أرشيف المقالات

نسخ القرآن بالقرآن

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
2نسخ القرآن بالقرآن
مما لا ريب فيه أن النَّسخ وقع في شريعة الإسلام التي هي آخر الشرائع؛ وذلك لحكم جليلة، وفوائده عظيمة - كما سنرى لاحقًا، وهذا النَّسخ كما وقع في القرآن وقع في السنة، وكما نُسخ القرآن بالقرآن فقد نسخ بالسنة، وكذا كما نسخت السنة بالسنة فقد نُسخت بالقرآن، وقبل أن أفصل القول في ذلك، أشير إلى أقسام النَّسخ في القرآن: أجمع القائلون بالنَّسخ من المسلمين على جوازه ووقوعه، أما جوازه فلأن آيات القرآن متساوية في العلم بها، وفي وجوب العمل بمقتضاها، وأما الوقوع فللأدلة الكثيرة التي سنذكر بعضها بإذن الله، وقد قسم العلماء هذا النوع من النَّسخ إلى ثلاثة أقسام: نسخ التلاوة والحكم معًا، نسخ التلاوة دون الحكم، ونسخ الحكم دون التلاوة.   1 - نسخ التلاوة والحكم معًا: وما كان كذلك فلا يجوز تلاوته تعبدًا، ولا العمل بما تضمنه من حكم.   مثاله: ما رواه الإمام مسلم وغيره من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يُقرأ من القرآن".   وهذا النوع من النَّسخ أجمع عليه القائلون بالنَّسخ من المسلمين؛ "فعشر رضعات معلومات يحرمن" ليس لها ورود في القرآن الكريم، كما أنه لا يعمل بحكمها، ولا شك أن حديث عائشة رضي الله عنها له حكم الرفع؛ لأن مثل هذا الأمر لا يقال من باب الرأي.   2 - نسخ التلاوة دون الحكم: ولنضرب مثالين على هذا النوع من النَّسخ الحاصل في القرآن: المثال الأول: وهو حديث عائشة رضي الله عنها الذي سبق ذكره، فقولها: "ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن"، هذه الخمس مما نسخت تلاوته مع بقاء حكمه؛ إذ لا وجود لها في القرآن ألبتة، لكن العمل بها قائم لم يرفع، وأما قول عائشة رضي الله عنها: "فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن"، فالمراد مَن لم يبلغه النَّسخ؛ إذ كان يعتقد بقاءها، فكان يقرؤها حتى بلغه النَّسخ، أو أن المقصود قرب الوفاة، والأظهر الأول؛ يقول الإمام الزركشي في البرهان: "وقد تكلموا في قولها: (وهي مما يقرأ)، فإن ظاهره بقاء التلاوة، وليس كذلك، فمنهم من أجاب بأن المراد قارب الوفاة، والأظهر أن التلاوة نسخت أيضًا، ولم يبلغ ذلك كل الناس إلا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتوفي وبعض الناس يقرؤها"[1].   وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى في شرحه على مسلم: "ومعناه أن النَّسخ بخمس رضعات تأخر إنزاله جدًّا، حتى إنه صلى الله عليه وسلم توفي وبعض الناس يقرأ خمس رضعات، ويجعلها قرآنًا متلوًّا؛ لكونه لم يبلغه النَّسخ؛ لقرب عهده، فلما بلغهم النَّسخ بعد ذلك رجعوا عن ذلك، وأجمعوا على أن هذا لا يتلى"[2].   وقد أبعد النجعة من استدل بقولها رضي الله عنها: "وهن فيما يقرأ من القرآن" على بقاء التلاوة، ويكفي في رده ما أجمع عليه الصحابة رضي الله عنهم عند كتابة المصحف؛ إذ لا أثر لها في أي مصحفٍ من المصاحف العثمانية.   المثال الثاني: حديث عمر رضي الله عنه: "إن الله بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فقرأتها وعقَلتها ووعيتها، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى؛ فالرجم على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت به البينة، أو كان الحبل، أو الاعتراف، وقد قرأتها: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله، والله عزيز حكيم"؛ متفق عليه.   والأمثلة على هذا النوع من النَّسخ كثيرة؛ يقول الإمام الألباني - رحمه الله تعالى -: "ويؤيد ذلك ما ثبت عن جماعة من الصحابة من ذكر أشياء نزلت من القرآن فنُسخت تلاوتها، وبقي أمر حكمها، أو لم يبقَ، مثل حديث عمر: (الشيخ والشيخة إذا زنيا، فارجموهما ألبتة)، وحديث أنس في قصة القراء الذين قتلوا في بئر معونة، قال: فأنزل الله فيهم قرآنًا: (بلغوا عنا قومنا أنَّا قد لقينا ربنا)، وحديث أبي بن كعب: (كانت الأحزاب قدر البقرة)، وحديث حذيفة: (ما يقرؤون ربعها)، يعني براءة، وكلها أحاديث صحيحة"[3].   3 - نسخ الحكم دون التلاوة: وهذا القسم اختلف فيه بين المجيزين له؛ فمنهم من توسع فأدخل فيه كثيرًا من الآيات، ومنهم من ضيق مجاله؛ ففي الوقت الذي نجد فيه الإمام الزركشي يقول عن هذا النوع: "وهو في ثلاث وستين سورة"[4]، نجد الإمام السيوطي يقول: "وهذا الضرب هو الذي فيه الكتب المؤلفة، وهو على الحقيقة قليل جدًّا، وإنْ أكثَرَ الناس من تعداد الآيات فيه، فإن المحققين كالقاضي أبي بكر بن العربي بيَّن ذلك وأتقَنه"[5].   ومن أمثلة هذا النوع قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 240].   فالحكم الذي تضمنته هذه الآية منسوخ، كما سبق بيانه، وهي فيما يتلى من القرآن؛ فهي مما نسخ حكمه وبقيَت تلاوته.   كذلك من الأمثلة قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ ﴾ [المجادلة: 12]، وهذا الحكم منسوخ كما سلف، فهذه الآية وإن نسخ حكمها فقد بقيت تلاوتها.   يقول الإمام الشوكاني في الإرشاد: "ما نُسخ حكمه وبقي رسمه؛ كنسخ آية الوصية للوالدين والأقربين بآية المواريث، ونسخ العدة حولاً بالعدة أربعة أشهر وعشرًا؛ فالمنسوخ ثابت التلاوة مرفوع الحكم، والناسخ ثابت التلاوة والحكم، وإلى جواز ذلك ذهب الجمهور، بل ادعى بعضُهم الإجماع عليه.   وقد حكى جماعة من الحنفية والحنابلة عدم الجواز عن بعض أهل الأصول، قالوا: لأنه إذا انتفى الحكم فلا فائدة في التلاوة، وهذا قصور عن معرفة الشريعة، وجهل كبير بالكتاب العزيز؛ فإن المنسوخَ حكمُه، الباقيةَ تلاوتُه في الكتاب العزيز مما لا ينكره مَن له أدنى قدم في العلم"[6].   تنبيه: أشار الإمام محمد بن علي الشوكاني - رحمه الله تعالى - إلى أن من أهل العلم - كأبي إسحاق المروزي وابن السمعاني وغيرهما - مَن قسم "نسخ التلاوة دون الحكم والعكس ونسخهما معًا" إلى ستة أقسام، والذي عليه الجمهور تقسيم ذلك إلى ثلاثة أقسام فقط.


[1] البرهان في علوم القرآن: 2 /39. [2] شرح مسلم للإمام النووي: 10 /29. [3] السلسلة الصحيحة: 6 /412. [4] البرهان في علوم القرآن. [5] الإتقان في علوم القرآن. [6] إرشاد الفحول: 2 /64.



شارك الخبر

المرئيات-١