أرشيف المقالات

باب في الإكسال

مدة قراءة المادة : 15 دقائق .
2باب في الإكسال الصراط السوي في سؤالات الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم الطهارة (13)
عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: إن رجلًا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يجامعُ أهلَه ثم يكسل، هل عليهما الغسل؟ وعائشة جالسةٌ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إني لأفعل ذلك أنا وهذه ثم نغتسل))[1].   عن أبي بن كعب، قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يصيب من المرأة ثم يكسل؟ فقال: ((يغسل ما أصابه من المرأة ثم يتوضأ ويصلي))[2].   المسألة الأولى: ترجمة أبي بن كعب: أبي بن كعب سيد المسلمين علمًا وقرآنًا وفقهًا، يكنى أبا المنذر، شهد بدرًا والعقبة، وقيل: أبو الطفيل، أُمِر النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرض القرآن عليه، وسمِّي له باسمه، وبشَّره - صلى الله عليه وسلم - وقال له: (ليَهْنِك العلم أبا المنذر)، أحدُ الستة الذين انتهى إليهم القضاء من الصحابة، وكان أقرأَ الصحابة، وكان ربعة من الرجال، لم يكن بالطويل ولا بالقصير، أبيض الرأس واللحية، ذُكِر عنه شراسة في خُلقه، اختلف في وفاته، فقيل: سنة ثنتين وعشرين في خلافة عمر - رضي الله عنه - وقيل: سنة ثلاثين في خلافة عثمان - رضي الله عنه - وهو الصحيح؛ لأن زر بن حبيش لقيه في خلافة عثمان، ومن أساميه المشتقة من أحواله: القارئ، والفَرِح، والفَرِق[3].   وأمه: صهيلة بنت الأسود، عمة أبي طلحة زيد بن سهل بن الأسود[4].   وممَّن روى عنه من الصحابة عمر، وكان يسأله عن النوازل، ويتحاكم إليه في المعضلات، وأبو أيوب، وعبادة بن الصامت، وسهل بن سعد، وأبو موسى، وابن عباس، وأبو هريرة، وأنس، وسليمان بن صرد، وغيرهم[5].   المسألة الثانية: معاني الكلمات: قوله: (عن الرجل يجامع أهله)، وفي حديث أبي بن كعب: (عن الرجل يصيب من المرأة).   قوله: (ثم يُكسِل)، بضم الياء ويجوز فتحها، يقال: أكسل الرجل في جماعته إذا أضعف عن الإنزال.   قوله: ((يغسل ما أصابه من المرأة))، فيه دليل على نجاسة رطوبة فرج المرأة[6].   المسألة الثالثة: حكم من جامع زوجته ولم ينزل: اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: القول الأول: أنه يكفيه الوضوء: وهو مذهب الظاهرية، وبه قال بعض الصحابة في أول الأمر، واستدل أصحاب هذا الرأي: 1- حديث عبدالرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، قال: خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين إلى قُباء، حتى إذا كنا في بني سالم وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على باب عتبان فصرخ به، فخرج يجر إزاره، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أعجَلْنا الرجل))، فقال عتبان: يا رسول الله، أرأيت الرجل يعجل عن امرأته ولم يُمْنِ، ماذا عليه؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما الماء من الماء))[7].   وفي رواية للبخاري: ((إذا أعجلت أو قحطت فعليك الوضوء))[8].   2- حديث زيد بن خالد الجهني أنه سأل عثمان بن عفان، فقال: أرأيت إذا جامع الرجل امرأته فلم يُمْنِ؟ قال: عثمان: (يتوضَّأ كما يتوضأ للصلاة، ويغسل ذَكَره)، قال عثمان: سمعتُه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألت عن ذلك علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيدالله، وأبي بن كعب - رضي الله عنهم - فأمروه بذلك[9].   3- حديث أبي بن كعب الذي مر معنا في الباب.   وأجيب على الأحاديث التي استدل بها الظاهرية بأنها منسوخة، وأن عدم الاغتسال بغير إنزال كان في أول الإسلام ثم نسخ، واحتجوا برواية أبي بن كعب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنما جعل ذلك رخصةً للناس في أول الإسلام لقلَّة الثياب، ثم أمر بالغسل، ونهى عن ذلك))[10].   قال أبو داود: يعني (الماء من الماء).   قال الحافظ ابن حجر: (وفي الجملة هو إسناد صالح لأن يُحتَجَّ به، وهو صريح في النسخ على أن حديث الغسل (وإن لم ينزل) أرجح من حديث: (الماء من الماء)؛ لأنه بالمنطوق، وترك الغسل من حديث: (الماء)، بالمفهوم أو بالمنطوق[11] أيضًا، لكن ذاك أصرح منه)[12].   قال صاحب عون المعبود: (ومما يؤيد النسخ أن بعض من روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الرخصة أفتى بوجوب الغسل ورجع عن الأول)[13].   القول الثاني: وجوب الغسل: وهو قول جمهور العلماء، فإذا جامع الرجلُ المرأةَ بأن جاوز الختانُ الختانَ وغيب الحَشَفة (رأس الذَّكَر) في فرج المرأة، وإن لم يُنْزِلا، واستدلوا لذلك: 1- حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا جلس بين شُعَبها الأربع، ثم جهدها فقد وجب الغسل))، زاد مسلم: ((وإن لم ينزل))، وزاد أبو داود: ((وألزق الختان الختان))[14].   2- عن أبي موسى، قال: اختلف في ذلك رهط من المهاجرين والأنصار، فقال الأنصاريون: لا يجب الغسل إلا من الدَّفْق أو من الماء، وقال المهاجرون: بل إذا خالط فقد وجب الغسل، قال: قال أبو موسى: فأنا أشفيكم من ذلك، فقمتُ فاستأذنتُ على عائشة فأُذِن لي، فقلتُ لها: يا أماه - أو يا أم المؤمنين - إني أريد أن أسألَك عن شيء وإني أستحييك، فقالت: لا تستحي أن تسألني عمَّا كنتَ سائلًا عنه أمَّك التي ولدَتْك، فإنما أنا أمُّك، قلت: فما يوجب الغسل؟ قالت على الخبير سقطتَ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا جلس بين شُعَبها الأربع ومسَّ الختانُ الختانَ، فقد وجب الغسل))[15].   قال ابن عبدالبر: (وهذا الحديث يدخل في المسند بالمعنى والنظر؛ لأنه محال أن ترى عائشة نفسها في رأيها حجة على غيرها من الصحابة في حين اختلافهم في هذه المسألة النازلة بينهم، ومحال أن يسلم أبو موسى لعائشة قولَها من رأيها في مسألةٍ قد خالفها فيها من الصحابة غيرُها برأيه؛ لأن كل واحد ليس بحجَّة على صاحبه عند التنازع، وهذا يدلُّك على أن تسليم أبي موسى لعائشة في هذه المسألة إنما كان من أجل أن علم ذلك كان عندها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلذلك سلم لها؛ إذ هي أولى بعلم مثل ذلك من غيرها)[16].   3- حديث عائشة الذي مر معنا في الباب.   قلت: الراجح قول الجمهور؛ لثبوت النسخ، وأن أحاديث الوجوب تدل بالمنطوق على الغسل، أما أحاديث عدم الوجوب تدل بالمفهوم، والقاعدة الأصولية أن المنطوق يقدم على المفهوم، وقد تقدم كلام ابن حجر، كذا أحاديث الإيجاب مثبتة، وأحاديث عدم الإيجاب نافية، والمثبت مقدَّم على النافي، كما هو معلوم، والله أعلم.   قلت: وقد استقر الأمر عند الصحابة على وجوب الغسل، ويدل عليه ما رواه ابن أبي شيبة - بسند حسن - عن رفاعة بن رافع، قال: بَيْنَا أنا عند عمر بن الخطاب إذ دخل عليه رجل، فقال: يا أمير المؤمنين، هذا زيد بن ثابت يُفتِي الناس في المسجد برأيه في الغسل من الجنابة، فقال عمر: عليَّ به، فجاء زيد، فلما رآه عمر قال؛: أيْ عدوَّ نفسِه، قد بلغتَ أن تُفتِي الناس برأيك، فقال: يا أمير المؤمنين، بالله ما فعلتُ، لكني سمعت من أعمامي حديثًا فحدَّثتُ به، من أبي أيوب، ومن أُبَي بن كعب، ومن رفاعة، فأقبل عمر على رفاعة بن رافع، فقال: وقد كنتم تفعلون ذلك إذا أصاب أحدُكم من المرأة، فأكسل لم يغتسل، فقال: (قد كنا نفعل ذلك على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يأتِنا من الله تحريم، ولم يكن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه نهي، قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلم ذاك؟ قال: لا أدري، فأمر عمر بجمعِ المهاجرين والأنصار، فجمعوا له فشاوَرهم، فأشار الناس أن لا غسل في ذلك، إلا ما كان من معاذٍ وعلي، فإنهما قالا: (إذا جاوز الختانُ الختانَ فقد وجب الغسل)، فقال عمر: هذا وأنتم أصحاب بدر وقد اختلفتم فمَن بعدكم أشد اختلافًا، قال: فقال عليٌّ: يا أمير المؤمنين، إنه ليس أحدٌ أعلمَ بهذا من شأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أزواجه، فأرسل إلى حفصةَ، فقالت: لا علم لي بهذا، فأرسل إلى عائشة، فقالت: (إذا جاوز الختانُ الختانَ فقد وجب الغسل)، فقال عمر: لا أسمع برجلٍ فعل ذلك إلا أوجعتُه ضربًا)[17].   فوائد: 1- إذا استمتع الرجلُ بزوجته، بأن وضع ذَكَره على فرجِها دون إدخال ولا إنزال، فليس عليهما غسل بالإجماع؛ قاله ابن حجر[18].   2- فإن أنزل الرجل دون إدخال، فالغسل عليه دون الزوجة.   3- إذا باشر الرجل زوجته وأنزل المنيَّ في فرجها دون إدخال، فليس على الزوجة غسل، إنما الغسل على الرجل.   قال النووي: (إذا استدخلت المرأة المني في فرجها أو دبرها ثم خرج منها، لم يلزمها الغسل، هذا هو الصواب الذي قطع به الجمهور)[19].   4- إذا جامع الرجل زوجته، ثم بعد غسلها خرج من فرجها مني الرجل، فليس عليها إعادة الغسل، ولكن الخلاف في الوضوء، والأحوط أن تتوضأ[20].   5- إذا جامع الرجلُ زوجته وهي لم تبلغ سنَّ المحيض بعدُ لصغر سنها، فعليهما الغسل، سئل الإمام أحمد عن الغلام يجامع مثلَه ولم يبلغ، يجامع المرأة يكون عليهما جميعًا الغسل؟ قال: نعم، قيل له: أنزل أم لم ينزل؟ قال: نعم، وقال: ترى عائشة حين كان يطؤها النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تكن تغتسل!)[21].


[1] مسلم 350، كتاب الحيض، باب نسخ الماء من الماء ووجوب الغسل بالتقاء الختانين. [2] البخاري 293، كتاب الغسل، باب غسل ما يصيب من فرج المرأة، ومسلم 346 كتاب الحيض، باب إنما الماء من الماء، واللفظ له، أحمد 21087. [3] معرفة الصحابة لأبي نعيم 1/214. [4] تهذيب الكمال 2/262. [5] الإصابة في تمييز الصحابة 1/181. [6] شرح مسلم للنووي 4/52. [7] البخاري 180، ومسلم 343، واللفظ له. [8] البخاري 180. [9] البخاري 179، ومسلم 347، واللفظ للبخاري. [10] حسن: أبو داود 214، وقال البيهقي في السنن الكبرى 1/256: وقد روينا بإسناد آخر موصولًا صحيحًا عن سهل بن سعد، وصحَّحه ابن حجر في الفتح 1/576 وكذا ابن خزيمة وابن حبان. [11] قلت: يشير إلى رواية: ((إذا أعجلت أو أقحطت فعليك الوضوء))، وليس فيها أنه أدخل أو لم يدخل، فيحتمل أنه أعجل قبل الدخول بأن باشر أو قبَّل أو ضمَّ أو غيره من مقدِّمات الجماع، والله أعلم. [12] الفتح 1/576. [13] عون المعبود 1/169. [14] البخاري 291، ومسلم 348، وأبو داود 216. [15] مسلم 349. [16] التمهيد 1/291. [17] مصنف ابن أبي شيبة 948. [18] الفتح 1/573. [19] المجموع 2/151. [20] المحلى 2/6. [21] المغني 1/273، وفي المسألة خلاف، والراجح ما نقلناه؛ لحديث عائشة المتقدِّم أنها كانت تغتسل هي والنبي - صلى الله عليه وسلم - مع صغر سنها في بَدْء الزواج، والله أعلم.



شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢