أرشيف المقالات

التدرج في القرآن الكريم ( الحقائق الجلية )

مدة قراءة المادة : 61 دقائق .
2التدرج في القرآن الكريم ( الحقائق الجلية )   وفيه ثلاثة أمور: الأول: ترتيب النزول وترتيب المصحف. الثاني: التدرج في التحدي. الثالث: الناسخ والمنسوخ.   الأول: ترتيب النزول وترتيب المصحف: وهذا سر عظيم من أسرار القرآن، لا يتكلم فيه إلا القليل، فمن المعلوم أن ترتيب النزول يختلف تمامًا عن ترتيب المصحف.   وبداية، فإن للقرآن الكريم تنَزُّلات ثلاثة: أ- مسجل في اللوح المحفوظ، قال تعالى: ﴿ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ﴾ [البروج: 21، 22]، ويلاحظ أنه لم تستخدم كلمة النزول.   ب- أنزل إلى السماء الدنيا في ليلة القدر من ليالي شهر رمضان، قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ [القدر: 1].   جـ- نزل منجمًا على النبي محمد صلى الله عليه وسلم في ثلاث وعشرين سنة[1].   الفرق بين الإنزال والتنزيل: أولاً: آيات الإنزال [التي جاء فيها (أنزل)]: قال تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾ [البقرة: 185].   قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ﴾ [الدخان: 3].   قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ [القدر: 1].   قال تعالى: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾ [البقرة: 23].   قال تعالى: ﴿ وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل: 101، 102].   يقول الإمام الرازي في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ﴾ [البقرة: 23]: (إنما قال تعالى: ﴿ نَزَّلْنَا ﴾ على لفظ التنزيل دون الإنزال؛ لأن المراد النزول على سبيل التدرج)[2].   أما في قوله تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾ [البقرة: 185]، فقال الإمام الرازي: (قد ذكرنا في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ﴾ أن التنزيل مختصٌّ بالنزول على التدريج، والإنزال مختصٌّ بما يكون فيه النزول دفعة واحدة، فالمراد من قوله تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾، أنزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا جملة واحدة، ثم نزوله مفرقًا بعد ذلك)[3].   لماذا كان البدء بـ(اقرأ)؟ لقد نزل القرآن أول ما نزل بدعوةٍ عامة وأمر هام في هذا الدين، وهو القراءة (اقرأ)، والقراءة ليس معناها النطق بألفاظ القرآن وفقط؛ وإنما تعني في المقام الأول التتبع والنظر، جاء في المعجم: (قرأ الكتاب، قرأ قراءة: تتبَّع كلماته نظرًا ونطق بها أو لم ينطق)[4].   ومن هنا يتبين أن الكلمة أو الأمر الإلهي (اقرأ) يحمل معنيين: الأول: أي تتبع نزول القرآن ومراحله (المتابعة). الثاني: تأمَّل وانظرْ واستقرِئ ما يتلى عليك وما يوحى إليك، وهو (التدبر)؛ حتى تفهم لتعمل.   والمعنيان لهما شواهد كثيرة في كتاب الله عز وجل، كلاهما يحملان معنى التمهل والتدرج، ومن هذه الشواهد: قوله تعالى: ﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ ﴾ [العنكبوت: 45].   وقوله تعالى: ﴿ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ [الأعراف: 3].   وقوله تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82].   والتلاوة لا بد أن تكون بتدبر وتتبع، وبنظرة شمولية وموضوعية، ولا بد أن يلي ذلك الاتباعُ، وهو المطلوب والمقصود، يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى -: (فحقيقة التلاوة هي التلاوة المطلقة التامة، وهي تلاوة اللفظ والمعنى، فتلاوة اللفظ جزءٌ من مسمَّى التلاوة المطلقة، وحقيقة اللفظ إنما هي الاتباع، يقال: اتلُ أثر فلان، وتلوت أثره، ومنه قوله تعالى: ﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا ﴾ [الشمس: 1، 2]؛ أي: تبِعها في الطلوع بعد غيبتها، ويقال: جاء القوم يتلو بعضهم بعضًا؛ أي: يتبع، وسُمِّي تالي الكلام تاليًا؛ لأنه يُتبِع بعض الحروف بعضًا، لا يُخرجها جملة واحدة، بل يتبع بعضها بعضًا مرتَّبة، كلما انقضى حرف أو كلمة أتبعه بحرف آخر وكلمة أخرى، وهذه التلاوة وسيلة وطريقة، والمقصود التلاوة الحقيقية، وهي تلاوة المعنى واتِّباعه؛ تصديقًا بخبره، وائتمارًا بأمره، وانتهاءً بنهيه، وائتمامًا به؛ حيثما قادك انقدت معه)[5].   وفي فضيلة التفكير والتدبر ذكر - رحمه الله تعالى - كلامًا نفيسًا قيمًا، أنقل منه هذا المقتطف: (فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم، وأنفع للقلب، وأدعى إلى حصول الإيمان، وذوق حلاوة القرآن، وهذه كانت عادة السلف، يُردِّد أحدُهم الآية إلى الصباح؛ ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: لا تهذُّوا القرآن هذَّ الشعر، ولا تنثروه نثر الدَّقَل (أردأ التمر)، وقِفوا عند عجائبه، وحرِّكوا به القلوب، ولا يكن همُّ أحدِكم آخر السورة، قال الحسن البصري: أُنزِل القرآن ليُعمَل به، فاتَّخذوا تلاوته عملاً)[6].   إذًا فأمامنا ثلاثة ألفاظ: (اقرأ، اتل، رتِّل)، وذلك فيما يختصُّ بالنطق بآيات القرآن، هذا بخلاف الأوامر الصريحة بالتدبر والتفكر في آيات الله تعالى القرآنية.   وقد أشرت إلى معنى القراءة ومعنى التلاوة، وبقي أن أشير إلى معنى الترتيل، قال تعالى: ﴿ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ﴾ [المزمل: 4].   جاء في مختار الصحاح في معنى (رتِّل): الترتيل في القراءة: الترسُّل فيها والتبيين[7]، وفي قوله تعالى: ﴿ تَرْتِيلًا ﴾ تأكيد في إيجاب الأمر به.   يقول الرازي - رحمه الله تعالى -: (واعلم أنه تعالى لَمَّا أمره بصلاة الليل، أمره بترتيل القرآن؛ حتى يتمكن الخاطر من التأمل في حقائق تلك الآيات ودقائقها، والإسراع في القراءة يدل على عدم الوقوف على المعاني...
فظهر أن المقصود من الترتيل إنما هو حضور القلب وكمال المعرفة)[8].   ومن هنا فلا بد من التدبر والتتبع، والنظر في القرآن الكريم نظرة شاملة وموضوعية، لا موضعية ولا جزئية، فالمقصود قراءة القرآن كله، لا قراءة سورة أو آية منفصلة عن غيرها، وفي هذا يقول الشيخ محمد الغزالي - رحمه الله -: (لا بد من النظرة الشمولية للقرآن كله، وهكذا انطلَق القرآن من بَدْء نزوله حيث تجد ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ * كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾ [العلق: 1 - 7]، الأمر بالقراءة أولاً، وكون القراءة باسم الله (ربك)، وليست ثقافة مجردة، أو علمًا للعلم؛ وإنما هي قراءة باسم الله سبحانه وتعالى، لها هدفها...
الله (الرب) الذي خلق...
ربط القراءة بتكوين الإنسان من علق، قضية متباعدة الأطراف...، ثم التركيز على هذا...
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق: 1 - 5]، الدخول في مسألة اقتصادية واجتماعية معًا، وهي طغيان الإنسان عندما يترف وينعم ويجيئه المال، ويستكبر به، هذه المعاني المتباعدة في ظاهرها هي القرآن الذي يكون مائدةً متماثلة فيما ذهب من حقائقِ الحياة وعناصرها لمن يسمع ولمن ينفذ، فلا بد من هذا الشمول في النظر، والنظرة الجزئية وحدَها تكون غير كاملة؛ لأنها انقطعت عن بقية الصورة)[9].   ترتيب النزول: لا شك أن من أوائل ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة العلق، ونون والقلم، والمدثر، والمزمل، والفاتحة[10]، وإذا تأمَّلنا الخطاب في هذه المرحلة من مراحل الوحي، نجد أن عناصر الدعوة كانت تتركز فيما يلي: 1- تثبيت قلب النبي صلى الله عليه وسلم ومواساته، ومساندته وتأييده، كما في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾، ﴿ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ﴾، ﴿ وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ ﴾ [المزمل: 1 - 10]، وكما في سورة المدثر: ﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ﴾ [المدثر: 11]، وكما في سورة القلم: ﴿ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ * فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ﴾ [القلم: 2 - 5].   2- الدعوة إلى التوحيد، والتعريف بالرب الخالق للإنسان من علقٍ، الواهب لكل النعم، رب كل شيء، رب المشرق والمغرب، الذي لا خالق غيره، ولا إله إلا هو، كما في قوله تعالى: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ [العلق: 1]، وقوله تعالى: ﴿ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا * رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ﴾ [المزمل: 8، 9]، وقوله تعالى: ﴿ قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ﴾ [المدثر: 2 - 5]، كذلك توجيه الأنظار للتأمل في: (1) القرآن المنزل. (2) ظواهر الحياة والكون. (3) تاريخ السابقين للاعتبار.   وذلك لمعرفة الله - عز وجل - وسننه في الخلق والكون؛ لبيان قدرته، وقهره وعظمته، وأن إليه المآل والمآب، وحتمية البعث والحساب.   3- هدم الفكرة القبلية والاستعلائية، أو الفكرة العنصرية عند العرب؛ إذ لا تستقيم دعوة عالمية على أساس من العنصرية أو القبلية، وتأسيس مبدأ المساواة والإخاء أمام العقيدة[11].   4- التهوين من شأن المال وطغيان الغنى، قال تعالى: ﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى ﴾[العلق: 6 - 8].   ثم تتابع النزول بعد سورة العلق والقلم والمدثر، سور أخرى تضافرت في تسلسل وترابط رائع محكم؛ لتحقيق الهدف الأول والمرحلي الذي ذكرته آنفًا، وهو تثبيت قلب النبي صلى الله عليه وسلم، والتعريف بالرب الخالق، وكان من المجموعة الثانية من تلك السور: سورة التكوير، الأعلى، الليل، الفجر، الضحى، والشرح.   وهكذا ظل القرآن المكي ينزلُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليربِّي الناس على حب الله وتعظيمه، وتنزيهه عن كل نقص وعيب، واستغنائه سبحانه عن الشريك والصاحبة والولد، وإثبات صفات الكمال والجمال والجلال له سبحانه وحده.   كما كان ينزل القرآن في هذه المرحلة، خصوصًا بعد تحوُّل الدعوة من المرحلة السرية إلى مرحلة الإعلان والمواجهة مع جحافل الكفر والشر؛ ليربطَ على قلوب المؤمنين، ويقوي عزيمتهم، ويتوعد مَن يعاديهم ويعاند ما جاء به الدين الجديد من توحيد الله عز وجل، فنجد قول الله تعالى: ﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ﴾ [المدثر: 11]، وقوله تعالى: ﴿ وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ﴾ [المزمل: 10]، ﴿ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا ﴾ [الطارق: 15 - 17].   وبعد مرحلة الأذى وتحمُّل التكذيب والعناد، نجد توجيهات القرآن بأن الله تعالى سيكشفُ هذه المحنة، وستكون الغَلَبة للقلَّة المؤمنة المستضعَفة، وسيتحوَّل الاستضعاف وحالة الذل إلى قوة وتمكين في الأرض، وأن الأمر بيد الله وحده، ولكن ما على المؤمنين إلا الصبر والارتقاب والانتظار، قال تعالى: ﴿ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [يونس: 107]، وقال تعالى: ﴿ وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ * وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [هود: 121 - 123]، وقوله تعالى في آخر آية في سورة الدخان: ﴿ فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ ﴾ [الدخان: 59].   وفي هذه المرحلة كذلك: ومما نزل بمكة سورة الإسراء، وما كان من تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتأييده بمعجزة الإسراء والمعراج، وفرض الصلاة، وتبشيره بالنصر على أعدائه، كما نصر الله تعالى موسى عليه السلام على فرعون وجنوده؛ إذ قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا * قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا * فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا ﴾ [الإسراء: 101 - 103].   وكما مكَّن الله تعالى لبني إسرائيل وأسكنهم في الأرض، سوف يُمكِّن لك يا محمد، ﴿ وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا * وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ﴾ [الإسراء: 104، 105]، وإذا كانوا يدبِّرون لإخراجك من بلدك، فإن سُنة الإهلاك ستنالُهم، ولكن لا تركَنْ إليهم، وعليك بالثبات، والتزِم بتلك التوجيهات: ﴿ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا * وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا ﴾ [الإسراء: 78 - 80]، والترتيب النزولي يساير حركةَ النفس الإنسانية وتفاعلَها مع الدعوة الجديدة بالدفع إلى الأمام، أو بالتقويم عند الانحراف.   ومن هنا أقول: إن الترتيب النزولي كان معنيًّا بإرساء العقيدة وترسيخ الإيمان، والتربية على الأخلاق والمثل العليا، ولقد تم ذلك بأفضل وأرقى وأعظم ما يكون، فكان نتاج هذه المرحلة هو جيل الصفوة، جيل الصحابة رضوان الله عليهم، وهو جيل التأسيس.   وجدير بالذكر أن إعداد هذا الجيل قد تم تأسيسه على مدى ثلاثة عشر عامًا؛ أي إنه لم يتم ذلك في دفعة واحدة، ولا بجرة قلم، ولا بأوامر واجبة التنفيذ في الحال، ولكنه تم بتدرج، مراعاة لأحوال النفس البشرية، فإنها لا تتخلى عن مألوفاتها ومعتقداتها في يوم وليلة، ولكن الله الحكيم العليم الخبير الرحيم، سلك بهم طريق التدرج حتى صار الإيمان في قلب الواحد منهم كالجبل، وصار الدين عند أحدهم أغلى وأعزَّ عليه وأحب إليه من ماله وولده ونفسه والناس أجمعين، هذا عن ترتيب النزول.   ترتيب المصحف: وإذا تتبَّعنا ترتيبَ المصحف، فسوف نجد أن أول سورةٍ في كتاب الله - عز وجل - هي سورة الفاتحة، ثم البقرة، ثم آل عمران، ثم النساء، ثم المائدة، وكلها سور مدنية (عدا سورة الفاتحة، في نزولها خلاف)، ولا شك أنها نزلت بتشريعات، وتُعنَى بإرساء قواعد الدولة الجديدة، والشريعة الخاتمة التي تمثل أعلى درجة من درجات الكمال والتمام، ونسخت جميع الشرائع السابقة، وترتيب المصحف لا شك أنه توقيفي صادر عن حكيم عليم، ذكر الإمام السيوطي - رحمه الله تعالى - ما يلي: أسباب ترتيب السور في المصحف: لترتيب السور في المصحف أسباب تدل على أنه توقيفي صادر عن حكيم: أحدها: بحسب الحروف كما في الخواتيم. الثاني: لموافقة أول السورة لآخر ما قبلها، كآخر الحمد في المعنى وأول البقرة. الثالث: للوزان في اللفظ، كآخر "تبت" وأول "الإخلاص". الرابع: لمشابهة جملة السورة لجملة أخرى كالضحى و"ألم نشرح"[12].   وبيان ذلك ما يلي: سورة الفاتحة تضمَّنت الإقرار بالربوبية والالتجاء إليه في دين الإسلام، والصيانة عن دين اليهودية والنصرانية، وسورة البقرة تضمنت قواعد الدين، وآل عمران تكملة المقصود، فالبقرة بمنزلة إقامة الدين على الحكم، وآل عمران بمنزلة الجواب عن شبهات الخصوم؛ ولهذا ورد فيه ذكر المتشابه لما تمسك به النصارى، وأوجب الحج في آل عمران، وأما في البقرة، فذكر أنه مشروع وأمر بإتمامه بعد الشروع فيه، وكان خطاب النصارى في آل عمران أكثر، كما أن خطاب اليهود في البقرة أكثر؛ لأن التوراة أصل، والإنجيل فرع لها، والنبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة دعا اليهود وجاهدهم، وكان جهاده للنصارى في آخر الأمر، وأما سورة النساء، فتضمنت أحكام الأسباب التي بين الناس، وهي نوعان: مخلوقة لله تعالى، ومقدرة لهم؛ كالنسب والصهر؛ ولهذا افتتحت بقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].   فانظر إلى هذه المناسبة العجيبة بالافتتاح وبراعة الاستهلال؛ حيث تضمنت الآية المفتتَح بها نظير السورة في أحكامه من نكاح النساء ومحرماته، والمواريث المتعلقة بالأرحام، وأن ابتداء هذا الأمر كان بخَلْق آدم، ثم خلق زوجه منه، ثم بثَّ منهما رجالاً كثيرًا ونساءً في غاية الكثرة.   وأما سورة المائدة، فقد تضمَّنت بيان الشرائع، وتكملات الدين، والوفاء بالعهود، وبها تم الدين، فهي سورة التكميل، وهذا الترتيب بين هذه السور الأربع من أحسن الترتيب[13].   قلت: إن لترتيب السور في المصحف الشريف حكمةً عظيمة بالغة، وسرًّا عجيبًا لا يعرفه الكثير، ولا يهتم ولا ينشغل به إلا القليل القليل، فهو سلسلة متناسقة المباني، متصلة المعاني، والأمر يحتاج إلى تأمل عميق، وتتبع دائب، كما يحتاج إلى صفاء ذهن، ونقاء قلب، فالقرآن العظيم ربيع القلب، وغذاء الروح، ومتعة العقل، وراحة الفكر، وسكينة النفس، وشفاء البدن، وذَهاب الهم، وجلاء الحزن، وكشف الكَرْب، والمخرج من كل ضيق، والمنقذ من الفتن، والعاصم من الضلال، والجواب لكل سؤال، والهادي لكل حائر، والعلاج لكل أزمة، والحل لكل مشكلة، فهو كلام رب العالمين، ورسالته للخلق أجمعين، وخطابه للناس إلى يوم الدين، وبعد الحديث عن بعض أسباب الترتيب، أتحدث عن بعض أسرار الترتيب.   أسرار ترتيب المصحف: وحينما أتحدث عن ترتيب السور حسب ما هو مثبت في المصحف الشريف، فإن ما سأقوله هو اجتهادات واستخلاصات من تأملات وتتبعات وقراءات تدبرية، فإن وافق الإصابة، فهو من الله - عز وجل - ومن فضله ومنِّه، وإن كان غير ذلك، فهو الحرمان وقد جلبتْه عليَّ ذنوبي.   لقد كان البَدْء بالفاتحة؛ فاتحة الكتاب، وهي بمثابة العنوان الكبير والواجهة والمقدِّمة، ويشهد لذلك ما ورد في أسمائها؛ فمنها: • أم القرآن، قال الإمام الرازي: (وأم الشيء أصلُه، والمقصود من كل القرآن تقرير أمور أربعة: الإلهيات، والمعاد، والنبوات، وإثبات القضاء والقدر لله تعالى، فقوله: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ [الفاتحة: 2، 3] يدل على الإلهيات، وقوله: ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ يدل على المعاد، وقوله: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ يدل على نفي الجبر، وإثبات أن الكل بقضاء الله وقدره، وقوله: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ يدل على إثبات قضاء الله وقدره وعلى النبوات[14].   فكان الإجمال في الفاتحة، والتفصيل بعد ذلك، وسميت بأم الكتاب، والواقية، والكافية، والأساس، والسبع المثاني[15]، وهي كذلك تمثِّل مجملَ القرآن، وكان ما بعدها تفصيلاً وشرحًا لها؛ ولهذا وغيره كان البَدْء بالفاتحة، ثم تليها سورة البقرة، فما السر وما العَلاقة الرابطة بين سورة الفاتحة وسورة البقرة؟ ثم ما السر في مجيء سورة آل عمران، ثم النساء، ثم المائدة، ثم الأنعام، ثم الأعراف؟   أجيب فأقول: إذا كان ترتيب النزول معنيًّا بتربية رجال، وبناء جيل على التوحيد الخالص والأخلاق العالية، فإن ترتيب المصحف معنيٌّ ببناء الدولة على أساس الشريعة الإسلامية؛ لأن التشريعات بدأ يتوالى فرضها في المدينة المنورة بعد الهجرة على مراحل، فكانت هذه المرحلة بمثابة تأسيس دولة الإسلام على أحكام وتكاليف الدين الجديد، وكان للقرآن المدني أثرٌ عظيم في امتداد الأمة وخروجها من حيز أو نطاق التربية العقيدية والأخلاقية إلى التربية السياسية، وانطلاق لعالمية الإسلام، فقرآن المدينة كان يهدف ولا يزال إلى تكوين دولة الإسلام بكل مقوماتها في مواجهة دول الكفر بكل مقوماتها، سواء دولة الكفر في مكة، أو دولتا الفرس والرومان؛ ولهذا كان فرض القتال في بداية هذه المرحلة لحماية الدولة، وإزالة العوائق أمام الدعوة، ولتقليم أظافر الطغاة والمعاندين، الذين لا يريدون للدعوة أن تمتد، ولا يُرحِّبون بالإسلام أن ينتشر، ولقد كان هذا الصراع مع قُوَى الشر يقوم على ميزان الشرف والعدل، وتقديس العهد، وعدم الخيانة، وتحريم الغدر، واحترام الإنسان من حيث هو إنسان.   وأستطيع القول: إن سورة البقرة والأنفال وآل عمران تمثِّل أول مرحلة تشريعية، وسورة النساء تمثل مرحلة متوسطة، وسورتَي المائدة والتوبة تمثِّلان آخر مراحل التشريع، فكان نزول سورة البقرة في بداية المرحلة المدنية ضرورةً تقتضيها المرحلة، ونظرة شاملة إلى موضوع سورة البقرة نجد أنها تهتمُّ أولاً بمواجهة اليهود وبيان طبيعتهم وصفاتهم؛ كالمراوغة، وكتمان الحق، وتلبيس الحق بالباطل، والإيمان ببعض الكتاب والكفر بما لا يوافق أهواءهم، وكذا التحذير منهم ومن التشبُّه بهم.   وأما الأمر الثاني، فهو إرساء أحكام وقوانين الدولة من فرض عبادات كالصيام والزكاة والحج، ثم مرحلة رد العدوان وعدم البَدْء به، (ثم نسخ في سورة التوبة آية رقم 5)، وكان أمر تحويل القبلة، وأحكام النساء، (ثم أكملت في سورة النساء)، وتحريم الربا، وبيان قواعد المعاملات، كما في آية الدَّين.   فهذه المرحلة التي نزلت فيها سورة البقرة تمثِّل بداية المرحلة التشريعية.   وإذا كان الحديث في سورة البقرة عن اليهود فيما يقترب من مائة وعشرين آية، فإن الحديث عن النصارى في سورة آل عمران، قد استغرق مائة وعشرين آية إلى قوله تعالى: ﴿ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾ [آل عمران: 120]، ثم يبدأ الموضوع الثاني لسورة آل عمران، وهو غزوة أُحُد وحَمْرَاءِ الأسدِ، وتخلل الحديث في أنحاء السورة عن فرض الحج، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتحذير من موالاة الكافرين.   وإذا كان آخِر أمر في آخِر آية في سورة آل عمران هو ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 200]، فإن أول أمر في أول آية في سورة النساء هو: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ ﴾ [النساء: 1]، وهنا لطيفة هامة، وهي تَكرار ذكر التقوى والأمر بها ومراعاتها، واقتران ذلك بالأوامر والنواهي والأحكام، فما هو المغزى والمعنى؟   وأجيب على ذلك، فأقول: إن الدين الإسلامي عقيدة وشريعة وأخلاق، وهكذا الدولة الإسلامية: "أرض" يقام فيها شرع الله تعالى، و"أناس" مسلمون، يؤمنون بوحدانية الله تعالى، ويخضعون لعبوديته، ويرضون بحكمه، و"نظام" يهتم بنشر الفضائل والقيم العليا، وأهم ما يتميز به المجتمع الإسلامي هو التقوى، والتقوى هي التي تحرك الضمائر، وتجعل المذنب يقدم نفسه للعدالة، ويطالب بإقامة الحد عليه.   ولهذا نجد ارتباط الأحكام بالتقوى في مواضع كثيرة؛ منها: 1- ارتباط حكم القصاص بالتقوى: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 179].   2- ارتباط أمر القتال بالتقوى، فهناك أربع آيات في سورة البقرة تتحدث عن القتال، وفي آخر الآية الخامسة قوله تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 194]، وهي قوله تعالى: ﴿ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ * الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 191 - 194].   3- وفي أمر الطلاق وأحكام النساء نجد تكرار الأمر بالتقوى خمس مرات في سورة البقرة، آخرها قوله تعالى: ﴿ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 241].   4- وفي تحريم الربا يقول - عز وجل -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 278]، وفي سورة آل عمران قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 130].   وهكذا لو استقصينا، فسنجد أن الأمر بالتكاليف مرتبط بالأمر بالتقوى؛ لأن الهدف من تأدية العبادات التي فرضها الله - عز وجل - هي اكتساب خُلُق التقوى، أو حصول التقوى، من أجل أن يكون التعامل بين الناس على أساس التقوى، وتنفيذ الأحكام على النفس وعلى الغير قائمًا على التقوى، فالتقوى في الإسلام حارسة للقوانين وللمجتمع، وهي سياج له، ومثال ذلك قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]، وكان ختام آيات الصيام قوله تعالى: ﴿ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 187]، ثم يليها قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 188]، فيتبين هنا أن ثمرة الصيام هي التقوى، ولا بد أن تظهر آثار التقوى على أرض الواقع في معاملات مالية نظيفة.   ومن هنا أقول: إن صلاح الفرد ليس في كثرة صيامه ولا صلاته، ولكن بعدله وورعه في معاملاته المادية أو المالية مع الآخرين، وإن الحكم على أي إنسان إنما يكون بقدر ابتعاده عن أكل الحرام، وتنزهه عن المعاملات المشبوهة، واتقائه للشبهات، خصوصًا في كسب الرزق وتحصيله؛ لأن طلب الحلال عبادة من أسمى العبادات.   ثم أعود إلى سورة النساء، فقد سبق أنها تضمنت أحكام الأسباب التي بين الناس، ففيها بيان أن الأصل في أبضاعِ النساء هو الحُرمة إلا ما كان بنكاح صحيح، وتفصيل المواريث، والإصلاح بين الأزواج، وأداء الأمانات، والرجوع إلى الله والرسول عند التنازع، وحديث عن بعض أحكام القتال، والهجرة من أرض المعاصي.   ثم جاءت سورة التكملة، وهي المائدة، لتتلاحم مع سورة النساء، وتتمِّم الأحكام في صورتِها النهائية؛ ولهذا جاء فيها قوله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3].   وإذا كان الأصل في الأبضاع هو الحرمة في سورة النساء، فقد جاء في سورة المائدة أن الأصل في الذبائح هو الحرمة إلا ما ذكِّي ذكاة شرعية.   وإذا كانت سورة المائدة - في معظمها - في محاجَّة المشركين من أهل الكتاب وإبطال عقائدهم الفاسدة، فقد تناولت سورة الأنعام - في معظمها - محاجَّة المشركين من عبدة الأوثان في تكذيبهم للبعث والرسالة وإبطال عقائدهم الفاسدة، كما تناولت سورة الأنعام الناحية العقدية التي تبيِّن ضلال أهل مكة في معتقداتهم المتعلقة بالأنعام والذبائح، فكانوا يجعلون بعضها لله وبعضها للشركاء.   هذا من الناحية الموضوعية، أما من الناحية الشكلية من حيث مجيء أو ترتيب سورة الأنعام بعد سورة المائدة، فهو أن آخر آية في سورة المائدة هي قوله تعالى: ﴿ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [المائدة: 120]، وأول آية في سورة الأنعام قوله تعالى: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾ [الأنعام: 1].   هذا، وقد ذكر الإمام الحافظ السيوطي - رحمه الله تعالى - أن مِن وجوهِ إعجاز القرآن (مناسبة آياته وارتباط بعضها ببعض، حتى تكون كالكلمة الواحدة؛ متسقة المعاني، منتظمة المباني، وفائدة علم المناسبة جعل أجزاء الكلام بعضها آخذًا بأعناق بعض، فيقوَى بذلك الارتباط، ويصير التأليف حالته حال البناء المحكم المتلائم الأجزاء)[16].   ويقول الأستاذ عبدالقادر أحمد عطا: (والقرآن وحدَه هو الكتاب الذي يُعطِيك من كل وجهة من وجهتَي ترتيبه منهجًا عالميًّا جامعًا مانعًا محكمًا؛ فهو في ترتيبه النزولي منهج لتأسيس دعوة، وأسلوب إقناع بعقيدة، وطريقة تبشير وإنذار، ودحض كامل لمنطق الإلحاد، وهو في ترتيبه المصحفي أسلوب حياة وبناء حضارة، ودستور للعالَم كله، محيط بكل صغيرة وكبيرة من حاجاته ومطالبه)[17].   ومن عجائب الترتيب المصحفي أن تحريم الخمر تم بتدرُّج على ثلاث مراحل: فكانت الأولى في سورة البقرة، وهي قوله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ﴾ [البقرة: 219].   وأما الثانية، فكانت في سورة النساء، وهي قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ﴾ [النساء: 43].   وأما الثالثة، فكانت في سورة المائدة، وهي قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [المائدة: 90]، فتوافَق هنا الترتيبُ المصحفي مع التدرج في تحريم الخمر.   وبالنسبة إلى الحج، فقد جاء في سورة البقرة الأمر بالإتمام عند الشروع، وذلك في قوله تعالى: ﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ...
[البقرة: 196].   أما الأمر الصريح الذي صار به الحج فرضًا، فقد جاء في سورة آل عمران، وهو قوله تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 97].   وعن التدرج في فرض القتال، فقد مر بمراحل سوف أناقشها في هذا البحث بالتفصيل، لكن نجد في سورة البقرة قوله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ﴾ [البقرة: 193].   أما في سورة الأنفال، فقد ورد قوله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ﴾ [الأنفال: 39]، (فقد جاء هذا النسق على ترتيب القتال داخل الجزيرة العربية وخارجها، فالذي في سورة البقرة يراد به كفار مكة والجزيرة العربية؛ لتكوين القاعدة العربية الأولى التي يُناط بها نشر الدعوة خارج الجزيرة؛ ولذلك جاء في الأنفال كلمة (كله)؛ إشارة إلى قتال جميع الكفار، وقد تطابَق الترتيب مع الواقع، ورتبت الأوامر حسب تدرجها)[18].   وهذه بعض الأمثلة، ذكرتها لبيان وتأكيد أن الترتيب المصحفي إنما هو منهج تشريعي يقوم على التدرج، فيشار إلى أمر التكليف في سورة، ثم يذكر في سورة تالية على سبيل الإلزام أو الحتم، وهذا عن بعض أسرار ترتيب المصحف، وسماه العلماء بعلم المناسبات.   ويقول الأستاذ عبدالقادر أحمد عطا: (ولقد عُرِف سر ترتيب القرآن قديمًا بعلم المناسبات، أما أسرار ترتيب النزول، فلا نعلم أحدًا تعرَّض له في كتاب، لا في القديم ولا في الحديث، إلا قليلاً في كتب الأصول)[19].   قلت: وترتيب النزول يُمثِّل تاريخ الدعوة منذ بدايتها حتى نهايتِها، كما أنه تسجيل لوقائع وأحداث الرسالة، وهو منهج تربية على العقيدة والإعداد لتحمُّل أمانة الدين والدعوة، كما أنه منهج تشريع (حسب ترتيب المصحف)، وذلك على مدى ثلاثة وعشرين عامًا؛ منها ثلاثة عشر عامًا بمكة، وعشر سنين بالمدينة، وقد شغلني البحث في ترتيب النزول، وتمنَّيت لو استقصيته ودرستُه، واسأل الله تعالى التوفيق والعون لعمل دراسة في سر ترتيب النزول من أول سورة اقرأ (العلق) إلى سورة النصر، تكون تمهيدًا لفتح باب الدراسة والبحث في هذا السر العظيم.   بيان ترتيب سور القرآن حسب النزول: الترتيب النزولي: أول ما نزل بمكة م السورة م السورة م السورة م السورة م السورة 1- العلق 24- عبس 47- الشعراء 70- النحل 92- النساء 2- القلم 25- القدر 48- النمل 71- نوح 93- الزلزلة 3- المزمل 26- الشمس 49- القصص 72- إبراهيم 94- الحديد 4- المدثر 27- البروج 50- الإسراء 73- الأنبياء 95- محمد 5- الفاتحة 28- التين 51- يونس 74- المؤمنون 96- الرعد 6- المسد 29- قريش 52- هود 75- السجدة 97- الرحمن 7- التكوير 30- القارعة 53- يوسف 76- الطور 98- الإنسان 8- الأعلى 31- القيامة 54- الحجر 77- الملك 99- الطلاق 9- الليل 32- الهُمَزة 55- الأنعام 78- الحاقة 100- التين 10- الفجر 33- المرسلات 56- الصافات 79- المعارج 101- الحشر 11- الضحى 34- ق 57- لقمان 80 النبأ 102- النور 12- الشرح 35- البلد 58- سبأ 81- النازعات 103- الحج 13- العصر 36- الطارق 59- الزمر 82- الانفطار 104- المنافقون 14- العاديات 37- القمر 60- غافر 83- الانشقاق 105- المجادلة 15- الكوثر 38- ص 61- فصلت 84- الروم 106- الحجرات 16- التكاثر 39- الأعراف 62- الشورى 85- العنكبوت 107- التحريم 17- الماعون 40- الجن 63- الزخرف 86- المطففين 108- التغابن 18- الكافرون 41- يس 64- الدخَان وأول ما أنزل بالمدينة 109- الصف 19- الفيل 42- الفرقان 65- الجاثية 87- البقرة 110- الجمعة 20- الفلق 43- فاطر 66- الأحقاف 88- الأنفال 111- الفتح 21- الناس 44- مر يم 67- الذاريات 89- آل عمران 112- المائدة 22- الإخلاص 45- طه 68- الغاشية 90- الأحزاب 113- التوبة 23- النجم 46- الواقعة 69- الكهف 91- الممتحنة 114- النصر   وانظر كتاب الإتقان في علوم القرآن للحافظ السيوطي رحمه الله تعالى، وقد جاء فيه ما يلي: قال أبو بكر محمد بن الحارث بن أبيض في جزئه المشهور: حدثنا أبو العباس عبيدالله بن محمد بن أعين البغدادي، حدثنا حسان بن إبراهيم الكرماني، حدثنا أمية الأزدي، عن جابر بن زيد، قال: أول ما أنزل الله من القرآن بمكة: (اقرأ)، ثم (نون والقلم)، ثم (المزمل)، ثم (المدثر)، ثم (الفاتحة)، ثم (تبَّت يدا أبي لهب)، ثم (إذا الشمس كورت)، ثم (ألم نشرح)، ثم (والعصر)، ثم (والعاديات)، ثم (الكوثر)، ثم (ألهاكم)، ثم (أرأيت الذي يكذب)، ثم (الكافرون)، ثم (ألم تر كيف)، ثم (الفلق)، ثم (الناس)، ثم (قل هو الله أحد)، ثم (والنجم)، ثم (عبس)، ثم (إنا أنزلناه)، ثم (والشمس)، ثم (البروج)، ثم (والتين)، ثم (لإيلاف)، ثم (القارعة)، ثم (القيامة)، ثم (ويل لكل همزة)، ثم (والمرسلات)، ثم (ق) ثم (البلد) ثم (الطارق)، (ثم اقتربت الساعة)، ثم (ص)، ثم (الأعراف)، ثم (الجن)، ثم (يس)، ثم (الفرقان)، ثم (الملائكة)، ثم (كهعيص)، ثم (طه)، ثم (الواقعة)، ثم (الشعراء)، ثم (طس سليمان)، ثم (طسم القصص)، ثم (بني إسرائيل)، ثم التاسعة (يونس)، ثم هود، ثم يوسف، ثم الحِجر، ثم الأنعام، ثم الصافات، ثم لقمان، ثم سبأ ثم الزمر، ثم حم المؤمن، ثم حم السجدة، ثم حم الزخرف، ثم حم الدخان، ثم حم الجاثية، ثم حم الأحقاف، ثم الذاريات، ثم الغاشية، ثم الكهف، ثم حم عسق، ثم تنزيل السجدة، ثم الأنبياء، ثم النحل، ثم سأل، ثم عم يتساءلون، ثم النازعات، ثم إذا السماء انفطرت، ثم إذا السماء انشقت، ثم الروم، ثم العنكبوت، ثم (ويل للمطففين)، فذاك ما أنزل بمكة.   وأنزل بالمدينة: سورة البقرة، ثم آل عمران، ثم الأنفال، ثم الأحزاب، ثم المائدة، ثم الممتحنة، ثم (إذا جاء نصر الله والفتح)، ثم النور، ثم الحج، ثم المنافقون، ثم المجادلة، ثم الحجرات، ثم التحريم، ثم الجمعة، ثم التغابن، ثم سبح الحواريين، الصف، ثم الفتح، ثم التوبة، وخاتمة القرآن؛ (أي: الفلق والناس).   قلت: (والقول للإمام السيوطي): هذا سياق غريب، وفي هذا الترتيب نظر، وجابر بن زيد من علماء التابعين بالقرآن.   وخلاصة القول: إن البحث والحديث عن أسرار ترتيب النزول وأسرار ترتيب المصحف والحكمة من ذلك - لا تكفي حصرَه وإحصاءَه أقلامُ شجر الأرض، ولا مِداد البحار والأنهار؛ لأنها كلمات الله وأسرار كتابه، قال - عز وجل -: ﴿ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [لقمان: 27]، لكن ما بدا لنا أن حسن التأليف، والتئام الكلمات، والتدرج في النزول، ونزول القرآن منجمًا، ومواقع تلك النجوم، ومراعاة أحوال النفس البشرية، وفطرة الله التي فطر الناس عليها في كيفية تربيتها، وترويضها للانقياد لأوامر الله تعالى، وتقبُّل التكاليف - لهو من دلائل الإعجاز.   ذكر الإمام السيوطي - رحمه الله تعالى - عن ابن عطية قوله: (والصحيح الذي عليه الجمهور والحذَّاق في وجوه إعجازه أنه بنظمِه، وصحة معانيه، وتوالي فصاحة ألفاظه؛ وذلك أن الله تعالى أحاط بكل شيء علمًا، وأحاط بالكلام كله علمًا، فإذا ترتَّبت اللفظة من القرآن علِم بإحاطته أيَّ لفظة تصلح أن تلي الأولى، وتبين المعنى بعد المعنى، ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره)[20].   وإذا كان هناك مَن يقول: إنه يجب البحث والكلام عن الإعجاز العلمي والاهتمام به، خصوصًا في عصر التقدم العلمي، وإن الإعجاز البياني لا يناسب العصر؛ وذلك بسبب البعد عن قواعد اللغة وغياب الفصحى، وضياع التذوق البياني، فإن هذا الكلام مردود، ويستطيع الباحثون أن يخاطبوا جميع المستويات على مدار الأزمان ومر الأيام والأعوام بهذا اللون من الإعجاز، فإنه قائمٌ ما دامت السمواتُ والأرضُ، ومعجزة التحدي مستمرة، والله تعالى حافظٌ كتابَه، ولكن علينا مداومة التأمل والبحث لاستخراج كنوز الإعجاز ودرر التحدي؛ لأن المهمة الكبرى للعلماء هي فهم كتاب الله تعالى وتفهيمه للناس، وأهم نواحي الإعجاز فيما أرى هو الإعجاز البياني والتشريعي.   التدرج في التحدي: إن القرآن الكريم هو المعجزة الخالدة إلى يوم القيامة، وقد تحدَّى الله تعالى الخلق جميعًا، الإنس والجن، العرب والعجم، أن يأتوا بمثله، أو بعَشر سُورٍ مثله، أو بسورة مثله، أو بسورة من مثله، فلم يفعلوا، وكما تحدَّاهم كذلك في المدينة المنورة وقتَ أن كان يسكنها أهل الكتاب الذين أوتوا العلم قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، كذلك لا يزال التحدي قائمًا ومستمرًّا إلى قيام الساعة، وقد سلك القرآنُ سبيلَ التدرُّج في التحدي، وبيان ذلك ما يلي: 1- أنه تحدَّاهم بأن يأتوا بكتاب مثله أو بحديث مثله، وذلك في قوله تعالى: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ﴾ [الطور: 33، 34]، وقوله تعالى: ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ [الإسراء: 88].   2- أنه تحدَّاهم بأن يأتوا بعَشر سور مثله، وذلك في قوله تعالى: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [هود: 13]، والعجيب المعجِز في هذه الآية وفي هذه الدرجة من درجات التحدي، أنه مع أن هذه الآية من سورة هود المكية، فإنه قد جاء ترتيبها في المصحف الحادية عشرة؛ أي سبقها عشر سور منها ست سور مدنية؛ ولهذا جاء التحدي في هذه الآية من هذه السورة بعشر سور، فتأمَّل!   3- الترقي في التحدي بسورة مثله، وذلك في قوله تعالى: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [يونس: 38].   4- أعلى درجات التحدي؛ بل هو آخر آيات التحدي من حيث القوة والإعجاز والاستمرار، في قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 23، 24].   ويتمثل التحدي فيما يلي: أ- قوله تعالى ﴿ مِنْ مِثْلِهِ ﴾ ولم يقل: (مثله) كما في الآيات السابقة، يقول ابن كثير - رحمه الله -: (تحداهم كلهم متفرقين ومجتمعين، سواء في ذلك أُمِّيُّهم وكتابيُّهم، وذلك أكمل في التحدي وأشمل من أن يتحدى آحادهم الأميين ممن لا يكتب ولا يعاني شيئًا من العلوم)[21].   ب- قوله تعالى: ﴿ وَلَنْ تَفْعَلُوا ﴾، يقول ابن كثير: (و"لن" لنفي التأبيد في المستقبل؛ أي: ولن تفعلوا ذلك أبدًا، وهذه أيضًا معجزة أخرى، وهو أنه أخبر خبرًا جازمًا قاطعًا مقدمًا، غير خائف ولا مشفق، أن هذا القرآن لا يعارض بمثله أبد الآبدين، ودهر الداهرين، وكذلك وقع الأمر، لم يعارض من لدنه إلى زماننا هذا، ولا يمكن، وأنَّى يتأتى ذلك لأحد؟!)[22].   جـ- إن الآية تحدٍّ للعرب ولأهل الكتاب، خصوصًا اليهود الذين هم أصحاب الكتاب الأول، بل وللشركاء، ولجميع طوائف الخلق، فالآية مدنية من سورة البقرة.   د- التحدي في الآية جاء بغير واسطة (بغير قل)، وهذا يقوي التحدي.   فبدأ التحدي بأن يأتوا بمثله كله، أو بعشر سور، أو بسورة، وكما تحداهم بمكة تحداهم بالمدينة، وشمل التحدي الإنس والجن، فكان التدرج في التحدي وجهًا من وجوه الإعجاز؛ لنعلم أن التدرج سنة ربانية، وقاعدة قرآنية؛ ليفهم الدعاة والمصلحون كيف يتعاملون مع المتشككين والمعارضين والمجادلين، وأن يصبروا ويوسِعوا صدورهم، ويتحملوا من الناس جهلهم وعنادهم وإعراضهم حتى ينقذوهم من الضلال.   الثالث: الناسخ والمنسوخ (والنسيء): ذكرت أن الناسخ والمنسوخ في القرآن لا يتأتى إلا إذا كان نزول القرآن منجمًا؛ ليتم التدرج في الأحكام، وذكر الإمام السيوطي أن وقوع الناسخ والمنسوخ له حِكَم، منها التيسير[23]، وقد ذكرت أن التدرج يسهِّل قبول التكاليف.   ومن حِكَم النسخ: مراعاة أحوال المكلَّفين، ففي حال القلَّة والضعف كان الأمر بالصبر والصفح، ثم كان الأمر بإيجاب القتال، لكن الحافظ السيوطي - رحمه الله - يقول: (وهذا في الحقيقة ليس نسخًا، بل من قسم المنسأ، كما قال تعالى: ﴿ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا ﴾ [البقرة: 106]، فالمنسأ - أي: المؤخر - هو الأمر بالقتال إلى أن يقوى المسلمون، وفي حال الضعف يكون الحكم وجوب الصبر على الأذى...)[24]، فتأمل.   وفي تفسير الآية الكريمة: ﴿ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ﴾ [البقرة: 106]، يقول القرطبي - رحمه الله -: (إن النسخ في كلام العرب على وجهين: أحدهما: النقل، كنقل كتاب من آخر. والثاني: الإبطال والإزالة، وهو المقصود هنا، وينقسم قسمين: الأول: إبطال الشيء وزواله، وإقامة آخر مقامه، وهو معنى قوله تعالى: ﴿ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا ﴾ [البقرة: 106]، وهو التحول من حال إلى حال.   والثاني: إزالة الشيء دون أن يقوم آخر مقامه، ومن هذا المعنى ﴿ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ﴾ [الحج: 52]؛ أي: يزيله فلا يتلى، ولا يثبت في المصحف بدله)[25].   ويبين - رحمه الله تعالى - الحكمة من النسخ، فيقول: (...
وليس هذا من باب البداء، بل هو من باب نقل العباد من عبادة إلى عبادة، ومن حكمٍ إلى حكمٍ لضربٍ من المصلحة، إظهارًا لحكمته، فالناسِخ على الحقيقة هو الله تعالى، ويسمى الخطاب الشرعي ناسخًا تجوُّزًا؛ إذ به يقع النسخ، فيقال: صوم رمضان ناسخ لصوم عاشوراء، ولا نسخ بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم واستقرار الشريعة، فأجمعت الأمة أنه لا نسخ؛ ولهذا كان الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به؛ إذ انعقاده بعد انقطاع الوحي، هذا والنسخ إنما هو مختص بالأمر والنهي، أما الخبر، فلا يدخله نسخ)[26].   والتدرج قد يكون من الأدنى للأعلى، أو من الأعلى للأدنى؛ مراعاة لحال المدعوين، أو لنوع التكليف، فقد يكون من الشاقِّ إلى الأيسر، أو من الأيسر إلى الشاق، كما قد يكون من الأثقل إلى الأخف، كنسخ الثبوت لعشرة بالثبوت لاثنين، في قوله تعالى: ﴿ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ * الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 65، 66].   ويجوز نسخ الأخف إلى الأثقل كنسخ يوم عاشوراء والأيام المعدودة بصوم رمضان كله[27]، وسأبينه بالتفصيل عند الحديث عن التدرج في التشريع.   ومن هنا، فإن وجود النسخ والنسيء في القرآن دليل على أن التدرج في الأحكام وفي التشريعات سنةٌ ربانية، وقاعدة قرآنية، يجب على الدعاة والمصلحين والمعالجين لأمراض النفوس والقلوب أن يراعوا قانون التدرج مع الناس على اختلاف مستوياتهم وأحوالهم؛ كي يكون العلاج ناجحًا، والدعوة مثمرة.   من كتاب: "خصيصة التدرج في الدعوة إلى الله (فقه التدرج )"


[1] انظر: الوحدة الموضوعية في القرآن الكريم ص 68. [2] مفاتيح الغيب جزء 1 ص 512. [3] مفاتيح الغيب جزء 3 ص 78. [4] المعجم الوجيز ص 494. [5] مفتاح دار السعادة؛ لابن القيم ص 43، مكتبة دار البيان، 1998م، جزء 1 ص61. [6] المرجع السابق ص 265. [7] مختار الصحاح ص 204. [8] مفاتيح الغيب جزء 15 ص 798. [9] كيف نتعامل مع القرآن؟ - دار الوفاء - المنصورة - طبعة خامسة - 1997، ص71. [10] ذكر الإمام الرازي ثلاثة أقوال في الفاتحة. [11] انظر: أسرار ترتيب القرآن؛ للإمام السيوطي، تحقيق عبدالقادر محمد عطا، ص 30، ص50. [12] معترك الأقران في إعجاز القرآن؛ للإمام السيوطي، مكتبة الدراسات القرآنية، القسم الأول، ص 68. [13] المرجع السابق ص 70. [14] مفاتيح الغيب جزء ص 219، 220. [15] المرجع السابق. [16] معترك الأقران في إعجاز القرآن ص 54، 57. [17] أسرار ترتيب القرآن، تحقيق الأستاذ عبدالقادر أحمد عطا، دار الاعتصام، طبعة 1978، ص 33، 34. [18] أسرار ترتيب القرآن، المرجع السابق ص 43. [19] أسرار ترتيب القرآن، تحقيق الأستاذ عبدالقادر أحمد عطا، دار الاعتصام طبعة 1978، ص 33، 34. [20] معترك الأقران في إعجاز القرآن، دار الفكر العربي، القسم الأول ص 28. [21] تفسير ابن كثير، جزء 1 ص 60 الحلبي. [22] المرجع السابق ص 60. [23] معترك الأقران في إعجاز القرآن ص 108. [24] المرجع السابق ص 111. [25] تفسير القرطبي جزء 1 ص 451، دار الشعب. [26] المرجع السابق ص 453 - 455. [27] المرجع السابق ص 454.



شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢