تدبر القرآن: أهميته وحكمه
مدة
قراءة المادة :
25 دقائق
.
تدبُّر القرآن: أهميَّتُه وحُكْمُهإِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد: فالحديث عن "تدبُّر القرآن: أهميته وحكمه" يُجمَع في ثلاثة أمور:
أولًا: تعريف تدبُّر القرآن:
أ- «التَّدبُّر» لغة: جاء التَّدبُّر في اللُّغة مصدرًا مشتقًّا من الفعل الماضي (تَدَبَّرَ)، وقد ذَكَرَ جماعة من علماء اللُّغة لهذا الفعلِ ومشتقَّاتِه استعمالات عديدة، وسوف نَعْرِضُ للمعاني التي تتعلَّق بموضوع البحث، وهي على النَّحو الآتي:
التَّدبُّر: مصدرٌ فِعْلُه الماضي: تَدَبَّرَ.
وهو فِعلٌ مزيدٌ، اشتُقَّ من الفعل المجرَّد الماضي: دَبَرَ.
ومضارعه: يَدْبُرُ، والمصدر: دَبْرًا ودُبُورًا[1].
ودَبَرَ النَّهارُ أو الصَّيفُ: انْصَرَم، مَضَى وانْقَضَى.
ودَبَرَ الشَّيءَ: جاء بعدَه وخلفَه.
وتدبَّر الأمرَ تدبُّرًا: نَظَرَ في أدباره، أي: عواقبه، وتفكَّر فيه.
والتَّدبُّر: النَّظر في أدبار الأمر.
وهو يعني: التَّأمُّلَ في عواقبه، أو ما يؤول إليه[2].
وتدبَّر الأمرَ: رأى في عاقبتِه ما لم يره في صدره، قال تعالى: ﴿ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ ﴾ [المؤمنون: 68].
أي: ألم يتفهَّموا ما خُوطبوا به في القرآن العظيم[3].
وخلاصة التَّدبُّر - في أصل اللُّغة: هو النَّظر في عاقبة الأمر والتَّفكُّر فيه، بحيث يشمل أواخر دلالات الكَلِمِ ومراميه البعيدة[4].
ب- «تدبُّر القرآن» اصطلاحًا: قال الآلوسي رحمه الله: «وأصل التَّدبُّر: التَّأمُّل في أدبار الأمور وعواقبها، ثمَّ استُعمل في كلِّ تأمُّل، سواء كان نظرًا في حقيقة الشَّيء وأجزائه، أو سوابقه وأسبابه، أو لواحقه وأعقابه»[5].
وقال السِّعدي رحمه الله - في معنى تدبُّر القرآن: «هو التَّأمُّل في معانيه، وتحديق الفِكر فيه، وفي مبادئه، وعواقبه، ولوازم ذلك»[6].
والخلاصة في «معنى تدبُّر القرآن»: تفهُّم معاني ألفاظه، والتَّفكُّر فيما تدلُّ عليه آياته مطابقةً أو ضمنًا، وما لا تتمُّ تلك المعاني إلاَّ به من الإشارات والتَّنبيهات، وانتفاعُ القلب بذلك، بخشوعه عند مواعظه، وخضوعه لأوامره ونواهيه، وأخذ العبرة منه[7].
ثانيًا: أهمية تدبر القرآن:
تبرز أهميَّة تدبُّر القرآن العظيم في أمور كثيرة، يأتي في مقدِّمتها أنَّ تدبُّر القرآن وتفهُّم علومه من النُّصح لكتاب الله تعالى، وقد أشار إلى هذا المعنى أهل العلم، منهم ابن رجب رحمه الله بقوله: «وأمَّا النَّصيحة لكتاب الله: فشِدَّةُ حُبِّه وتعظيمُ قدرِه، إذ هو كلامُ الخالق، وشدَّةُ الرَّغبة في فَهْمِه، وشدَّةُ العناية لتدبُّره، والوقوف عند تلاوته؛ لِطلب معاني ما أحبَّ مولاه أن يفهمه عنه، ويقوم به له بعدَ ما يفهمه.
وكذلك النَّاصح من العباد يتفهَّم وَصِيَّةَ مَنْ ينصحه، وإنْ ورد عليه كتابٌ منه عُني بفَهْمه؛ ليقوم عليه بما كَتَبَ به فيه إليه، فكذلك النَّاصحُ لِكتاب ربِّه يُعنى بفَهْمه؛ ليقوم لله بما أمر به كما يحبُّ ويرضى، ثم يَنْشُرُ ما فهم في العباد، ويُديم دراسته بالمحبَّة له، والتَّخلُّق بأخلاقه، والتأدُّب بآدابه»[8].
وهناك أمور أخرى تُبرز لنا أهميَّة تدبُّر القرآن الكريم، وهي على النَّحو التَّالي:
أ- حاجة القلب إلى تدبُّر القرآن:
القلب فيه وحشة لا تُزال إلاَّ بالأنس بكتاب الله تعالى، والتَّأمُّل في آياته، وفيه قلق وخوف لا يؤمِّنه إلاَّ السُّكون إلى ما بشَّر الله تعالى به عباده، وفيه فاقة لا يغنيها إلاَّ التَّزوُّد من حِكَمِ القرآن ومواعظه وعبره، وفيه حيرة واضطراب لا ينجيه منها إلاَّ الاعتصام بكتاب الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [يونس: 57-58].
وقد حذَّر الله تعالى عباده المؤمنين من مغبَّة التَّمادي في هجر القرآن، فتكون نتيجته قسوةَ القلوب، فقال تعالى: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [الحديد: 16].
قال محمد بن كعب رحمه الله: «كانتِ الصَّحابة بمكَّة مُجْدبين فلمَّا هاجروا أصابوا الرِّيف والنِّعمة، ففتروا عمَّا كانوا فيه، فقست قلوبهم، فوعظهم الله فأفاقوا»[9].
والعتاب لعامَّة المؤمنين أحرى وأولى.
والأصل أنَّ قلوب المؤمنين وجلودَهم تخشع وتخضع وترقُّ وتسكن وتطمئنُّ عند ذكر الله تعالى: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [الزمر: 23].
فمَنْ أراد أن يخشع قلبه، وينشرح صدره، فلا غنى له عن التَّفكُّر والتَّمعُّن في الآيات الكريمات، ولا يكن همُّه - إذا افتتح السُّورة - أن يقول في نفسه: متى أختمها.
قال الآجرِّي رحمه الله: «فالمؤمن العاقل إذا تلا القرآن استعرض القرآن، فكان كالمرآة يرى بها ما حَسُن من فعله وما قَبُحَ فيه، فما حذَّره مولاه حَذَره، وما خوَّفه به من عقابه خافه، وما رغَّب فيه مولاه رَغِبَ فيه ورجاه.
فمن كانت هذه صفته، أو ما قارب هذه الصِّفة فقد تلاه حقَّ تلاوته، ورعاه حقَّ رعايته، وكان له القرآن شاهدًا وشفيعًا وأنيسًا وحِرْزًا، ومن كان هذا وَصْفَه نفع نفسه ونفع أهله، وعاد على والديه وعلى ولده كلُّ خيرٍ في الدُّنيا والآخرة»[10].
و«كان القرآن له شفاءً، فاستغنى بلا مالٍ، وعَزَّ بلا عشيرةٍ، وأنِسَ بما يستوحش منه غيره، وكان همُّه عند التِّلاوة للسُّورة ـ إذا افتتحها: متى أتَّعظ بما أتلوه؟ ولم يكن مراده: متى أختم السُّورة؟ وإنَّما مراده: متى أعقل من الله الخطاب؟ متى أزدجر؟ متى أعتبر؟ لأنَّ تلاوته للقرآن عبادة، والعبادة لا تكون بغفلة»[11].
وقراءة القرآن بالتَّفكُّر هي أصل صلاح القلب واستقامته، ولا شيء أنفع للعبد في معاشه وأقرب إلى نجاته في معاده من تدبُّر القرآن العظيم، وفي هذا الشَّأن يقول ابن القيِّم رحمه الله: «فلا شيءَ أنفعُ للقلب من قراءة القرآن بالتَّدبُّر والتَّفكُّر؛ فإنَّه جامِعٌ لجميعِ منازلِ السَّائرين، وأحوالِ العاملين، ومقامات العارفين، وهو الذي يورث المحبَّةَ والشَّوقَ والخوفَ والرَّجاءَ والإنابة والتَّوكُّل والرِّضا والتَّفويض والشُّكرَ والصَّبرَ، وسائرَ الأحوال التي بها حياةُ القلب وكمالُه، وكذلك يَزْجُرُ عن جميع الصِّفات والأفعال المذمومة التي بها فَسادُ القلبِ وهلاكُه.
فلو عَلِمَ الناسُ ما في قراءة القرآن بالتَّدبُّر، لاشتغلوا بها عن كلِّ ما سواها.
فإذا قرأه بتفكُّرٍ، حتَّى إذا مرَّ بآيةٍ وهو محتاج إليها في شفاءِ قلبه، كَرَّرَها ولو مائةَ مرَّة ولو ليلة، فقراءةُ آيةٍ بتفكُّرٍ وتفهُّمٍ خَيرٌ من قراءةِ ختمةٍ بغيرِ تدبُّرٍ وتفهُّم، وأنفعُ للقلب، وأدعى إلى حصولِ الإيمان وذَوْقِ حَلاوةِ القرآن، فقراءةُ القرآنِ بالتَّفكُّرِ هي أصلُ صَلاحِ القلب»[12].
وأكَّد ذلك في موضع آخر، فقال: «فليس أنفعُ للعبد في معاشه ومعاده، وأقربُ إلى نجاته من تدبُّرِ القرآن، وإطالةِ التَّأمُّل، وجَمْعِ منه الفِكْر على معاني آياته؛ فإنَّها تُطْلِعُ العبدَ على معالم الخير والشَّر، وتُثَبِّتُ قواعدَ الإيمانِ في قلبه، وتشيد بنيانه، وتوطِّد أركانه، وتعطيه قوَّةً في قلبه، وحياةً، وسعةً، وانشراحًا، وبهجةً وسرورًا، فيصير في شأنٍ والنَّاسُ في شأنٍ آخر، وفي تأمُّلِ القرآن وتدبُّرِه أضعافُ أضعاف ما ذكرنا من الحِكَم والفوائد»[13].
ب - الدُّخول فيمَنْ أثنى الله عليهم بتدبُّر القرآن:
أثنى الله عزّ وجل - في مواضع كثيرة من القرآن - على مَنْ تدبَّر كلامه وتأثَّر به، وبيَّن أن ذلك صفةُ عباد الله الخاشعين، ومن هذه المواضع:
1- قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ [الأنفال: 2-4].
ووجه زيادة إيمانهم - عند سماع القرآن: هو أنَّهم ألقوا السَّمع للقرآن، وأحضروا قلوبهم لتدبُّره، فعند ذلك ازداد إيمانهم ويقينهم.
فالتَّدبُّر يُحدث رغبةَ الخير، واشتياقًا إلى كرامة الله تعالى لهم، ووَجَلًا من عقوباته، وزجرًا عن معاصيه، وكلُّ هذا ممَّا يزداد به الإيمان[14].
2- قوله تعالى: ﴿ قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ﴾ [الإسراء: 107-109].
تُبيِّن الآية الكريمة أنَّ الذين أوتوا العلم هم الذين يتأثَّرون عند سماع مواعظ القرآن؛ بسبب تدبُّرهم لآياته، وفيه إشارة إلى أنَّ مَنْ لم يتأثَّر بالقرآن فهو جاهل لا يستحق وصف العلم.
وكَرَّرَ ذِكْرَ الخرور للأذقان؛ لاختلاف السَّبب: فالأوَّل: لتعظيم الله تعالى وتنزيهه.
والثَّاني: للبكاء بتأثير مواعظ القرآن في قلوبهم، وزيادة خشوعهم[15].
3- قوله تعالى: ﴿ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ﴾ [مريم: 58].
قال القرطبي رحمه الله: «فكانت حالهم (أي: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأصحابه رضي الله عنهم) عند المواعظ: الفهم عن الله، والبكاء خوفًا من الله؛ ولذلك وَصَفَ الله أحوال أهل المعرفة عند سماع ذكر الله وتلاوة كتابه فقال: ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [المائدة: 83]، فهذا وَصْفُ حالهم، وحكاية مقالهم، ومَنْ لم يكن كذلك، فليس على هديهم ولا على طريقتهم، فمَنْ كان مستنًّا فلْيَسْتن»[16].
ج- عدم التَّعرُّض إلى الذَّمِّ لترك التَّدبُّر:
فقد ذمَّ الله تعالى حال مَنْ هجر تدبُّر القرآن، ولم يفقه الآيات، ولم يدَّبَّرِ القول في صيغ مختلفة، وأحوال متنوِّعة، ومنها:
1- قوله تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ﴾ [النساء: 82]، [محمد: 24].
قال القرطبي رحمه الله: «عاب المنافقين بالإعراض عن التَّدبُّر في القرآن، والتَّفكُّر فيه، وفي معانيه»[17].
وزاد الشَّنقيطي رحمه الله الأمر بيانًا، بقوله: «ما تضمَّنته الآية الكريمة من التَّوبيخ والإنكار على مَنْ أعرض عن كتاب الله؛ جاء موضَّحًا في آيات كثيرة.
ومعلوم أنَّ كُلَّ مَنْ لم يشتغل بتدبُّر آيات هذا القرآن العظيم - أي تصفُّحها وتفهُّمها، وإدراك معانيها، والعمل بها - فإنَّه مُعْرِض عنها، غَيرُ متدبِّر لها، فيستحقُّ الإنكارَ والتَّوبيخَ المذكورَ في الآيات - إنْ كان الله أعطاه فَهْمًا يَقْدِرُ به على التَّدبُّر.
وهذه الآيات المذكورة تدلُّ على أنَّ تدبُّر القرآن وتفهُّمه، وتعلُّمه، والعمل به أمر لا بدَّ منه للمسلمين.
فإعراض كثير من الأقطار عن النَّظرِ في كتاب الله وتفهُّمه، والعملِ به، وبالسُّنَّةِ الثَّابتة المبيِّنة له، من أعظم المناكِرِ وأشنعها»[18].
2- قوله تعالى: ﴿ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ ﴾ [المؤمنون: 68].
أنكر الله تعالى على الكفار عدمَ تفكُّرِهم في القرآن، وتأمُّلِهم في مواعظه وعبره، وتدبُّرِهم لآياته.
فإنَّهم لو تدبَّروه لأوجب لهم الإيمان، ولمنعهم من الكفر، ولكنَّ المصيبة التي أصابتهم هو إعراضهم عن تدبُّر القرآن.
وهذا يدلُّ على أنَّ تدبُّر القرآن يدعو إلى كلِّ خير، ويعصم من كلِّ شر[19].
3- قوله تعالى: ﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ﴾ [الفرقان: 30].
قال ابن كثير رحمه الله: «وترك تدبُّره وتفهُّمه من هجرانه»[20].
وقال ابن القيِّم رحمه الله: «هجر القرآن أنواع - ثمَّ ذَكَرَ منها - هجر تدبُّره وتفهُّمه ومعرفة ما أراد المتكلِّم به»[21].
4- مَثَّلَ اللهُ تعالى اليهود مع التَّوراة أقبح تمثيلٍ، فقال تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الجمعة: 5].
قال أبو بكر الطُّرطوشي رحمه الله: «فدخل في عموم هذا مَنْ يحفظ القرآن من أهل ملَّتنا، ثمَّ لا يفهمه، ولا يعمل به»[22].
5- جاء في وصف الخوارج؛ قوله صلّى الله عليه وسلّم: «يَقْرَؤُونَ القُرآنَ لا يُجَاوِزُ حُلُوقَهُمْ، أو حَنَاجِرَهُمْ»[23].
قال النَّووي رحمه الله - في المراد بذلك: «ليس حظُّهم من القرآن إلاَّ مروره على اللِّسان، فلا يجاوز تراقيهم ليصل قلوبهم، وليس ذلك هو المطلوب، بل المطلوب تعقُّله وتدبُّره بوقوعه في القلب»[24].
والتَّعقُّل والتَّدبُّر يقود إلى العمل.
وقال الزَّركشي رحمه الله: «ذمَّهم بإحكام ألفاظِه، وتركِ التَّفهُّم لمعانيه»[25].
6- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «لا تَهُذُّوهُ (القرآن) هَذَّ الشِّعْرِ، ولا تنثروه نَثْرَ الدَّقل؛ قِفُوا عند عجائبه، وحرِّكوا به القلوبَ، ولا يكن هَمُّ أحدِكم آخِرَ السُّورة»[26].
7- عن أبي جَمْرَةَ رحمه الله، قال: «قلتُ لابن عبَّاسٍ: إنِّي سريعُ القراءة، وإنِّي أقرأُ القرآنَ في ثلاثٍ، فقال: لأَنْ أقرأَ البَقَرَةَ في ليلةٍ فَأَدَّبَّرَهَا وأُرتِّلَهَا؛ أحبُّ إليَّ من أن أقرأَ كما تقول»[27].
ثالثًا: حُكْم تدبُّر القرآن:
أوجب الله تعالى التَّدبُّر والتَّفكُّر وإمعان النَّظر؛ لفهم معاني آيات الكتاب العزيز، وعاب على المنافقين إعراضهم عن تدبُّر القرآن والتَّفكُّر فيه وفي معانيه في عدَّة مواضع من القرآن، ومنها:
1- قوله تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82].
2- قوله تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24].
3- قوله تعالى: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29].
إطباق المفسِّرين على وجوب تدبُّر القرآن:
دلَّت هذه الآيات - وما في معناها - على وجوب تدبُّر القرآن العظيم، وقد أطبق على ذلك جمهور المفسِّرين، وهذه بعض النُّقول الواردة عنهم في هذا الشَّأن:
• قال الطبري رحمه الله: «في حَثِّ اللهِ عزّ وجل عباده على الاعتبار بما في آي القرآن من المواعظ والبيِّنات.
ما يدلُّ على أنَّ عليهم معرفةَ تأويل ما لم يُحْجَبْ عنهم تأويله من آيِهِ؛ لأنَّه محالٌ أنْ يُقال لمن لا يَفهمُ ما يقالُ، ولا يَعقلُ تأويلَه: اعتبرْ بما لا فَهْمَ لك به.
إلاَّ على معنى الأمر، بأنْ يفهمه ويفقهه، ثم يتدبَّره ويعتبر به»[28].
• واستنبط القرطبي رحمه الله - من قوله تعالى: ﴿ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ ﴾ وجوب معرفة معاني القرآن[29].
وقال رحمه الله: «ودلَّ قولُه تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ﴾ على وجوب التَّدبُّر في القرآن؛ لِيُعْرَفَ معناه»[30].
• وقال ابن عطيَّة الأندلسي رحمه الله في قوله تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ﴾ «وهذا أمرٌ بالنَّظر والاستدلال»[31].
• وقال أبو السُّعود رحمه الله: «إنكارٌ واستقباح؛ لعدم تدبُّرهم القرآن، وإعراضهم عن التَّأمُّل فيما فيه من موجبات الإيمان»[32].
• وقال الشَّوكاني رحمه الله: «ودلَّت هذه الآية، وقولُه تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ على وجوب التَّدبُّر للقرآن؛ لِيُعْرَفَ معناه، والمعنى: أنَّهم لو تدبَّروه حقَّ تدبُّره لَوَجدوه مؤتلِفًا غير مختلف، صحيحَ المعاني، قويَّ المباني، بالغًا في البلاغة إلى أعلى درجاتها»[33].
• وقال السُّيوطي رحمه الله: «وتدبُّر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن، وأيضًا: فالعادة تمنع أن يقرأ قوم كتابًا في فنٍّ من العلم؛ كالطِّبِّ والحساب، ولا يستشرحونه، فكيف بكلام الله الذي هو عصمتهم، وبه نجاتهم وسعادتهم، وقيام دينهم ودنياهم»[34].
• وقال الزَّركشي رحمه الله: «وبالجملة؛ فالقرآن كلُّه لم يُنزله تعالى إلاَّ لِيُفْهِمَه، ويُعْلَمَ ويُفْهَمَ، ولذلك خاطب به أُولي الألباب الذين يعقلون، والذين يعلمون، والذين يفقهون، والذين يتفكَّرون»[35].
ومع هذه الكثرة الكاثرة من النُّصوص الآمرة بتدبُّر القرآن العظيم؛ والتَّفكُّر في معانيه، وإمعان النَّظر فيه، والنَّاهية عن الإعراض عنه، وكذلك النُّقول الواردة عن علماء التَّفسير في وجوب تدبُّر القرآن، نجد أنَّ غالب المسلمين اليوم قد اكتفوا: بألفاظ يردِّدونها، وأنغام يُلحِّنونها في المآتم والمقابر والدُّور، وبمصاحفَ يحملونها أو يودعونها تَرِكَةً في البيوت، ونسوا أو تناسوا: أنَّ بركة القرآن العظمى إنَّما هي في تدبُّر آياته وتفهُّمها، والتَّأدُّب بها، والوقوف عند أوامرها، والبعد عن نواهيها ومساخطها[36].
[1] انظر: معجم مقاييس اللغة (1/ 431)، مادة: (دَبَرَ).
[2] انظر: مختار الصحاح (ص101)، مادة: (دبر)؛ لسان العرب (4/ 280)، مادة: (دبر).
[3] انظر: القاموس المحيط (ص499)، مادة: (دبر).
[4] انظر: تفسير القرطبي (5/ 290)؛ تفسير الطبري (1/ 87).
[5] روح المعاني (5/ 92).
[6] تفسير السعدي (1/ 189).
[7] انظر: تفسير ابن كثير (1/ 501)؛ التبيان في أقسام القرآن، لابن القيم (ص145)؛ القواعد الحسان لتفسير القرآن، للسعدي (ص32)؛ تدبر القرآن، لسليمان بن عمر السنيدي (ص11).
[8] جامع العلوم والحكم (1/ 209).
[9] تفسير القرطبي (17/ 250)؛ تفسير الثعالبي (9/ 241).
[10] أخلاق حملة القرآن (ص39-40).
[11] المصدر نفسه (ص18-19).
[12] مفتاح دار السعادة (1/ 187).
[13] مدارج السالكين (1/ 451-453) باختصار.
[14] انظر: تفسير السعدي (2/ 188).
[15] انظر: التحرير والتنوير (14/ 184).
[16] تفسير القرطبي (7/ 366).
[17] المصدر نفسه (5/ 290).
[18] أضواء البيان (7/ 257) باختصار.
[19] انظر: التحرير والتنوير (18/ 71)؛ تفسير السعدي (5/ 365).
[20] تفسير ابن كثير (6/ 120).
[21] الفوائد (ص123) بتصرف واختصار.
[22] الحوادث والبدع (ص101).
[23] رواه البخاري، (4/ 2164) (ح6931).
[24] صحيح مسلم بشرح النووي (6/ 105).
[25] البرهان في علوم القرآن (1/ 455).
[26] رواه البغوي في «تفسيره» (4/ 407)؛ والآجرِّي في «أخلاق حملة القرآن» (ص19) (رقم 1)؛ وابن أبي شيبة في «مصنفه» (2/ 256) (رقم 8733)؛ وأورده ابن كثير في «تفسيره» (4/ 435)؛ والسيوطي في «الإتقان» (1/ 282).
[27] رواه ابن كثير في «فضائل القرآن» (ص236)، وقال محقِّقه (أبو إسحاق الحويني): «إسناده صحيح».
ورواه أبو عبيد في «فضائل القرآن» (ص74)؛ والآجرِّي في «أخلاق حملة القرآن» (ص89).
[28] تفسير الطبري (1/ 45) باختصار.
[29] انظر: تفسير القرطبي (15/ 192)؛ أضواء البيان (7/ 428).
[30] تفسير القرطبي (5/ 290).
وانظر: تفسير ابن كثير (1/ 503) (4/ 180)؛ تفسير السعدي (1/ 189).
[31] تفسير ابن عطية (2/ 83).
وانظر: التسهيل لعلوم التنزيل (1/ 149).
[32] تفسير أبي السعود (2/ 207).
وانظر: فتح القدير (5/ 38).
[33] فتح القدير (1/ 491).
[34] الإتقان في علوم القرآن (2/ 469).
[35] البرهان في علوم القرآن (2/ 145).
[36] انظر: مناهل العرفان في علوم القرآن (2/ 8).