أرشيف المقالات

فقه آية.. بالمحن تأتي المنن

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
2فقه آية بالمحن تأتي المنن
إن الحمدَ لله تعالى نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهدِه الله فلا مضلَّ له، ومن يُضلِلْ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبِعه بإحسان إلى يوم الدين.   قال الله تعالى: ﴿ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ﴾ [الأنبياء: 68]. 1- تلقي المحن والشدائد في الطريق إلى الله هو سنة من سنن الله في خلقه، وكل دعوة مفروشة بالورود ليس فيها كَلٌّ ولا تعب ولا شدة، فلا تلبث أن تضمحل، ونهايتها حتمًا إلى الفشل الذريع.   2- والأنبياء والرسل - وهم الخيرة والمصطفَوْن - لاقوا من أقوامهم أليم العذاب والإهانة والسخرية، فمنهم من قُتل، ومنهم من طُرد، ومنهم من سُلبت منه ممتلكاته، ومنهم من سجن، لكن فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعُفوا وما استكانوا.   3- ومن بينهم خليل الرحمن وأبو التوحيد إبراهيم عليه السلام، الذي بدأ الدعوة إلى الله في سن مبكرة، وكان قومه ممن يعبدون الأصنام، فكان ينكر عليهم هذه العبادة التي لا تنفع ولا تضر، ويحاول دومًا أن يأتي بالحُجة والبرهان؛ حتى يرد عقول هؤلاء المنحرفين لأماكنها.   وقد سلَّحه الله تعالى بسلاح العلم والبرهان وهو لا يزال فتى صغيرًا، قال الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 51]، رشده من قبل: أي: هداه قبل بلوغه، والرشد: الهدى والرأي الحق، وكنا به عالمين: أي: آتيناه رشدًا عظيمًا على علمٍ منا بإبراهيم؛ أي: بكونه أهلاً لذلك الرشد.   4- لما غلب إبراهيم قومه بالحجة، وجاءهم بالبينة والبرهان الساطع على بطلان عبادة الأصنام والأوثان، لم يجد الجبابرة والفراعنة سوى اللجوء لقوة الحديد والنار.   5- هنا نقف وقفة: قيل: إن إبراهيم عليه السلام كان عمره آنذاك ستًّا وعشرين سنة، وكان وحيدًا ضعيفًا بين هؤلاء القوم، ولا يملك بين يديه قوة ولا وسيلة تُخِيفهم، فلماذا هذه النار العظيمة؟!   • إنه الحقد والبغض والكفر حين يتمكن من النفوس المريضة بداءِ الكبرياء، تصبح هينة ضعيفة لا تعرف سوى لغة الحديد والنار، محاولة منها لتعويض عجزها وضعفها أمام الحجة والبرهان.   • وهذه اللغة تبقى ما بقيت هذه النفوس الخبيثة والمريضة بداء العظمة والكبرياء على مر الأزمنة والعصور.   6- لكن دومًا تكون الغلبة ويكون النصر حليف النفوس القوية والسليمة التي ارتوت باليقين حتى الثمالة، فلا تخيفها قوة حديد ولا نار، بل يزيدها ذلك ثباتًا ويقينًا.   قال الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ [آل عمران: 173].   7- روى الطبري فيما ذكر عن السدي قال: فلما رجعوا جمعوا لإبراهيم الحطب، حتى إن المرأة لتمرض فتقول: لئن عافاني الله لأجمعن لإبراهيم، فأخَّروه حتى جمعوا له حطبًا كثيرًا؛ لكي يحرقوه حريقًا مضنيًا.   فأخروا إبراهيم وأوقدوا له نارًا عظيمة يستحيل القرب منها، فصنعوا منجنيقًا ووضعوه فيها، وألقوه في النار.   المَنْجَنِيقُ: آلةٌ قديمةٌ من آلات الحصار، كانت تُرْمى بها حجارةٌ ثقيلة على الأسوار فتهدمها.   وبقيت أعناق مخلوقات الله مشرئبة لهذه الحادثة، كلها تدعو لنجاة هذا الفتى المؤمن.   8- وهنا تدخلت العناية الربانية، وبهرت كل العقول، وحطمت كل الاعتقادات، ودمرت كيد الكافرين، وأعلت كلمة الحق والدين، وألهَمَ الله جل وعلا نبيه وخليله إبراهيم عليه السلام كلمة ناجية، فجعل يسبح بها، ويدعو الله بها، روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم عليه السلام حين أُلقي في النار"، وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان آخر قول إبراهيم حين ألقي في النار: حسبنا الله ونعم الوكيل".   وكلمة حسبي: أي: كافيني؛ أي: الله يكفيني، والله تعالى وحده الذي يرد بأس الذين كفروا في كل الأزمنة والأمكنة، ولا طاقة للناس برد كيد الفراعنة والجبابرة؛ لأنهم يعتمدون على القوة المادية، ويهيئون وسائل البطش الشنيعة حتى يلجموا أفواه المستضعفين والمخالفين؛ حرصًا منهم على ما جمعوا من متاع الدنيا، وخوفًا من زواله وذَهابه، أو تحوله لأيدي غيرهم.   وبالتالي فما على الضعفاء من سبيل سوى الركون إلى الله، والالتجاء إليه، والاحتماء به، واليقين بنصره، فالعزة لله جميعًا، والنصر بيدي الله، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده.   9- واللجوء إلى الله في أوقات الشدة والمحنة من وسائل الثبات ومواصلة الدرب والوصول للهدف، كما فعل خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام حين أتى الله بقلب سليم، وفوَّض أمره كله لله، دون الاعتماد أو طلب الغوث والعون من أحد، وقد اهتدى حبيب الله محمد صلى الله عليه وسلم بهدي أبيه إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، وكان يحتمي بحمى الله، مقتفيًا أثر أسلافه من الأنبياء والرسل، قال ابن عباس رضي الله عنهما فيما رواه البخاري: "وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ [آل عمران: 173]".   10- هذه الكلمة العظيمة التي أمر بها الباري سبحانه وتعالى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين، قال تعالى: ﴿ فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ [التوبة: 129] - ينبغي أن تكون ديدن المصابين بكل هم وغم وضيق وشدة، يقولها المبتلى بقلب سليم، مقبلاً على الله، موقنًا بالله، محسنًا الظنَّ بخالقه.   11- وقفة أخرى: ليس عدم رؤية النصير والمعين معناه عدم وجوده، ففي حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه ابن ماجه عن عائشة مرفوعًا: ((لم تبقَ يومئذٍ دابة إلا أطفأت عنه النار، إلا دابة واحدة، وهي الوزغ، فإنها كانت تنفخ عليه))؛ لذلك كان يقتلها النبي صلى الله عليه وسلم ويسميها الفويسقة ويأمر بقتلها، يقول ابن عباس: "إلا الوزع، كانت تنفخ عليه؛ فلذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلها".   ربما لم تجد في قومك من يؤازرك، ويؤانس كربتك، وينصرك على من ظلمك، لكن في الحقيقة أن الله يسخر لك في غيابك جنودًا تحرسك وتؤازرك، قال جل وعلا: ﴿ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا ﴾ [التوبة: 26]، فلا تهن ولا تحزن ولا تضعف، ويجب أن تكون على يقين بنصر الله لكل ضعيف مستضعف في كل زمان ومكان، وهو وعد الله، والله لا يخلف الميعاد، قال الله تعالى: ﴿ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ﴾ [القصص: 5].   فاللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.   وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين



شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير