومساعدتهم في ذلك اقتصاديًّا وماليًّا، وتنشئة أفراد الأمة على حب الفضيلة واستقباح الرذيلة.   والثانية: أن الحدود في الإسلام تكون على قدر الجرائم، فكلما عظمت الجريمة واشتد خطرها، اشتدت عقوبتها، فالإسلام لم يفرض حدًّا على جنايةٍ أشد مما تستحق، ومع ذلك لم تكن غايته من فرض العقوبات تطبيقَها على الناس، وإنما كانت الغاية منها زجْرَهم عن ارتكاب الجريمة، فهي كما يقال في الأمثال: علِّق عصاك حيث يراها أهل الدار، ولا داعي للضرب بعد ذلك؛ فإنه يكفي التهديد.   والدليل على ذلك أن الإسلام لا يُقِيم حدَّه على متَّهم لمعصية ارتكبَها إلا بعد التثبُّت من ارتكابه لها وَفْقَ شروط شُرِعت جميعها لمصلحة المتَّهم، وقد يندرُ أو يستحيل توافرها، ولنأخذ مثلاً على ذلك حد الزنا لتوضيح هذه الحقيقة: الاتهام بالزنا سيئ الأثر في سقوط المرأة والرجل، وضياع كرامتهما، وإلحاق العار بهما وبأسرتيهما وذرِّيَّتِهما، فقذفُ المحصنين المتزوِّجين والمحصنات المتزوجات، أو اتهامهم بالزنا كذبًا، من الجرائم التي تحلُّ روابطَ الأسرة، وتفرِّق بين الرجل وزوجته، وتهدم أركان البيت؛ لهذا شدَّد الإسلام في إثباتِ هذه الجريمة؛ حتى يسد السبيل على الذين يتَّهمون الأبرياء بعارِ الدهر وفضيحة الأبد، فاشترط في الشهادة على الزنا الشروط الآتية: 1- أن يكون الشهودُ أربعة، بخلاف الشهادة على سائر الحقوق، قال الله - تعالى -: ﴿ وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ ﴾ [النساء: 15]، فإذا كانوا أقل من أربعة لم تُقبَلْ شهادتهم، بل فضلاً عن ذلك يقام علهم حدُّ القذف، بأن يُجلد كل منهم ثمانين جلدة، وهذا ما قال به الأحناف ومالك، والراجح من مذهب الشافعي وأحمد، بدلالة أن عمر - رضي الله عنه - عاقب الثلاثة الذين شهِدوا على المغيرة بالجلد ثمانين جلدة، وهم: أبو بكرة، ونافع، وشبل بن معبد، والله يقول: ﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 4].   وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - أن رجلاً أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فاعترف أنه زنا بامرأةٍ سمَّاها، فبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إليها فسألها، فأنكرتْ؛ فجَلَدَه وترَكَها.   وفي رواية كان بِكرًا غير متزوِّج، فجلده مائة جلدة؛ لأنه أعزب، وقد اعترف بأنه زنا بها، واعتراف الزاني بنفسه يغني عن الإتيان بأربعة شهود، أما اتهامه المرأة بأنها قد زنت، فلا تُقبل شهادته وحدها، وإن كان هو الزاني بها، بل يجب عليه أن يأتي بالبيِّنة، والبيِّنة أربعة شهداء، فعجز الرجل وكذَّبتْه المرأة، فجلده حد الفرية ثمانين، هذا ما رواه أبو داود والنسائي؛ أي: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جلد الرجل مائة جلدة جزاءَ اعترافه بالزنا، ثم جلده مرة أخرى ثمانين جلدة جزاءَ اتهامه المرأة بالزنا ولم يأتِ بأربعة شهداء.   2- البلوغ: أن يكون الشاهد بالغًا صبيًّا.   3- العقل: أن يكون الشاهد عاقلاً، فلا تقبل شهادة المجنون أو المعتوهِ.   4- العدالة: أن يكون الشاهد عدلاً، قال - تعالى -: ﴿ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ﴾ [الطلاق: 2].   5- الإسلام: أن يكون الشاهد مسلمًا.   6- المعاينة؛ أي أن يكون بمعاينةِ فرجِه في فرجها؛ كالميل في المكحلة، والرشا (الحبل) في البئر، وإنما أُبِيح النظر في هذه الحالة للحاجة إلى الشهادة، كما أبيحت للطبيب والقابلة، ونحوهما.   7- التصريح: هو أن يصرح الزاني أو الشاهد بالبلاغ، بأن يقول مثلاً: فَعَلَتْ كذا وكذا، أو فعل كذا وكذا، بكلام صريح، وأبيح أيضًا التلفظ بما يستقبح ذكره للحاجة للشهادة.   8- اتحاد المجلس: يرى جمهور الفقهاء أن من شروط هذه الشهادة اتحاد المجلس، بألا يختلف في الزمان ولا في المكان، فإن جاؤوا متفرقين، فلا تقبل شهادتهم؛ أي أن يدلي الشهداء الأربعة جميعهم بشهاداتهم مجتمعين في وقت واحد وفي مكان واحد.   9- أن يكون الشاهد رجلاً لا امرأة.   10- عدم التقادم؛ أي أن يشهدَ الشاهدُ وقت رؤيته جريمة الزنا، أما إذا تقادم عليها العهد، وجاء فشهِد على هذه الجريمة بعد مدة من وقوعها، فلا تقبل شهادته عند الأحناف، ويحتجون لهذا بأن الشاهد إذا شهِد الحادث، فهو مخيَّر بين أداء الشهادة وبين التستر على الجاني الزاني، فإذا سكت عن الحادث حتى قدم عليه العهد، دل على اجتياز جهة التستر، فإذا شهد بعد ذلك، فهو دليل على أن الضغينة (والحقد) هي التي حَمَلتْه على الشهادة، ومثل هذا لا تقبل شهادته، كما قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "أي قوم شهدوا على حد (كحد الزنا) لم يشهدوا عند حضرته، فإنما شهدوا عن ضغن (وعن حقد)، ولا شهادة لهم"، ولم ينقل أن أحدًا أنكر على عمر هذا القول، فيكون قوله هذا إجماعًا.   والإسلام وضع هذه الشروط حفاظًا لأعراض الأسر من أن يُفضَح أمرها، وتساء سمعتها بين الناس، سواء كانت ببلاغات كاذبة أم صادقة.   والثالثة: أن الإسلام لا يسعى إلى كفِّ الناس عن الشر بالعقاب والإكراه، وإنما يسعى أولاً ودائمًا إلى إصلاحهم بالوعظ والإرشاد، والقدوة الحسنة لزرع الوازع الديني في نفوسهم، وجعلهم يبتعدون عن الشر طوعًا ومن تلقاء أنفسهم، فقد كتب الوالي على خراسان إلى الخليفة عمر بن عبدالعزيز يستأذنه في أن يرخِّص ويسمح له باستخدام بعض القوة والعنف مع أهلها، قائلاً في رسالته للخليفة: "لا يصلحهم إلا السيفُ والسوط"، فكان رد عمر - رضي الله عنه - عليه: "كذبتَ؛ بل يصلحهم العدل والحق"[1].   والرابعة: أن الإسلام لا يفرِّق بين الناس، ولا بين الحاكم والمحكوم في تطبيق الحدود.   أخرج البخاري عن عروة أن امرأة سرقت في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة الفتح، ففزع قومها إلى أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - يستشفعونه (ليكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عدم قطع يدها أو التخفيف من حكمها)، فلما كلَّمه أسامة فيها، تلوَّن وجهُ الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلما كان العشي قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطيبًا، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: ((أما بعد، فإنما هلَك الناسُ أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف (الغني أو ذو الجاه) تركوه (لم يقطعوا يده)، وإذا سرق فيهم الضعيف (الفقير أو الذي لا جاه عنده) أقاموا عليه الحد، والذي نفس محمد بيده، لو أن فاطمة بنت محمد سرقتْ، لقطعتُ يدها)).   وأخرج ابن سعد عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: كان عمر - رضي الله عنه - إذا أراد أن ينهى الناس عن الشيء (حرَّمه الله)، تقدَّم إلى أهله (أهل بيته)، فقال لهم: إني نهيتُ الناس عن كذا وكذا، فلا أعلمن أحدًا (منكم) وقع في شيء مما نهيت عنه، إلا ضاعفت عليه العقوبة (فعاقبتُه مرَّتين).   وفي تاريخ الخلفاء للسيوطي[2] أن عمر - رضي الله عنه - كان إذا سنَّ قانونًا، أو حظر (ومنع) أمرًا، جمع أهله أولاً، وقال لهم: إني قد نهيتُ الناس عن كذا وكذا، وأن الناس ينظرون إليكم كما ينظر الطير إلى اللحم، فإن وقعتم (في المنكر) وقعوا (هم أيضًا في المنكر)، وإن هبتم (وخفتم الوقوع في المنكرات) هابوا (وخافوا؛ إذ تقتدي بكم، والشعوب تكون على دين ملوكها)، وإني والله (يا أهل بيتي) لا أُوتَى برجل منكم وقع فيما نهيتُ الناس عنه (من المعاصي أو المظالم) إلا ضاعفتُ له العذاب (والعقاب)؛ لمكانه مني، فمن شاء منكم أن يتقدم (بالطاعات)، ومن شاء منكم أن يتأخر (بالمعاصي).
أرأيتم؟   وقد قال وطبَّق ما قال - رضي الله عنه - جاء في حياة الصحابة 2/96: أخرج عبدالرزاق والبيهقي عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: شرب أخي عبدالرحمن (الخمر)، وشرب معه أبو سِرْوَعة عقبة بن الحارث وهما بمصر في خلافة عمر - رضي الله عنه - فسكرا فلمَّا أصبحا انطلقا إلى عمرو بن العاص وهو أمير مصر، فقالا: طهِّرنا، فإنا قد سكرنا من شراب شربناه، قال عبدالله: فذكر لي أخي أنه سكر، فقلت: ادخل الدار أطهِّرك، ولم أشعر أنهما قد أتيا عمرو بن العاص، فأخبرني أخي أنه قد أخبر أمير مصر بذلك، فقلت: لا تحلق (شعر رأسك) على رؤوس الناس، ادخل الدار أحلقك، وكانوا إذ ذاك يحلقون مع الحد (مع الجلد)، فدخلا الدار، قال عبدالله: فحلقتُ أخي بيدي، ثم جلَدَهما عمرو بن العاص أمير مصر، فسمع بذلك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فكتب إلى عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أنِ ابعث إليَّ (ابني) عبدالرحمن على قتب (على جمال)، ففعل ذلك، فلما قدم على عمر - رضي الله عنه - جلده (مرة أخرى)، وعاقبه (مرتين) لمكانه منه، ثم أرسله فلبث شهرًا صحيحًا، ثم أصابه قدره فمات - رضي الله عنه - فيحسب عامة الناس أنه مات من جلد عمر، ولم يمت من جلد عمر.   والخامسة: يرى أكثر العلماء أن الحدود إذا أقيمت كانت مكفِّرة لما اقترف من آثام، فالذي يقام عليه الحد في الدنيا لجريمةٍ اقترفها، فإنه لا يُعذَّب عليها في الآخرة؛ لما رواه البخاري ومسلم عن عُبَادة بن الصامت، قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مجلس فقال: ((تبايعوني على ألاَّ تشركوا بالله شيئًا، ولا تَزْنوا، ولا تسرقوا، ولا تقتلوا النفس التي حرَّم الله إلا بالحق؛ فمَن وفى منكم، فأجرُه على الله، ومن أصاب شيئًا من ذلك فعوقب به (في الدنيا)، فهو كفارة له (لا يعاقب عليه في الآخرة)، ومن أصاب شيئًا من ذلك (من المعاصي) فستره الله عليه (فلم يعاقب)، فأمْرُه إلى الله؛ إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذَّبه)).   وعن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن أصاب حدًّا (كالزنا أو السكر) فعُجِّل عقوبته في الدنيا (بأن أقام السلطان عليه الحد)، فالله أعدل من أن يثنِّي عليه العقوبة في الآخرة، ومَن أصاب حدًّا (مثل الحدين المذكورين) فستره الله - تعالى - (فلم يره أحد) وعفا عنه الله، فالله أكرم من أن يعود في شيء قد عفا عنه))؛ أخرجه الترمذي.   اللهم وفِّقنا لطاعتك في الدنيا، واستر عيوبنا يوم القيامة، ولا تفضحنا هناك على رؤوس الأشهاد، اللهم آمين!


[1] خلفاء الرسول؛ للسيوطي، ص728. [2] تاريخ الخلفاء، ص197- 198.



شارك الخبر

مشكاة أسفل ١