أرشيف المقالات

نعيم القبر وعذابه

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
2نعيم وعذاب ونار القبر الدار الآخرة أسئلة وأجوبة حول القبر   س: هل يصل نعيم أو عذاب القبر لمن أكلته السِّباع، أو مات غَريقًا، أو حريقًا، أو مصلوبًا ويجري عليه ما يجري على المقبور في قبره؟ ج: قال ابن القيم - رحمه الله - كما في كتاب "الروح" (ص 78): "ومما ينبغي أن يُعلم أنَّ عذاب القبر هو عذابُ البرزخ، فكل مَن مات وهو مستحقٌّ للعذاب ناله نصيبُه منه قُبِرَ أو لم يُقْبر، فلو أكلته السِّباع، أو أُحرق حتى يصير رَمادًا، ونُسف في الهواء، أو صُلِب، أو غَرِق في البحر وصل إلى رُوحه وبدنِه من العذاب ما يصل إلى القبور".   وقال الإمام ابن القيم أيضًا كما في كتاب "الروح" (ص 98، 99): "إنه ينبغي أن يُعلم أن عذاب القبر ونعيمه اسم لعذاب البرزخ ونعيمه، وهو ما بين الدنيا والآخرة، وقال تعالى: ﴿ وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون: 100]، وهذا البرزخ يُشرف أهله فيه على الدنيا والآخرة، وسمِّي عذاب القبر ونعيمه وأنه روضة أو حفرة نار، باعتبار غالب الخلق؛ فالمصلوب والحَرِيق والغَرِيق وأكيل السِّباع والطيور له من عذاب البرزخ ونعيمه قسطه الذي تقتضيه أعماله، وإن تنوعت أسباب النَّعيم والعذاب وكيفياتهما، فقد ظن بعض الأوائل أنه إذا حرق جسده بالنار وصار رمادًا، وذرِّي بعضُه في البحر وبعضه في البر في يوم شديد الريح أنه ينجو من ذلك، فأوصى بَنيه أن يفعلوا به ذلك، فأمر الله البحر فجمع ما فيه، وأمر البر فجمع ما فيه، ثم قال: قم، فإذا هو قائم بين يدي الله، فسأله: ما حملك على ما فعلتَ؟ فقال: خشيتُك يا ربِّ وأنت أعلمُ، فما تلافاه أن رحمَه[1]، فلم يَفُت عذاب البَرزخ ونعيمه لهذه الأجزاء التي صارت في هذه الحال، حتى لو عُلِّق الميِّت على رُؤوس الأشجار في مهابِّ الرِّياح لأصاب جسدَه من عذاب البَرزخ حظُّه ونصيبه، ولو دُفن الرجل الصالح في أتون مِن النار لأصاب جسدَه من نعيم البرزخ ورَوحه نصيبُه وحظُّه، فيجعل الله النار على هذا بَردًا وسلامًا، والهواء على ذلك نارًا وسمومًا، فعناصر العالم وموادُّه مُنقادة لربها وفاطرها وخالقها يُصرِّفها كيف يشاء، ولا يستعصي عليه منها شيء أراده، بل هي طَوع مشيئتِه مذلَّلة مُنقادة لقُدرته، ومَن أنكر هذا فقد جَحد ربَّ العالمين وكفر به وأنكر ربوبيَّته".   س: هل النار التي في القبر من نار الدنيا؟ يُجيب عن هذا ابن القيم - رحمه الله - حيث قال كما في كتابه "الروح" (ص 89): "إن النار التي في القَبر والخضرة ليست مِن نار الدنيا ولا من زُروع الدنيا، فيشاهده من شاهد نار الدنيا وخضرها، وإنما هي من نار الآخرة وخضرها، وهي أشدُّ من نار الدنيا، فلا يحسُّ به أهل الدنيا، فإن الله سبحانه يحمي عليه ذلك التراب والحجارة التي عليه وتحته حتى يكون أعظم حرًّا من جمر الدنيا، ولو مسَّها أهل الدنيا لم يحسوا بذلك، بل أعجب من هذا أن الرَّجلين يُدفنان أحدهما إلى جنب الآخر، وهذا في حفرة من حفر النار لا يصل حرُّها إلى جاره، وذلك في رَوضة من رياض الجنة لا يصل رَوْحُها ونَعيمها إلى جارِه، وقُدرة الربِّ تعالى أوسع وأعجب من ذلك، وقد أرانا اللهُ من آيات قدرته في هذه الدار ما هو أعجب من ذلك بكثير، ولكن النفوس مُولعة بالتكذيب بما لم تُحط به علمًا إلا من وفَّقه الله وعصمه، فيُفرش للكافر لوحان من نار فيشتعل عليه قبره بهما كما يشتعل التَّنُّور، فإذا شاء الله سبحانه أن يُطلع على ذلك بعض عبيده أطلعه وغيَّبه عن غيره، إذ لو اطَّلع العِباد كلُّهم لزالت كلمةُ التكليف والإيمان بالغيب، ولما تدافن الناس، كما في "الصحيحين" عنه صلى الله عليه وسلم: ((لولا أن لا تَدافنوا لدعوتُ اللهَ أن يُسمِعَكم من عذابِ القبر ما أسمعُ))".   وقال ابن القيِّم أيضًا كما في "الروح" (ص 100): "عذاب البرزخ ونعيمُه أول عذاب الآخرة ونعيمها، وهو مشتق منه وواصل إلى أهل البرزخ هناك"، كما دلَّ عليه القرآن والسُّنَّة الصحيحة الصَّريحة في غير موضع دلالة صريحة، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((فيُفتح له بابٌ إلى الجنَّة، فيأتيه من رَوحها ونعيمها))، وفي الفاجر ((فيُفتح له بابٌ إلى النارِ، فيأتيه من حرِّها وسمومِها))". ومعلوم قطعًا أن البدن يأخذُ حظَّه من هذا الباب كما تأخذ الرُّوح حظَّها.


[1] قصة هذا الرجل الذي أوصى بنيه بحرق جثته بعد موته وتذريتها في البر والبحر مروية في "الصحيحين" وغيرهما من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهم.



شارك الخبر

المرئيات-١