أرشيف المقالات

المعيارية المنهجية في تفسير القرآن الكريم

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
2المعيارية المنهجية في تفسير القرآن الكريم   يفترض مبدأ الموضوعية والحياد الأخلاقي في البحث العلمي المنصف، أن يعتمد الباحثُ المنهجيةَ المعيارية المعتمدة في العلم المَعْنيِّ بالبحث قيد الدرس، وعلى ذلك فإن التعاملَ مع القرآن الكريم ينبغي أن يتم وَفقًا لمنهجية العلوم الإسلامية المعتمدة في هذا المجال حصرًا، فكما أن علوم الطب المعاصرة تدرس بمنهجيات لا تصحُّ إلا في بحث العلوم الطبية، وأن علوم الفيزياء لا تدرس إلا من خلال المنهجية المعتمدة في بحثها، وهكذا..
فإنه لا يصح أيضًا من باب أَوْلى أن تُجرى دراسة القرآن، والبحث في نصوصه، إلا من خلال منهجيةِ علوم القرآن، والمعرفة الإسلامية المتراكمة والمعتمدة في هذا المجال - بدءًا مِن مرحلة نزول القرآن، وانتهاءً بعصرنا الراهن، ومن دون أي انتقائية تجزيئية مقصودة تقُودُ في المحصِّلة إلى نتائج موهومة - تتقاطعُ مع أصول المنهجية المعيارية المعتمدة في العلوم الإسلامية.

وما دام الأمر كذلك منهجيًّا، فإن التعاطي مع تفسير القرآن الكريم، بهدف الوصولِ إلى حقيقة مرادِ الله تعالى المنشودة من النص، بات يستوجبُ التوكيد ابتداءً، على أن المفسرَ إنما هو قارئ نصٍّ بالدرجة الأولى، وبالتالي فإن عليه عندما يريد التنقيب في النص القرآني أن يقتربَ من مراد الله من النص على حقيقته تمامًا، كلما كان بمقدورِه ذلك، توخيًا للموضوعية، ومن ثَم فإن عليه أن يتدبَّرَ النص القرآني بشيءٍ من التأمُّل المتمعن النقي، تمشيًا مع طرائقية البحثِ بمدلولاته، متسلحًا في ذات الوقت بما بحوزته من أدوات منهجية، لا مندوحة له عن الرجوع إليها، ولا سيما إذا ما تعسر عليه الاستدلالُ، وشقَّ عليه فهمُ مدلولات النص بالمتاح له من القدرات الذاتية وحدها، ولا شك أن استعانة المفسِّر بما تراكم لديه من معرفةٍ في علوم القرآن في هذا الجانب، تُوسِّع من دائرة الإلمام اللازم للتدبر، وتُسهِّل أمامه آلية الاستنتاج الرشيد، وتَزيد من القدرةِ على الترجيح باقتدار إذا لزم الأمر، بعيدًا عن أي غرض ذاتي يعطِّلُ طاقاته الفكرية في استِكْناه مدلولات النص قيد البحث، ويختزل ما يزخر به من معانٍ، بالانسياقِ المتهافت إلى هوس توظيف تكنيك التفكيك اللغوي الحداثي، الذي قد يحُول دون الوصول إلى الفَهم العربي الفصيح للنص القرآني، بهدم قواعد تفسيره المعتمدة في العلوم الإسلامية؛ مما يُفسِد على المفسِّر ذائقةَ التأمل، ويختزل فيه قدرةَ التمكن من الفهم الصحيح للنص القرآني، ويحُول دون استكشافه الصور الزاخرة، والدلالات الكامنة في ثناياه، التي يمكن أن تنساب رؤى متجددة مع كل قراءة واعية، ترتكزُ إلى تقاليد نهج التدبُّر الخلاَّق للنص القرآني، المحكوم بضوابطه المعتمدة في منهجية التفسير المعيارية، بشكل مفتوح حتى تقوم الساعة، فيحرِم نفسَه عندئذ ويحرِم الآخَرين معه، من فيضِ العطاء الإلهي غير المحدود، الذي يختزنه النصُّ المَجيد الذي لا تنقضي عجائبُه، حيث يفترض أن المخاطَب به مستخلَف في الأرض ابتداءً، وبالتالي فإنه مطالَب بإدامة تفجير مكنوناته بالتدبر المتطلع، المؤطَّر بما هو متراكم أمام الباحث من معرفةٍ إسلامية كلية، تضمَنُ تأمين تدفُّق تجليات النصِّ بانسيابيَّةٍ مستمرَّة من فيضِ المعاني الزاخرة، التي تستوعب متطلَّباتِ التطوُّر على الأرض، ملامسةً بذلك الاستكناه السليم، اقترابًا متجسدًا مِن مرادات النصِّ القُرآني بحِكمتها المتناهية، والتوافق معها على أكملِ وجهٍ عند كل محاولة غير منفلتة للتفسير.

ولمواجهة حملات الإساءةِ المعاصرة إلى الإسلام، سواء بالتعرُّض المتعمَّد للنص القرآني بالنقد بغير منهجيات علومه، أو بالإساءةِ إلى الرُّموز الإسلامية التي أَثْرَتْ عملية التفسير برصيدٍ دسم من المعرفة مرة أخرى، فإن المطلوب من الكتَّاب المختصِّين بالعلوم الإسلامية، وكل الناس المنصِفين في العالَم من النُّخَب المهتمة بالمعرفة الإسلامية التصدّي الحازمُ لهذه الإساءة، وفضح مقاصد القائمين بها بالحجَّة العِلمية المقابلة، ورفض أسلوب تناول النص القرآني بأدواتٍ غريبة عن علومِه، ومنهجيات دراسته المعتمدة، تحت ذريعةِ مواكبة تطورات العصر، والحاجة إلى التوسُّع في التأويل خارج سياقات شروطِه المعروفة.

ومن هنا يمكن الإشارةُ إلى أن المنهجيةَ السليمة المعتمدة في تفسير القرآن هي أن يتمَّ تفسيرُ القرآن بالقرآن ابتداءً، وبالمأثور من السنَّة النبوية الصحيحة، وأقوال الصحابة والتابعين، وبما تفرِضُه أساليبُ اللغة العربية لِما يحتمله لفظُ النص القرآني بهذه المنهجية المعيارية السليمة في التفسير من مدلولاتٍ، حيث يلاحَظُ أن النقل الصحيح بموجبِها لا يتقاطع مطلَقًا مع ما سيتوصَّلُ إليه العقلُ الصريح عندئذٍ من استدلال.

ولذلك يبقى تفسيرُ القرآن بالمأثور - بموجبِ هذه المنهجية المعيارية - أمرًا معوَّلاً عليه بامتياز، ومن ثَمَّ فلا غبار في ذات الوقت على التفسير بالمعقول، تمشيًا مع معطيات التطور في حركة الحياة بعامل الزمن، ما دام متوازيًا في مسلَكِه التأويلي مع تلك المنهجية القياسية، وموافقًا قواعدَ اللغة العربية، على قاعدة: ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ [القمر: 17]، حيث يبقى التفسيرُ مفتوحًا على الآفاق، بما يفتح الله على المفسِّر الملتزم بقواعد هذه المنهجية الصحيحة من فُيوضات عقلية، خاليةٍ من الغَرَض السَّيِّئ، وهذا ما يساعدُ على فتحِ منافذَ كثيرةٍ للدِّراسات القرآنية؛ كي تواكب معطيات التطور، وتدفع بالمفسِّرين لتجديد رُؤَاهم التأويلية، ما دامت متقيِّدة بطرائقيات التفسير المعيارية، تمشيًا مع معاييرِ الموضوعية العِلمية في الاستنباط، وبذلك يكون الاستنباطُ من القرآن الكريم بشروطه المعروفة - التي منها أن يحتمل المعنى المستنبطَ ظاهرُ لفظ القرآن، بما يوافق قواعدَ اللغة العربية، وألا يخالفَ صريح القرآن، أو السنَّة النبوية الصحيحة، على قاعدة: (إن القرآن يصدِّقُ بعضُه بعضًا، والسنَّة توافق القرآن، ولا تخالفه بتاتًا) - أمرًا إيجابيًّا، ويصبُّ في خانة حركية المعرفة الإسلامية التي لا تعرفُ معنى الجمود أبدًا، على قاعدة: (في كل قرنٍ من أمَّتي سابقون)، وبالتالي فإن المفسِّرَ إذا ما قام باستنباط معنى جديد يستوعب مستجدات العصر، ويحتمله اللفظ القرآني، ويوافق ما جاءت به السنَّة الصحيحة، ويتوافق مع أساليبِ اللغة العربية - فإنه ليس ثمةَ ما يمنع من تلقِّيه بالقَبول، باعتباره إضافة جديدة للمعرفة الإسلامية، وتعميقًا لها، لا سيما أن من خصائص القرآن الكريم أنه (حمّال أوجه)، كما هو معروف، وهذا من عظمة القرآن المجيد بلا ريب، حيث قد تفسَّر الآية الواحدة بأكثرَ من قول، ومن ثَم فلا ضير في ذلك، ما دامت معاني تلك الأقوال صحيحةً، ويحتملها اللفظُ القرآني، وتتوافقُ مع قواعد اللغة العربية، وهذا ما يجعل القرآنَ الكريم كتابًا مفتوحًا على آفاقِ غيب المستقبل، ويستوعب حركة الحياة حتى تقوم الساعة.



شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير