أرشيف المقالات

وقفة عند سورة العنكبوت

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
2الخطاب المكي من البعثة إلى الهجرة وقفة عند سورة العنكبوت (وهي السورة قبل الأخيرة حسب ترتيب نزول سور القرآن المكي)
لأهمية موقع هذه السورة الكريمة، فإننا في حاجة إلى تدبرها والوقوف عندها طويلاً، لكني سأختصر الكلام في نقاط: 1- جاء ذكر الجهاد في هذه السورة مرتين: في قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ [العنكبوت: 6]، وفي قوله تعالى في ختامها: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69]، والذي يعنينا هو أن الجهاد ليس كما يظن البعض أنه لم يُفْرَض إلا في المدينة، بل فُرِض في مكة قبل الهجرة، ولكنه جهاد الدعوة والتبليغ، وجهاد النفس على الصبر وضبط النفس، وتحمُّل الأذى، وترويض النفوس على الانقياد والخضوع لأوامر الله عز وجل؛ كي لا تتبدد طاقات المسلمين وتتفرع، أو تتوجه إلى أمور لا طائل من ورائها.   ♦ وفي سورة الفرقان - وهي مكية -: ﴿ فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ﴾ [الفرقان: 52]، ﴿ وَجَاهِدْهُم بِهِ ﴾؛ أي: بالقرآن، فكان جهاد الكلمة أو الدعوة، وبيان الأدلة والبراهين، وَرَد الشبهات، ودعوة المشركين إلى توحيد الله تعالى، وتصديق القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم، وفي ذات الوقت جهاد التربية لمن دخل في الإسلام؛ ولهذا قلت: إنه لا بد من دراسة القرآن المكي حسب ترتيب نزوله؛ لأنه منهج التربية على العقيدة والأخلاق، وتحقق الإيمان الكامل والصفات الواجبة لأهل النصر والتأييد والتمكين في الأرض؛ انظر كتاب أسباب النزول حسب ترتيب النزول للمؤلف.   ومن هنا يتبين أن الجهاد ليس جهاد السيف فقط، فالسيف هو الكلمة الأخيرة لمن صدَّ عن سبيل الدعوة، وأصرَّ على الوقوف في طريق تبليغها، وآثر العناد على الانقياد لأوامر الله عز وجل، فقتال السيف جزء من كُلٍّ، وفرع من أصل، وله ظروفه وشروطه ومبرراته وآدابه وأحكامه.   ولعل من المناسب الآن ذكر مراتب الجهاد كما ذكرها ابن القيم - رحمه الله تعالى - في زاد المعاد: "فصل: الجهاد أربع مراتب: جهاد النفس، وجهاد الشيطان، وجهاد الكفار، وجهاد المنافقين.   فجهاد النفس: أربع مراتب: 1- جهادها على تعلُّم الهدى ودين الحق. 2- أن يجاهدها على العمل به بعد علمه. 3- أن يجاهدها على الدعوة إليه وتعليمه من لا يعلمه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات. 4- أن يجاهدها على الصبر على مشاقِّ الدعوة إلى الله وأذى الخلق.   وأما جهاد الشيطان، فمرتبتان: إحداهما: جهاده على دفع ما يُلقَى إلى العبد من الشبهات والشكوك. الثانية: جهاده على دفع ما يُلقَى إليه من الإرادات والشهوات.   فالجهاد الأول يكون بعده اليقين، والثاني بعده الصبر، قال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ [السجدة: 24]، فأخبر أن إمامة الدين إنما تُنَال بالصبر واليقين؛ فالصبر يدفع الشهوات، واليقين يدفع الشبهات والشكوك!   أما جهاد الكفار والمنافقين، فأربع مراتب: بالقلب واللسان، والمال والنفس، وجهاد الكفار أخصُّ باليد، وجهاد المنافقين أخصُّ باللسان، وأما جهاد أرباب الظلم والبدع والمنكرات، فثلاث مراتب: الأولى باليد إذا قدر، فإن عجز انتقل إلى اللسان، فإن عجز جاهد بقلبه؛ فهذه ثلاث عشرة مرتبة من الجهاد، ومن مات ولم يغزُ ولم يُحَدِّث نفسه بالغزو مات على شُعبَةٍ من النفاق...
ثم يقول - رحمه الله -: وأكمل الخلق عند الله من كمَّل مراتب الجهاد كلها، والخلق متفاوتون في منازلهم عند الله تفاوتَهُم في مراتب الجهاد؛ ولهذا كان أكمل الخلق وأكرمهم على الله خاتم أنبيائه ورسله، فإنه كمَّل مراتب الجهاد، وشرع في الجهاد مِن حين بعثه الله إلى أن توفاه الله عز وجل.."[1].   2- سُنَّة الابتلاء: كما جاء في مطلعها: ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت: 2، 3]، يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "فليتأَمَّل العبد سياق الآيات في هذه السورة، وما تتضمنه من العِبَر والكنوز، فإن الناس إذا أُرْسِل إليهم الرسل بين أمرين: إما أن يقول أحدهم: آمَنَّا، وإما ألا يقول ذلك، بل يستمر على السيئات والكفر، فمن قال: آمنَّا، امتحنه ربه وابتلاه وفتنه، والابتلاء والاختبار ليتبين الصادق من الكاذب، فمن آمن بالرسل وأطاعهم، عاداه أعداؤه وآذوه، فابتُلِي بما يؤلمه، وإن لم يؤمن بهم ولم يُطِعْهم، عُوقِبَ في الدنيا والآخرة، فحصل له ما يؤلمه، وكان هذا الألم أعظم وأدوم من ألم أتباعهم، فلا بد من حصول الألم لكل نفس آمنتْ أو رغِبتْ عن الإيمان، لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداءً، ثم يكون له العاقبة في الدنيا والآخرة، والمُعْرِض عن الإيمان تحصل له اللذة ابتداءً، ثم يصير في الألم الدائم، وسُئِل الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى -: أيُّهما أفضل للرجل: أن يُمَكَّنَ أو يُبتلَى؟ فقال: لا يمكَّنُ حتى يُبتلَى[2].   فتبين من هذا أن الابتلاء ملازم للمؤمنين في حال الشدة، وفي حال الرخاء، كما قال تعالى: ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ [الأنبياء: 35]، وكان الابتلاء للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه خطوة على طريق التمكين؛ فبعد ثلاثة عشر عامًا من الفتنة والابتلاء والتمحيص والطرد، وكان الصبر على الإيمان، كان التمكين في أرض يثرب، وكان النصر على من فتنوهم وطردوهم.   3- حال الأنبياء وانتقام الله تعالى من أعدائهم: فكأن الخطاب: وأنت آخر الأنبياء يا محمد، وسينصرك الله وينتقم من أعدائك، وهنا نكتة عجيبة: لقد جاء في السورة ذِكْرُ إبراهيم عليه السلام، وكيف أن قومه أرادوا قتله فنجَّاه الله تعالى من محاولة القتل، ثم بعد نجاته هاجر ﴿ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [العنكبوت: 26]، والنبي صلى الله عليه وسلم أرادوا قتله، فنجاه الله تعالى وهاجر، وقد جاء ذكر الهجرة - أيضًا - في السورة الكريمة في قوله تعالى: ﴿ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ﴾ [العنكبوت: 56].   يقول ابن كثير: "ولهذا لما ضاق على المستضعفين بمكة مُقامُهم بها، خرجوا مهاجرين إلى أرض الحبشة ليأمنوا على دينهم، ثم بعد ذلك هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة الباقون إلى المدينة"[3].


[1] زاد المعاد جزء2، ص 39. [2] المرجع السابق. [3] تفسير ابن كثير، جزء 3، ص 419.



شارك الخبر

المرئيات-١