أرشيف المقالات

أثر التدرج في التشريع

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
2أثر التدرج في التشريع أثر التدرج في انتشار الإسلام وترسيخ القيم الإسلامية   ..
وهذا هو القطف، وتلكم هي الثمرة.   لقد نزلت التشريعاتُ والأرض خصبة، والقلوب متفتِّحة، والرغبة أكيدة في الاستجابة لأوامر الله عز وجل، حيث تم الغرس، وأُسِّست القواعد للبنيان، فلم ينتظر المؤمنون حتى تنزل الأوامر والأحكام، فكانوا يُسارِعون ويسألون: ما الحكم في كذا؟ وماذا نفعل في كذا؟ وبِمَ يأمر ربنا عز وجل؟   كما في قوله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ﴾ [البقرة: 189]، وقوله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ﴾ [البقرة: 219]، وغيرهما، وهي ظاهرة: "يسألونك".   لَمَّا نزلت التشريعات والأوامر الثقيلة، لم يقولوا: سمعنا وعصَيْنا، بل قالوا: سمعنا وأطعنا، كما جاء في قوله تعالى: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾ [البقرة: 285].   ذكر القرطبي - رحمه الله تعالى -: أن "سبب نزول الآيةِ الآيةُ التي قبلها، وهي: ﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾ [البقرة: 284]، فإنه لَمَّا أُنزِل هذا على النبي صلى الله عليه وسلم اشتدَّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتَوْه ثم برَكوا على الرُّكَب، فقالوا: أيْ رسول الله، كُلِّفنا من الأعمال ما نُطِيقه: الصلاة، والصيام، والجهاد، والصدقة، وقد أنزَل الله عليك هذه الآية ولا نُطِيقها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابينِ من قبلِكم: سمِعْنا وعصَيْنا؟! بل قولوا: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير))، فقالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، فلما اقترأها القوم ذلَّت بها ألسنتهم، وأنزل في أثرها: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾ [البقرة: 285]"[1].   يقول القرطبي - رحمه الله -: "ولَمَّا تقرَّر الأمر على أن قالوا: سمعنا وأطعنا، مدحهم الله وأثنَى عليهم في هذه الآية، ورفع المشقة في أمر الخواطر عنهم، وهذه ثمرة الطاعة والانقطاع إلى الله تعالى"[2].   أثر التدرج في فرض العبادات: 1: الصلاة: وهي أول ما فُرِض من عبادات؛ لِمَا لها من أهميةٍ في ضبط إيقاع الحياة، وغرس روح الجماعة والاتحاد والألفة بين المسلمين، وهي العبادة البدنية التي لا تُكلِّف المسلم جهدًا ولا مالاً، وهي كذلك من شعائر الإسلام الظاهرة، وحينما فُرِضت صلَّى المسلمون جميعًا، ولم يناقشوا ولم يعترِضوا، بل استجابوا وكانوا يُؤدُّونها بحرص شديد وحب جمٍّ، فكانت قرَّةَ عينٍ لكلِّ مسلم، وراحةً للبال والنفس، كما أنها مغفرةٌ للذنوب، وتجديد للإيمان، وكان لفرضها بتدرُّجٍ أثرٌ عظيم في حصول تلك الثمرات، فلم يُؤخِّرها إلا منافق.   2: الزكاة والحج: إن الذي آمن بالله تعالى، وامتلأ قلبُه بحب الله، صار حب الله ورسوله أشدَّ من حبه لماله وولده، وكان دليلُ هذا الحب هو البذلَ والعطاء، فالمال مال الله، والعباد مستخلَفون على هذا المال، وحق هذا المال أن يُنفَق في مرضاة الله عز وجل، وأن يُسخَّر لخدمة الإسلام والمسلمين، فكانت الزكاة عبادة مالية، والحج عبادة مالية وبدنية، وقد فرض الحج على مرحلتين: الأولى: الإتمام عند الشروع فيه، كما قال تعالى: ﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ ﴾ [البقرة: 196].   الثانية: فرضه على الإلزام، كما في قوله تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ﴾ [آل عمران: 97]، فكان للتدرج عظيم الأثر في الاستجابة والتطبيق.   3: فرض الجهاد: لقد كان بين العرب حروب وقتال ليس من أجل الدين، ولكنه كان من أجل العصبية والحمية، فجاء الإسلام ليُخلِّص النفس من العصبية الجاهلية، ثم يُروِّضها ويضبط توجهاتها حسب منهج الله تعالى؛ ولهذا لَمَّا أُوذي المسلمون في دينهم، وكان أحدهم يريد أن يرد العدوان أو يدافع عن نفسه، فكانوا يُؤمَرون بالعفو والصفح والتحمُّل والصبر، وكان هذا الأمر في مكة حيث الاستضعاف، ثم نزل القرآن بعد ذلك ليعد النفوس للمرحلة القادمة، كما في قوله تعالى: ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج: 39، 40]، فكانت هذه المرحلة إعدادًا نفسيًّا لقَبول أمر القتال.   ثم كانت المرحلة التالية، وهي رد العدوان وعدم البَدْء به، كما في قوله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 190].   ثم كانت المرحلة الأخيرة من فرض القتال، وبداية مرحلة الغزوات والفتوحات والانتشار في أرجاء الجزيرة العربية وخارجها، فكان المسلمون يحملون الإسلام (قضيتهم الأولى والأهم في حياتهم)، فليس الأمر مجرد استجابة للأوامر والتكاليف؛ إنما حب الله ورسوله كان أقوى في قلوبهم وأعظم في نفوسهم، فحملوا الدين قضية حياة، يعيشون لها وفي سبيلِها لإعلاء كلمة الله تعالى في الأرض.   أما عن أثر التدرج في تحريم المحرمات: فقد ذكرتُ في تحريم الخمر أن التحريم مرَّ بمراحل متعدِّدة؛ مراعاة لأحوال الناس، فقد جاء الإسلام والناس يشرَبون الخمر، والقرآن ينزل أعوامًا متتالية ولم يأمر بالتحريم؛ إذ لا بد من إعداد النفوس؛ لأن للخمر سلطانًا على العقول، فلا بد أن يكون سلطان الدين أقوى من سلطان الخمر، ثم كانت مرحلة الإعداد النفسي ومرحلة التضييق على المسلمين في أمر الخمر، حتى كان الإلزام والتحريم النهائي، فلما قال الله تعالى لهم: ﴿ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ﴾ [المائدة: 91]، قال المسلمون: انتهَيْنا يا رب[3].   وعن أثر التدرج في قبول التشريعات تُحدِّثنا السيدة عائشة رضي الله عنها، فتقول: "إنما نزل أول ما نزل منه - أي: من القرآن الكريم - سورة من المفصَّل فيها ذِكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام، نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندَع الزنا أبدًا"[4].   يقول الأستاذ الدكتور/ محمد أبو الفتح البيانوني: "فقد كان منهج القرآن البَدْء بتفصيل أمور العقيدة وتثبيتها، ثم ببيان الأحكام الشرعية شيئًا بعد شيء، حتى نزل قوله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]، فقد كمل الدين وتمت النعمة، بما نزل من أحكام في القرآن، وبمنهج التدرج الذي نزل به، ولو نزل دفعةً واحدة، لشق الأمر على الناس، وصعب عليهم امتثال أحكامه، وفى هذا درسٌ بليغ للدعاة؛ ليتدرَّجوا في مناهجهم، ويكونوا عونًا للناس على تطبيقها وامتثالها)[5].   وأختم بالحديث عن حكمة التدرج: إن بناء صرحٍ شامخ من الطوب أو الحجر قد يستغرق عامًا أو بعض عام، ولكن بناء الرجال القادرين على تحمل أمانة الدين، وتحويل الأفكار، وتصحيح المعتقدات - يحتاج إلى سنين طويلة، وعمل دؤوب، وجهد مخلص لله رب العالمين؛ ولهذا كانت الحاجة إلى التدرج، فهو قانون الفطرة الذي يرفض الطفرة.   إن هذا الكون المحكَم من فوقنا ومن حولنا، لم يوجد هكذا دفعة واحدة، وهذا الإنسان اليافع المفكِّر لم يصل إلى ما وصل إليه من قوة وإرادة في أيام أو لحظات، ولكن الأمر كان حسب سنة التدرج.   ومن حكم التدرج في مجال الدعوة ما يلي: 1- التدرج يُسهِّل قَبول الدعوة: روى البخاري - رحمه الله تعالى -: عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخوَّلنا بالموعظة في الأيام؛ كراهة السآمة علينا".   يقول ابن حجر - رحمه الله تعالى -: "وفيه: رفق النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه، وحسنُ التوصُّل إلى تعليمهم وتفهيمِهم؛ ليأخذوا عنه بنشاط لا عن ضجر ولا ملل، ويُقتَدَى به في ذلك؛ فإن التعليم بالتدريج أخف مُؤْنَة، وأدعى إلى الثبات"[6].   فما أجمل هذا الكلام! فالتدرج تيسير من الله تعالى على عباده؛ لأنه يعلم طبائعهم وضعفهم، قال تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 28]، وقال: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: 185].   والشريعة الإسلامية تقومُ على التيسير ورفع المشقة والحرج، فهي رحمةٌ للبشر، قال تعالى: ﴿ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [الحج: 78].   2- التدرج يُعِين على الإعداد والإحكام: فما من دعوة أو جماعة في الأرض تقوم بنشر فكرة أو مذهب أو عقيدة بين الناس، أو تريد إقامة نظام سياسي أو اجتماعي، إلا وهي تحتاج إلى إعدادٍ كبير، وتهيئة للبيئة التي تريد أن تغرس فيها بذور دعوتِها؛ لتنبت منها خيرًا وتوفيقًا، كما أنه لا بد من إعداد الرجال القادرين على حمل هذه الدعوة؛ حتى تنموَ وتسموَ وترسخَ، اعتقادًا وممارسة.   ذلك كله لا يتم إلا على تدريج يمتد بضع سنين، ذلك كان شأن الدولة التي أقامها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان شأن الدعوة التي أحكم غرسها فبقيت، وسرى نفعُها في العالَمين، وكان شأن الرجال الذين أعدَّهم لصحبته، فالتدرج وسيلة الإحكام والإجادة، ولولاه ما أُعد الرجال، ولا هُيِّئت الأجواء، ولا بقيت الدعوة.   3- التدرج علاج النفور: لا يغيب عن بال قليلِ الخبرة بالناس والحياة أن التكليف بالكثرة مما لا يُطِيقه الناس، ولا يتحمَّلونه، فيدعو ذلك للنفور والإدبار، ولا يجد صاحبُ الدعوة الذي يريد أن يُلقي بكل التكاليف والتشريعات جملةً واحدة للناس إلا القليل النادر ممن يستجيب له؛ لأن طبيعة المكلَّفين لا تقبل الأخذ بجميع الفرائض والتكاليف، فيدعوهم ذلك إلى التولي وعدم الإقبال والامتثال[7].   فالتدرج هو العلاج لإصلاح النفوس الجامحة، وهو الوسيلة لقَبول الدعوة، وتحمل التكاليف وامتثالها من غير ضجرٍ ولا عَنَتٍ، فكانت الحكمة قاضية بالتدرج.

[1] تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن، جزء 2 ص 1235. [2] المرجع السابق. [3] مفاتيح الغيب جزء 6 ص 130. [4] فتح الباري، كتاب فضائل القرآن، باب تأليف القرآن، جزء 9 ص 31. [5] المدخل إلى علم الدعوة ص 237. [6] فتح الباري، كتاب العلم، جزء 1 ص 132. [7] من كتاب الأمة: من مرتكزات الخطاب الدعوي في التبليغ والتطبيق؛ للأستاذ عبدالله الزبير عبدالرحمن، العدد 56، 1417 هـ، ص 120.



شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣