أرشيف المقالات

الله لا يحب الفرحين

مدة قراءة المادة : 14 دقائق .
2الله لا يحب الفرحين
قال تعالى: ﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ﴾ [القصص: 76]، قال ابن سيده في المحكم والمحيط الأعظم: (الفرح نقيض الحزن، وقال ثعلب: هو أنْ يجد في قلبه خفَّة،...
وقوله تعالى: ﴿ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ﴾ قال الزجاج: معناه - والله أعلم - لا تفرح بكثرة المال في الدنيا؛ لأنَّ الذي يفرَحُ بالمال يصرفه في غير أمر الآخرة"[1].   والمثال البشري الذي ضربه القرآن الكريم للفرح السلبي المذموم الذي لا يحبُّ الله أهله هو فرح قارون الذي كان رجلاً من قوم موسى عليه السلام، ولعله كان عم موسى عليه السلام أو ابن عمه[2]، وفرح قارون يأتي من ما آتاه الله - جل جلاله - من المال العظيم، وكمية هذا المال تتبين في قوله تعالى: ﴿ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ﴾؛ فقد وصف القرآن الكريم أنَّ مفاتح خزائن قارون تثقل بمجموعة من الرجال الأقوياء، قال ابن كثير - رحمه الله - في تفسيره: "قال الأعمش، عن خَيْثَمَةَ: كانت مفاتيح كنوز قارون من جلود، كل مفتاح مثل الإصبع، كل مفتاح على خزانة على حدته، فإذا ركب حُملت على ستين بغلاً أغرَّ محجلاً، وقيل: غير ذلك، والله أعلم"[3].   وقد جاء ذكر نوعين من الفرح في آيات القرآن الكريم؛ هما: النوع الأول: الفرح الإيجابي المحمود، وهو على قسمَين: القسم الأول: فرحٌ في الدنيا، ومنه: أ- فرح المؤمنين بنصر الله - جل جلاله - لعباده المؤمنين الموحِّدين على المشركين أو الكافرين؛ قال تعالى: ﴿ الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾ [الروم: 1 - 5]، وهو فرح محمود لأنه فرح يعبِّر عن الولاء لله - جل جلاله - ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولأهل الإيمان من عباد الله.   وهنا نُكتة مهمَّة لا بد من الإشارة إليها وهي أنَّ الفرح معبِّرٌ عن الولاء، والولاء بحسب الأولويات؛ لأنَّ فرحَ أصحاب النبي رضي الله عنهم الذي أشارت له الآية ليس فرحًا يتعلق بنصرهم هم، أو نصر المسلمين على الكافرين وقيام دولتهم، وإنما متعلِّق بنصر الروم على الفرس؛ ذلك أنَّ مشركي قريش يعتبرون الفرس مثلهم مشركين، فيما أنَّ المسلمين يَفرحون إذا أصاب النصارى خيرٌ لكونهم أصحاب كتاب جميعًا، جاء في الدر المنثور: "عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان فارس ظاهرينَ على الرُّوم، وكان المشركون يُحبُّون أنْ تظهرَ فارس على الروم، وكان المسلمون يُحبُّون أنْ تظهرَ الرومُ على فارس لأنهم أهل كتاب وهم أقرب إلى دينهم"[4].   ب- ويفرح المؤمنون بفضل الله - جل جلاله - وبرحمته؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [يونس: 58]، قال ابن جرير الطبري في جامع البيان: "يقول تعالى ذِكرُه لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ قُلْ ﴾ يا محمد لهؤلاء المكذِّبين بك وبما أنزل إليك من عند ربك، ﴿ بِفَضْلِ اللَّهِ ﴾، أيها الناس، الذي تفضل به عليكم، وهو الإسلام، فبيَّنه لكم، ودعاكم إليه، ﴿ وَبِرَحْمَتِهِ ﴾، التي رحمكم بها، فأنزلها إليكم، فعلَّمكم ما لم تكونوا تعلمون من كتابه، وبصَّركم بها معالم دينكم، وذلك القرآن، ﴿ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾، يقول: فإن الإسلام الذي دعاهم إليه، والقرآن الذي أنزله عليهم، خيرٌ مما يجمعون من حُطَام الدنيا وأموالها وكنوزها"[5]، فالمؤمنون يفرحون بالمكاسب الروحية من الإيمان والعمل الصالح والقرآن، والتي هي خير من المكاسب المادية والجسدية.   القسم الثاني: فرحٌ في الآخرة، وهو: أ- الفرحُ بالجنَّة ونعيمها؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [آل عمران: 169، 170]، وما لهم لا يفرحون وقد ميَّزهم الله - جل جلاله - بالكثير من المِنَح والعَطايا، فما إنْ يُستشهد المؤمن، حتى تتوالى عليه المنح والعطايا الربانية تترى من لحظة استشهاده حتى استقراره في الجنة؛ فعن المقدام بن معْدِ يكِرب رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((للشَّهيد عند الله ستُّ خصال: يُغفر له في أول دفعةٍ من دمِه، ويُرى مقعده من الجنة، ويُجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويُحلى حلة الإيمان، ويُزوَّج من الحور العين، ويَشفَع في سبعين إنسانًا من أقاربه))[6].   النوع الثاني: فرحٌ سَلبيٌّ مذموم وهو: أ- فرح الكفار بما يُصيب المؤمنين من الشَّرِّ؛ قال تعالى: ﴿ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾ [آل عمران: 120].   فالكفار والمنافقون يستاؤون حين يمسُّ المؤمنين خير؛ من نصر أو غنيمة أو غيرها، وتمسسكم يعني تصيبكم أنْ تنالوها، ولعلها أقل الإصابة، فإنهم يستاؤون لأقل الخير الذي يحصل عليه المؤمنون، أما حين يصيبُ المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم شرٌّ وأذىً، فإنَّ ذلك يفرحهم ويُسعدهم، فيهشّون لذلك ويبشون، جاء في تفسير البحر المحيط: "قال الزمخشري: ثم عادل ذلك في السيئة بلفظ الإصابة، وهي عبارة عن التمكُّن، لأنَّ الشيء المصيب لشيء هو متمكِّن منه، أو فيه، فدل هذا النوع البليغ على شدة العداوة؛ إذ هو حقد لا يذهب عند نزول الشدائد، بل يفرحون بنزول الشدائد بالمؤمنين"[7]، ولأنَّ المؤمنين هم من أحباب الله - جل جلاله - فإنَّ من يفرح بأذاهم فإنَّ الله لا يُحبُّه.   ب- الفرح بالدُّنيا ومكاسبها: وهذا الفرح الذي يُنسي الآخرة ويشغل عنها، وهو فرح الكفار والمنافقين؛ قال تعالى: ﴿ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ ﴾ [الرعد: 26]، وقال تعالى: ﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾ [الأنعام: 44]، جاء في أيسر التفاسير: "﴿ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾؛ أي: فرح أولئك الكافرون بالحياة الدنيا، لجهلهم بمقدارها وعاقبتها وسوء آثارها وما الحياة الدنيا بالنسبة إلى ما أعد الله لأوليائه - وهم أهل الإيمان به وطاعته - إلا متاع قليل كَكَفِّ التمر أو قرص الخبز يُعطاه الراعي غذاء له طول النهار ثم ينفد"[8].   بينما يُحذِّر القرآن الكريم المؤمنينَ من الفرح الذي يؤدي إلى البطر ونسيان حقوق الله - جل جلاله - قال تعالى: ﴿ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [الحديد: 23]، جاء في تفسير الشنقيطي: "ولا تفرَحوا بما آتاكم؛ لأنكم إذا علمتم أنَّ ما كتب لكم من الرزق والخير لا بدَّ أنْ يأتيكم قَلَّ فرحكم به"[9].   ت- الفرح بالشَّر والفساد، بتحريف كلام الله - جل جلاله - وتبديل شرائعه، وهذا الفرح السلبي يخص اليهود أو المنافقين؛ قال تعالى: ﴿ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 188] جاء في أيسر التفاسير: "وقد نزلت هذه الآية في اليهود؛ إذ سألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء في كتابهم، فكتموه وأخبروه بغيره، فخرجوا قد أروه أنهم أخبروه بما سألهم عنه، واستحمَدوه بذلك، وفرحوا بما أَتَوا من كتمان ما سألهم عنه، وقيل: إن هذه الآية نزلت في بعض المنافقين الذين كانوا يتخلَّفون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غَزا، فإذا عاد من الغزو اعتذروا إليه، وحلفوا وأحبوا أن يُحمَدوا بما لم يفعلوا"[10].   ث- الفرح بالتَّخلُّف عن طاعة الله - جل جلاله - وعن الخير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك من أجل تفادي الإصابة بمكروه؛ قال تعالى: ﴿ إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ ﴾ [التوبة: 50]، وقال تعالى: ﴿ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ﴾ [التوبة: 81]، فعن أبي سعيد الخُدري رضي الله عنه "أن رجالاً من المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلَّفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتذروا إليه وحلفوا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فنزلت: ﴿ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا...
﴾ الآية"[11].   ولقد كان فرح قارون من النوع السلبي المذموم، وسار به الفرحُ لمنزلقٍ خطير، هو منزلق الكبر والفخر والعجب، فوقع في براثن هذه الآفات فخسر محبة الله - جل جلاله - التي معها الفوز والنجاة، ولم تسعفه قرابته من موسى عليه السلام، ولم يسعفه كثرة تلاوته للتوراة، لقد ذهب كل ذلك هباءً عندما فرح قارون فرح المغرور المخدوع، فخرج من نطاق محبة الله - جل جلاله - فخسر كل شيء.


[1] المحكم والمحيط الأعظم؛ ابن سيده (3 / 311). [2] انظر: تفسير الكشف والبيان؛ للنيسابوري (7 / 269). [3] تفسير القرآن العظيم؛ ابن كثير (6 / 253). [4] الدر المنثور؛ جلال الدين السيوطي (6 / 479). [5] جامع البيان في تأويل القرآن؛ ابن جرير الطبري (15 / 105). [6] سنن ابن ماجه، باب فضل الشهادة في سبيل الله (2 / 935)، حديث: 2799. [7] تفسير البحر المحيط؛ أبو حيان الأندلسي (3 / 32). [8] أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير؛ أبو بكر الجزائري (3 / 26). [9] أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن؛ محمد الأمين الشنقيطي (7 / 549). [10] أيسر التفاسير؛ أسعد حومد ( 1 / 481). [11] صحيح البخاري، باب: ﴿ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا ﴾ (4 / 1664، حديث: 4291).



شارك الخبر

ساهم - قرآن ١