أرشيف المقالات

البصيرة وتعبير الرؤيا ( تأويل الأحاديث )

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
2البصيرة وتعبير الرؤيا (تأويل الأحاديث)
لنتأمل هاتين الآيتين: الأولى: ﴿ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [يوسف: 6].   والثانية: ﴿ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 21].   في الآيةِ الأولى: يجتبيه ربُّه ويعلمه من تأويل الأحاديث. في الآية الثانية: ولنُعلِّمه من تأويل الأحاديث.   ليتأكد أن الله تعالى هو الذي يمنُّ على عبادِه بعِلم تأويل الأحاديث؛ فهو من تعليم الله تعالى، وتلك نعمة من نِعم الله، وفضل يمنُّ به ويتفضَّل على مَن اصطفاهم مِن خَلقه، وهي نعمة تستحق العرفان والشكر؛ لذا جاء في آخر القصةِ: ﴿ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾ [يوسف: 101].   لأن هذه النعمةَ من أعظم النعم وأجلِّها في الحياة الدنيا، ليس بعدها نعمة إلا لقاء الله - عز وجل - وأن يموتَ المرء مسلمًا، وأن يُلحِقه اللهُ تعالى بالصالحين في جنات النعيم.   معنى التعبير: هو التفسير، يقال عبَر الرؤيا: فسَّرها، وعبَر الطريق: قطَعه من جانب إلى جانب، وعبَر النهر عَبْرًا وعبورًا: قطعه من شاطئ إلى شاطئ؛ فهو عابر أو عبار، ومنه العبَّارات: سُفن النقل الصغيرة، والاعتبار: الفرض والتقدير، والعِبارة: الكلام الذي يبيِّن ما في النَّفس من معانٍ، والعبرة: الاتِّعاظ والاعتبار بما مضى[1]، وفي معنى قوله تعالى: ﴿ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ﴾ [يوسف: 43]، يقول الألوسي: "أي: عبِّروا وبيِّنوا حُكمها وما تؤول إليه من العاقبة، وقيل: أي: تعلمون عبارةَ جنس الرؤيا علمًا مستمرًّا، وهي الانتقال من الصورة المشاهَدة في المنام إلى ما هو صورة ومثال لها، من الأمور الآفاقية والأنفسية الواقعة في الخارج؛ من العبور، وهو المجاوزة، تقول: عبرتُ النهر: إذا قطعتَه وجاوزته، ونحوه أوَّلتها: أي ذكرت ما تؤولُ إليه"[2].   ومن هنا فإن تعبيرَ الرؤيا: تفسيرُها، ومعرفةُ ما تؤول إليه من العاقبة، وترجمة المنامِ إلى واقعٍ محسوس ممكنِ الحدوث.   معنى التأويل: يقال: أوَّل القرآن وتأوَّله، وهذا متأوَّل حَسن: لطيف التأويل جدًّا، قال عبدالله بن رواحة: نحن ضربْناكم على تنزيلِه فاليومَ نَضرِبكم على تأويلِه ضربًا يُزِيلُ الهامَ عن مَقيلِه ويُذهِلُ الخليلَ عن خليلِه   وتقول: لا تعوِّل على الحسَب تعويلاً، فتقوى الله أحسن تأويلاً؛ أي: عاقبة، وتأملته فتأولتُ فيه الخير؛ أي: توسَّمته وتحرَّيته[3].   والتأويل: من الأَوْل، وهو الرجوع (وهو ردُّ الشيء إلى الغايةِ المرادة منه)، وقيل التأويل: التفسير، وقيل: التفسير أعمُّ، وأكثرُ استعماله في الألفاظ ومفرداتِها.   والتأويل: في المعاني والجُمَل، وقيل: التفسير: القطعُ بأن مرادَ الله كذا، والتأويل: ترجيحُ أحد المحتملات بدون قطعٍ، وقيل: التفسير: ما يتعلَّقُ بالرواية، والتأويل: ما يتعلَّقُ بالدِّراية[4].   أما تأويل الأحاديث، فالمراد به: تعبير الرؤى، وقيل المراد: عواقب الأمور[5]، وكلاهما يحتاجُ إلى علم ومعرفة ودراية، كما يحتاجُ إلى حاسة التشوُّف والاستشراف، وحُسن تقدير الأمور، وهي البصيرةُ والفِراسة.   ومن هنا فتعبير الرؤى وتأويلُ الأحاديث لا يقومُ بهما إلا صاحبُ البصيرة، الذي يزِنُ الأمورَ ميزانًا صحيحًا، ويقدِّرُ فيُحسن التقدير، ويرى فتصدُق رؤيته..
ولهذا فقد صدَقت رؤيا يوسفَ عليه السلام، وصدَق تأويلها، وتحقَّقتْ في أرضِ الواقع؛ أما الرؤيا، فكانت كما قال الله تعالى: ﴿ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴾ [يوسف: 4]، أما تأويلُها، فكان كما قال اللهُ تعالى: ﴿ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ [يوسف: 100]، وقد قيل: إن المدةَ ما بين الرؤيا وظهور تأويلها ثمانيَ عَشْرةَ سنة، وقيل: ثمانون، وقيل: أربعون، وهو قول الأكثرية[6].   ولا شك أن الصبرَ واليقين وتقوى الله - عز وجل - من ألزمِ صفات صاحب البصيرة؛ فطول الصبرِ والانتظار لم يُفقِدْه اليقين، وتقوى الله - عز وجل - أيقَظَتْ فيه حُسن الظن بالله تعالى، فكان الفرجُ والمكافأةُ والإحسان؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 90].   كما أن تأويلَ رؤيا الملك - تأويلاً صحيحًا - هو دليلٌ على بصيرةِ يوسف عليه السلام، وكان صدقُ تعبيره وتأويله سببًا في حُسن عاقبةِ يوسف؛ فقد خرَج من السجن إلى المُلك والتمكين؛ لأنه بعد العُسر اليُسر، وبعد الشِّدة الفرَج، كما كان سببًا - أيضًا - في حُسن عاقبة المصريين؛ فقد مرَّتِ المِحنةُ على خير ما يرام، بحُسن التدبير، والرؤية الصائبة!   ولعلَّ مِن إعدادِ الله تعالى وتربيته لعباده أن يُعِدَّهم ويربِّيَهم بأنواعٍ من الابتلاءات؛ كالسجن مثلاً؛ كي تصفوَ نفوسهم، وترقَّ قلوبهم، وتسموَ أرواحهم؛ فالسجن كما أنه فرصةٌ للتأمُّل والنظر في ملكوتِ الله والتبصُّر في أحوال الدنيا وشؤون الخَلْق، فإنه - أيضًا - فرصةٌ للخَلوة والتفرغ للعبادة، والتقرُّب إلى الله تعالى؛ لمزيدٍ من التطهُّر، ورَفْع الدرجات؛ وذلك مما يحقِّق البَصيرة، ويُنبت الفِراسة، فيكون العبدُ في حالٍ هي أرقى حالات البصيرة، فيرى ما يتحقَّق، وينظُر بنُور قلبه؛ خصوصًا لو كان أذاه في سبيل الله، وكان ابتلاؤُه تمحيصًا وخطوة على طريق التمكين في الأرض؛ ﴿ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 56]، فكان السجنُ معتكفًا لإعدادِ أهل التمكين، وتجهيزِهم لحملِ أمانة الاستخلافِ في الأرض، ورعاية شؤون الخَلْق.   من كتاب: "البصيرة في الدعوة إلى الله"


[1] المعجم الوجيز. [2] روح المعاني، 7، ص 341. [3] أساس البلاغة - الزمخشري. [4] روح المعاني جزء 1، ص 13. [5] روح المعاني، جزء 7، ص 255. [6] روح المعاني، جزء 7، ص 438.



شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن