أرشيف المقالات

تفسير سورة الصف كاملة

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
سلسلة كيف نفهم القرآن؟[1]
تفسير سورة الصف كاملة

الآية 1:﴿ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾: أي نَزَّهَ اللهَ تعالى - عن كل ما لا يليق به - جميع الكائنات التي في السماوات والأرض (إذ ما مِن شيءٍ إلا يُسَبِّح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم)، ﴿ وَهُوَ ﴾ سبحانه ﴿ الْعَزِيزُ ﴾ في انتقامه من أعدائه, ﴿ الْحَكِيمُ ﴾ في تدبيره لأوليائه.
 
الآية 2، والآية 3:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾: يعني لماذا لا توفون بالعهود التي بينكم وبين الله تعالى، والوعود التي بينكم وبين الناس؟!، ولماذا تأمرون الناس بالخير وتنسون أنفسكم فلا تفعلوه؟! (وهذا إنكارٌ على كل مَن يُخالف فِعلُه قولَه)،فقد﴿ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾:أي عَظُم كُرهاً عند الله أن تقولوا بألسنتكم ما لا تفعلونه، (هذا، وواللهِ إني لَخائفٌ جداً من هذه الآية، فاللهم عفوك وغفرانك لي).
 
الآية 4:﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ ﴾ - أي لإعلاء كلمته وإظهار دينه - ﴿ صَفًّا ﴾ أي صفوفاً مُتراصّة (لا تخاف من الأعداء) ﴿ كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ﴾ أي كأنهم بُنيان مُحكَم لا يَنفذ منه العدو.
 
الآية 5:﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ ﴾ أي اذكر لقومك أيها الرسول حين قال موسى لقومه: ﴿ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي ﴾ بالأقوال السيئة ومُخالفة الأوامر, ﴿ وَقَدْ تَعْلَمُونَ ﴾ يعني: وأنتم تعلمون ﴿ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ﴾؟!، ﴿ فَلَمَّا زَاغُوا ﴾ يعني فلمّا انصرفوا عن الحق بعد أن علموه، وأصروا على العِصيان: ﴿ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾ أي صَرَفَ الله قلوبهم عن قَبول الهُدى والعمل به؛ عقوبةً لهم على ضلالهم الذي اختاروه لأنفسهم ﴿ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ أي لا يوفق الخارجين عن طاعته إلى ما فيه هدايتهم وسعادتهم (وذلك بعد أن توغلوا في الفجور والضلال واختاروه على الهدى).
 
♦ واعلم أن قوله تعالى: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)يَجعل المؤمن على خوفٍ وحذر مِن فِعل المعاصي، حتى لا يُعاقب اللهُ قلبه بالضلال والغفلة، كما قال تعالى: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا) (إذ أشغلناه بالدنيا وهمومها، حتى صارت هِمَّته دنيئة، وعزيمته ضعيفة، فلم يعد يشعر بحلاوةٍ في الطاعة، ولا يَتلذذ بالذِكر والعبادة)، ورَحِمَ الله مَن قال: (رأيتُ الذنوبَ تُمِيت القلوب، وقد يُورِث الذلَّ إدمانُها، وترْك الذنوبَ حياةُ القلوب، وخيرٌ لنفسك عِصيانها)، وقد قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (إن للحسنة نوراً في القلب، وضياءً في الوجه، وقوةً في البَدَن، وسعةً في الرزق، ومَحبةً في قلوب الخَلق، وإن للسيئة ظُلمةً في القلب، وسواداً في الوجه، وضعفاً في البَدَن، وضِيقاً في الرزق، وبُغضاً في قلوب الخَلق)، ورَحِمَ الله مَن قال: (أيا عبدُ كم يراك اللهُ عاصياً، حريصاً على الدنيا وللموت ناسياً، أنَسِيتَ لقاءَ الله واللحدَ والثَرى؟، ويوماً عبوساً تشيب فيه النواصيَ، لو أن المرءَ لم يلبس ثياباً من التُقَى، تجَرَّدَ عُرياناً ولو كانَ كاسياً، ولو أن الدنيا تدومُ لأهلها، لَكانَ رسولُ الله حَيّاً وباقياً).
 
الآية 6:﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ﴾ لقومه: ﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ﴾،وقد جئتكم ﴿ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ ﴾ أي لِما جاءَ قبلي ﴿ مِنَ التَّوْرَاةِ ﴾ المُنَزَّلة على أخي موسى، ﴿ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ﴾ يعني: وشاهدًا بصدق رسول يأتي من بعدي اسمه "أحمد" (وهو اسم من أسماء النبي محمد صلى الله عليه وسلم)، وداعيًا إلى التصديق به, ﴿ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ﴾ يعني: فلمّا جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم بالآيات الواضحات من عند الله تعالى, والتي تدل على صِدق رسالته ووجوب اتِّباعه في العقيدة والشريعة: ﴿ قَالُوا ﴾ أي قال الجاحدونَ بنُبُوّته: ﴿ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾ أي هـذا الذي جئتَنا به سِحرٌ ظاهر.
 
الآية 7:﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ ﴾ يعني: ومَن أشد ظلمًا ﴿ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ﴾ أي اختلق على الله الكذب, فجعل له شركاء في عبادته، وحَرَّم ما لم يُحَرِّمه اللهُ تعالى ﴿ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ ﴾ يعني: وقد فعل ذلك وهو يُدعَى إلى الدخول في الإسلام وإخلاص العبادة لله وحده، فهذا ظُلمه أعظم مِمّا لو كانَ أيام الجاهلية (حين لم يكن هناك رسولٌ ولا قرآن)، أمّا أن يَكذب على الله تعالى والنورُ غامر، والوحي يَنزل، والرسول يدعو ويُبَيِّن: فالأمر حينئذٍ أعظم وأشد ﴿ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ أي لا يوفِّق الذين ظلموا أنفسهم - بإصرارهم على الكفر والشرك - إلى طريق الحق والصواب.
 
الآية 8:﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ ﴾: أي يريد هؤلاء الظالمون أن يُبطلوا الحق الذي بُعِثَ به محمد صلى الله عليه وسلم - وهو القرآن - بأقوالهم الكاذبة, ﴿ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ ﴾ أي مُظهِر الحق - بإتمام دينه - ﴿ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾.

الآية 9:﴿ هُوَ ﴾ سبحانه ﴿ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ ﴾ محمدًا صلى الله عليه وسلم ﴿ بِالْهُدَى ﴾ وهو القرآن ﴿ وَدِينِ الْحَقِّ ﴾ وهو دين الإسلام ﴿ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ﴾ أي لِيُعلِيَهُ على كل الأديان الباطلة المُخالِفة للإسلام ﴿ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ ذلك، (وقد حَقَّقَ سبحانه وعده، فالإسلامُ ظاهرٌ في الأرض كلها، سَمِعَ به أهل الشرق والغرب، واعتنقه كثيرٌ منهم، وخَضَعَ له العالم أجْمَع على عهد الصحابة والتابعين، وسيأتي اليوم الذي يَسُودُ فيه الإسلامُ أهلَ الدنيا جميعاً).
 
من الآية 10 إلى الآية 13: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ ﴾ يعني هل أُرشِدكم إلى تجارةٍ عظيمةِ الشأن ﴿ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾؟ ﴿ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ أي تداومون على إيمانكم بالله ورسوله ﴿ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ﴾ لنُصرة دينه وإعلاء كلمته (حتى يُعبَد وحده ولا يُعبَد غيره)﴿ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ من تجارة الدنيا وشهواتها الرخيصة العاجلة ﴿ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾،فإن فعلتم ذلك أيها المؤمنون: ﴿ يَغْفِرْ ﴾ اللهُ ﴿ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ﴾ فلا يعاقبكم عليها ﴿ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ ﴾ أي حدائق جميلة المَنظر ﴿ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾ أي تجري الأنهار من تحت أشجارها المتدلية وقصورها العالية ﴿ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً ﴾ أي مساكنَ حَسَنَة البناء، طَيِّبة الرائحة (كالقصور المصنوعة من الذهب والفضة، والخِيام المصنوعة من اللؤلؤ)، ﴿ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ﴾ أي في جنات الخلود ﴿ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ الذي لا فوز مِثله،﴿ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا ﴾ يعني: ويُعطِكم سبحانه نعمةً أخرى تحبونها - أيها المؤمنون - وهي: ﴿ نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ ﴾ على عدوكم ﴿ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ﴾ يعني: وفتحٌ عاجل يتم على أيديكم (وهو فتح مكة وباقي المدن والقرى، وما يَتبع ذلك مِن عزةٍ وسعادةٍ وهناء)، ﴿ وَبَشِّرِ ﴾ - أيها النبي - ﴿ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ الطائعين، بالنصر في الدنيا, والجنة في الآخرة.
 
الآية 14: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ ﴾ أي كونوا أنصارًا لدين الله تعالى ورسوله والمؤمنين, وكونوا في استجابتكم لأمر ربكم ﴿ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ ﴾ وهُم أصفياء عيسى (الذين اختارهم لصُحبته): ﴿ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ﴾؟ يعني مَن يَنصرني ويُعينني في كل ما يُقرِّب إلى الله تعالى ويأمر به؟، فـ﴿ قَالَ ﴾ له ﴿ الْحَوَارِيُّونَ ﴾: ﴿ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ﴾ أي نحن أنصار دين اللهِ والداعونَ إليه.
 
♦ أما بقية بنى إسرائيل فقد افترقوا فرقتين، كما قال تعالى: ﴿ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ بعيسى عليه السلام وبما كان يدعوهم إليه من التوحيد، ﴿ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ ﴾ برسالته، فاقتتلت الطائفتان ﴿ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا ﴾ أي نَصرنا المؤمنينَ بوحدانية الله تعالى وبنُبُوّة عبده ورسوله عيسى، فنصرناهم ﴿ عَلَى عَدُوِّهِمْ ﴾ من الكَفَرة والمُشرِكين بالحُجّة والتمكين ﴿ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ﴾ يعني فأصبحوا ظاهرينَ عليهم؛ غالبينَ لهم.

[1] وهي سلسلة تفسير لآيات القرآن الكريم، وذلك بأسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرة من (كتاب: "التفسير المُيَسَّر" (بإشراف التركي)، وأيضًا من "تفسير السّعدي"، وكذلك من كتاب: " أيسر التفاسير" لأبي بكر الجزائري) (بتصرف)، عِلمًا بأنّ ما تحته خط هو نص الآية الكريمة، وأما الكلام الذي ليس تحته خط فهو التفسير.

- واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحدياً لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذا الأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمن أكثر مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم من سِيَاق الآية)، وإننا أحياناً نوضح بعض الكلمات التي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن.

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢